انطلقت مساء الأربعاء 21 ماي 2025 بمدينة مراكش، فعاليات الدورة الخامسة عشرة للمعرض الجهوي للكتاب، وسط أجواء ثقافية احتفالية، وبحضور نخبة من الفاعلين في مجالات الأدب والفكر والفن، إلى جانب مسؤولين وممثلين عن المؤسسات الجامعية والمدنية، ومهتمين بالشأن الثقافي من مختلف أنحاء جهة مراكش آسفي.
ويُقام هذا الحدث الثقافي السنوي في فضاء ساحة الكتبيين التاريخية، التي تحتضن هذه التظاهرة على مدى أسبوع كامل، إلى غاية 27 ماي الجاري، تحت شعار: “محلة الكتاب .. الذاكرة والحضور”. وهو شعار يستلهم رمزيته من مكانة الكتاب كعنصر محوري في تشكيل الوعي الجمعي، ومن دلالة الساحة نفسها، التي كانت لقرون مركزًا لبيع الكتب وصناعتها وتداول المعرفة.
أكثر من مجرد معرض… رؤية ثقافية متكاملة
ينظم هذا المعرض من طرف المديرية الجهوية للثقافة بجهة مراكش – آسفي، وبتنسيق وشراكات مؤسسية مع ولاية الجهة، والمديرية الجهوية للتواصل، والمجلس الجماعي لمراكش، وجامعة القاضي عياض، والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، ودار الشعر بمراكش، ما يعكس حجم الانخراط الجماعي والمؤسساتي في دعم الثقافة ونشر الكتاب.
وفي تصريح خلال الافتتاح، أوضحت أسماء لقماني، المديرة الجهوية للثقافة، أن المعرض لا يكتفي بدوره التقليدي كفضاء لترويج الكتب والإصدارات الجديدة، بل يسعى إلى الانفتاح على محيطه السوسيو-ثقافي، من خلال إشراك الجامعات، والجمعيات الثقافية، والمبدعين المحليين في الدينامية العامة للحدث، مما يخلق فسحة حوار وتفاعل بين المبدع والجمهور.
كما أكدت لقماني أن اختيار ساحة الكتبيين كموقع للمعرض ليس اعتباطيًا، بل هو فعل ذاكرة واعتراف بتاريخ هذه الساحة التي شكلت، لعقود طويلة، سوقًا نابضة لبيع الكتب ومهنها التقليدية المرتبطة بها، من نسخ وتذهيب وتسفير، مبرزة أهمية استعادة هذه الحمولة الرمزية في زمن تشهد فيه الثقافة الرقمية تطورًا متسارعًا.
حضور مميز لدور النشر والمؤسسات
تشهد الدورة الحالية مشاركة أزيد من 27 دار نشر وطنية، تعرض إصداراتها الجديدة في مجالات الأدب والفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة إلى كتب الأطفال، والفنون، والترجمة، وغيرها من التخصصات التي تعكس تنوع الحراك الثقافي المغربي.
كما يحضر 12 عارضًا يمثلون مؤسسات وهيئات عمومية ومدنية مهتمة بمجال الكتاب والنشر، في مقدمتها المؤسسات الجامعية والثقافية والتربوية، وهي مشاركة تضفي بعدًا تشاركيًا على المعرض، وترسخ التكامل بين قطاع الثقافة والقطاعات الأخرى ذات الصلة.
تكريم رموز من أهل الفكر والبحث الأكاديمي
تميز حفل الافتتاح بتكريم ثلاثة باحثين وأساتذة جامعيين من جهة مراكش – آسفي، ممن تميزوا مؤخرًا على المستوى الوطني والعربي، حيث تم الاحتفاء بكل من:
-
هشام ركيك وسمير أيت أومغار، أستاذا شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، واللذان نالا جائزة المغرب للكتاب سنة 2024 في فرع العلوم الإنسانية.
-
سعيد العوادي، الباحث المغربي الذي توج بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها التاسعة عشرة، عن فرع الفنون والدراسات النقدية.
ويأتي هذا التكريم في سياق الاعتراف بجهود البحث الأكاديمي الجاد، وتشجيع الباحثين على مواصلة الإسهام في إغناء الحقول المعرفية، وربط الجامعة بالفضاء العمومي.
برنامج ثقافي غني ومتعدد الأبعاد
خصصت المديرية الجهوية للثقافة برنامجًا ثقافيًا متنوعًا يواكب فعاليات المعرض، ويشمل:
-
جلسات توقيع إصدارات جديدة لعدد من الكتاب والمؤلفين المنتمين للجهة.
-
قراءات شعرية ولقاءات أدبية مع نقاد وباحثين معروفين.
-
عروض فنية موسيقية مرافقة.
-
حوارات تفاعلية تجمع الجمهور بالمبدعين في فضاء مفتوح.
ويهدف هذا البرنامج إلى خلق حركية ثقافية حقيقية، تجعل من المعرض فرصة لتقريب الكاتب من القارئ، وتفتح المجال أمام الحوار حول قضايا الفكر والإبداع في الزمن الراهن.
أربع ندوات فكرية كبرى تسائل قضايا الثقافة اليوم
ستحتضن الدورة الحالية أربع ندوات فكرية كبرى، تناقش رهانات الثقافة في السياق المعاصر، وهي:
-
الفنون في زمن الذكاء الاصطناعي: تسائل هذه الندوة مستقبل الإبداع الفني أمام التحديات التي تفرضها التحولات التكنولوجية المتسارعة.
-
الحقوق الثقافية بين القانون والممارسة: تقارب إشكالية الحقوق الثقافية كجزء من حقوق الإنسان، وتطرح أسئلة العدالة الثقافية والوصول المنصف إلى الإنتاج الرمزي.
-
الإعلام وقضايا التنمية الثقافية: تبحث العلاقة بين الفعل الإعلامي والمجال الثقافي، ودور الإعلام في تثمين الإنتاج الثقافي وتوسيعه.
-
الفلسفة والجامعة المغربية: مائدة مستديرة تفتح النقاش حول موقع الفلسفة في منظومة التعليم العالي، وإشكالات تدريسها ومكانتها في المجتمع.
المعرض الجهوي للكتاب… موعد سنوي لترسيخ ثقافة القراءة
تسعى وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة – من خلال تنظيم هذا المعرض، إلى جعل الكتاب أكثر قربًا من عموم المواطنين، وخاصة فئات الأطفال والشباب، في إطار استراتيجية تروم دعم القراءة العمومية وتيسير الولوج إلى المعرفة.
وقد أصبح المعرض، منذ انطلاقه قبل خمسة عشر عامًا، موعدًا قارًا في الأجندة الثقافية لجهة مراكش – آسفي، وفضاءً للاحتفاء بالكتاب كوسيلة للارتقاء بالوعي الفردي والجماعي، ومناسبة لتثمين الإنتاجات الفكرية والأدبية، وتكريس تقاليد القراءة والمطالعة في الفضاءات العمومية.
الكتاب في زمن الرقمنة: تحديات وآفاق
لا يمكن الحديث عن تنظيم معرض للكتاب في القرن الواحد والعشرين دون التوقف عند التحديات التي تواجه صناعة النشر في ظل التحولات الرقمية. ورغم الحضور المتزايد للكتاب الإلكتروني والمنصات الرقمية، فإن هذا المعرض يعكس استمرار الحاجة إلى الكتاب الورقي كوسيلة للتماس الحسي مع المعرفة، والاعتراف بقيمته الرمزية في الثقافة المغربية.
كما يشكل المعرض فرصة لطرح الأسئلة المتعلقة بمستقبل صناعة النشر، وتموقع دور النشر المغربية في السوق الوطنية والعربية، ومكانة الكِتاب المغربي في السياقات العالمية.
ساحة الكتبيين… من رمزية المكان إلى فعل الثقافة
يكتسب هذا المعرض بعدًا مكانيًا خاصًا من خلال تنظيمه في ساحة الكتبيين، التي ليست مجرد ساحة مفتوحة، بل فضاء تاريخي ارتبط اسمه منذ القدم بالكتاب ومهنته. وهي ساحة تقع قرب معالم تاريخية بارزة كمئذنة الكتبية وساحة جامع الفنا، مما يمنح المعرض حيوية سياحية وثقافية في الآن ذاته.
من خلال اختيار هذا الموقع، تؤكد المديرية الجهوية للثقافة على أهمية استعادة الفضاءات العمومية لصالح الثقافة، وإعادة الاعتبار لرمزية المكان في خدمة الكلمة، وجعل الثقافة جزءًا من الحياة اليومية للمواطن.
في المحصلة، يثبت المعرض الجهوي للكتاب بمراكش، في دورته الخامسة عشرة، أنه أكثر من مجرد حدث لبيع الكتب، بل هو محفل ثقافي شامل يعكس حيوية الساحة الثقافية الجهوية، ويكرس التفاعل بين الكتاب وجمهوره، في فضاء يحتضن الماضي ويستشرف المستقبل.
طنجة الأدبية