الرئيسيةأخبارمقالة: من “تاغنجا” إلى “لابوبو” من المخيال الجماعي المشترك إلى الفردانية

مقالة: من “تاغنجا” إلى “لابوبو” من المخيال الجماعي المشترك إلى الفردانية

دمية لابوبو

في زمن يفيض بالأشياء، ويجوع إلى المعنى، تبرز دميةٌ صغيرة غريبة تُدعى لابوبو (Labubu)،فترتّب الفوضى بصمتها، وتُخفي هشاشة عصرنا بابتسامتها المائلة.
ليست دمية للأطفال كما قد يبدو، بل قطعة فنية موجّهة للكبار، تغزو الأسواق والمعارض، وتُباع في مزادات بأثمان خيالية، فيما يتهافت عشّاقها من هونغ كونغ إلى باريس، ومن نيويورك إلى الدار البيضاء. هذه “الوحش الظريف” ابتكره الفنان كاسينغ لونغ(هونغ كونغ)، وتوزّعه شركة بوب مارت الصينية تحت سلسلة الوحوش المستوحاة من الأساطير الاسكندنافية، لكن المفارقة أن هذه الدمية لا تسرد حكاية، ولا تؤدّي وظيفة، بل تُعرض فقط، تُلتقط صورها، وتُحب بقدر ما تُثير من التباس. فما الذي يجعل ملايين الكبار يقعون في غرام دمية لا تنتمي لأيّ تصنيف مألوف؟

الجمال المربك:

دمية ليست كما تبدو تشبه لابوبو مزيجاً من مخلوق أسطوري وحيوان صغير، بأذنين طويلتين وعينين مستديرتين، وابتسامة تحمل شيئًا من الحنان والسخرية في آنٍ واحد. هي ليست جميلة ولا قبيحة، لا مُسلية ولا حزينة، لكنها تحتل مساحة في الوجدان المعاصر، كأنها مرآة تعكس هشاشة زمن لم يعُد يؤمن بالمعنى، بل يلهث وراء الإحساس اللحظي. وليست لابوبو، في بعدها الرمزي، بعيدة عن السياق الثقافي المغربي.

الثقافة الأمازيغية:

فعبر تاريخ المغرب، خاصة في الثقافة الأمازيغية، احتلّت الدمى مكانة رمزية، سواء في الاحتفالات أو الطقوس الانتقالية. نذكر مثلاً “تاغنجا” أو “تمغرا ن تسليت” (عرس العروسة)، حيث تُزيَّن ملعقة كبيرة على شكل دمية يدوية الصنع بلباس العروس وتُقدَّم في مواسم الخصوبة، أو لطلب المطر ولها أسماء متعددة لدُمى الأطفال المصنوعة من الصوف أو الخشب، والتي تعكس صورًا من الواقع المحلي، وتُنقَل من خلالها العادات والتقاليد شفهيًا.
هذه الدمى التقليدية، التي تحمل رمزية طقسية وتربوية، تختلف عن لابوبو، لكنها تشاركها في كونها أكثر من مجرد لعبة: هي رمز، وذاكرة، وصدى لحاجة الإنسان إلى المعنى.

"تاغنجا" أو "تمغرا ن تسليت" (عرس العروسة)
“تاغنجا” أو “تمغرا ن تسليت” (عرس العروسة)

لعبة الكبار في زمن مسطّح ما يثير الانتباه في لابوبو أنها لا تُلعب، بل تُجمَع، وتُعرض على الرفوف وفي الصور كأنها طوطم عصري. وكأننا عدنا إلى حاجة الإنسان القديم لتمثال صغير يحميه من الفراغ، يُرافقه، أو يملأ صمتًا ما.
لكن هنا المفارقة: لابوبو لا تملأ الفراغ، بل تؤكّده، تزيّنه، وتُخفيه بألوانها البراقة. يقول البعض إنها تسكن الصمت، وتُسكت التفكير، وتُشغل الحواس بما لا يُشبع.
يُذكّرنا هذا بما وصفه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بـ”نزع السحر عن العالم”، أي اختفاء الغموض، والمقدّس، والرمزية، لصالح عالم عقلاني، مادي، نافعي.
بينما يرى الفيلسوف الإيراني الفرنسي داريوش شايغان أن الإنسان المعاصر يعيش في “عالم مسطّح”، بلا أسرار، منزوع التأويل. في هذا الفراغ الذي لا يُطاق، تنبثق دمية كـلابوبو كبديل عن الغيب: كائن طريف، رقيق ومُقلق، يوهمك بأنه يُطمئن، لكنه يذكّرك ضمنيًا بأن شيئًا ما ناقص. من “تاغنجا” إلى “لابوبو”: ما الذي تغيّر؟

الدمى المغربية، مثل تلك المصنوعة يدويًا في القرى الأمازيغية، كانت دائمًا تعبيرًا عن روح جماعية. كانت تُصنع من بقايا القماش أو الخشب، وتُغنّى لها الأغاني، وتُشارك في الحكايات الشعبية، لتُحاكي الحياة، وتُعلّم الأطفال عن الأسرة والمجتمع والدورة الزراعية. أما لابوبو، فهي كائن “ما بعد حداثي”، لا تنتمي إلى الجماعة، بل إلى الفرد، ولا تُحاكي الواقع، بل تُشوّشه، دمية لا تُربّي، بل تُشتّت.

الحساسية العاطفية

لكنّ ما يجمع بين دمى الأمس واليوم، هو الحساسية العاطفية: الحاجة إلى شيء ملموس يحمل غموضاً، يسكن الذاكرة، ويقول ما لا نستطيع قوله. وقد تكون لابوبو اليوم، في وجه من وجوهها، تعبيراً عن “حزن مزركش”، “كآبة لطيفة”، أو حتى “رعب منزلي” كما وصفها البعض.
هي الأمل المُصنَّع، والطمأنينة المؤقتة، في عالم لم يعد يؤمن بالأساطير لكنه يفتقدها. خاتمة: عن الحاجة إلى طوطم جديد في النهاية، تفتح لابوبو نقاشاً ثقافياً وفلسفياً عميقاً حول التحولات الجمالية في زمن ما بعد الحقيقة، حيث نشتري الخواء على هيئة دمية، ونُزيّن القلق ببلاستيك ملوّن.

فهل نحن فعلاً أمام لعبة؟ أم أمام رمزٍ جديد لزمن مُشوَّش؟ وهل يمكن لمجتمعات مثل المغرب، ذات الإرث الرمزي العريق في الحكي والدمى، أن تُعيد التفكير في دور هذا الموروث كأداة مقاومة للفراغ الثقافي؟ لابوبو ليست فقط ظاهرة استهلاكية عابرة، بل مؤشر على حاجة الإنسان المعاصر إلى إعادة اختراع رموزه، حتى ولو في هيئة وحش صغير يبتسم من الرفّ بصمت.

منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

مقالات و دراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *