الرئيسيةأخبارمقالة: بانو مشتاق… صوت النساء المسلمات في جنوب الهند يُتوّج بجائزة البوكر الدولية

مقالة: بانو مشتاق… صوت النساء المسلمات في جنوب الهند يُتوّج بجائزة البوكر الدولية

بانو وهي تقف على منصة التتويج في حفل جائزة البوكر 2025 بلندن، تمسك بالدرع

في لحظة أدبية استثنائية، حازت الكاتبة والناشطة الهندية بانو مشتاق على جائزة البوكر الأدبية الدولية لعام 2025 عن مجموعتها القصصية “Heart Lamp” (مصباح القلب)، التي تسلّط الضوء على الحياة اليومية للنساء المسلمات في جنوب الهند، في بيئة ثقافية واجتماعية معقّدة. لا تقتصر أهمية هذا الفوز على قيمته الأدبية، بل يتعداها ليكون تتويجًا لنضال طويل ضد التهميش والرقابة، ولمسيرة كاتبة تحدّت القيود المفروضة على الكتابة النسوية في المجتمعات المحافظة.

غلاف المجموعة القصصية "Heart Lamp"
غلاف المجموعة القصصية “Heart Lamp”

صوتٌ نسائي في عتمة الصمت

بانو مشتاق، الكاتبة المولودة في ولاية كيرالا جنوب الهند في أوائل السبعينيات، هي واحدة من أبرز الأصوات النسوية في الأدب الهندي الحديث، وخصوصًا في التعبير عن معاناة النساء المسلمات داخل السياقات الثقافية والدينية المتعددة والمعقدة للهند. بدأت مسيرتها الأدبية في تسعينيات القرن الماضي، حيث نشرت أولى قصصها في المجلات المحلية، لتتحول لاحقًا إلى أحد الأعمدة الأدبية النسوية في الهند.

المجموعة الفائزة، “مصباح القلب”، تضم أكثر من ثلاثين قصة قصيرة كُتبت ونُشرت على مدى ثلاثة عقود (1990 – 2023). وتمثّل كل قصة منها مرآة لحياة امرأة مسلمة تواجه تحديات يومية تتراوح بين القهر المجتمعي والتمييز الطبقي والديني، وصولًا إلى قضايا الحرية الفردية والجسد والانتماء.

الرقابة… الجائزة التي لم تُمنح محليًا

بحسب بيان لجنة جائزة البوكر الدولية، فإن “Heart Lamp” تعرّضت للرقابة في العديد من المناسبات، حيث امتنعت بعض دور النشر عن توزيعه، ورفضت عدة جوائز أدبية كبرى في الهند إدراج المجموعة ضمن قوائمها القصيرة. ويرجع ذلك، بحسب نقّاد، إلى حساسية الموضوعات التي تتناولها بانو، والتي تمسّ البنية الاجتماعية والدينية المحافظة، لا سيما في البيئات التي يُنظر فيها إلى الكتابة النسائية على أنها خروج عن الأعراف والتقاليد.

في أحد اللقاءات الصحفية السابقة، صرّحت الكاتبة:

“لم أكتب لأُرضي الجوائز، بل لأُعطي صوتًا لمن لا يُسمح لهنّ بالكلام.”

وهي عبارة تلخّص فلسفة أدبها المقاوم، وموقفها الرافض للرقابة الذاتية أو المؤسسية.

ما الذي يميّز “مصباح القلب”؟

من الناحية الأدبية، تعتمد بانو مشتاق أسلوبًا سرديًا بسيطًا، لكنه محمّل بالإيحاءات والرمزية. تتخذ من تفاصيل الحياة اليومية خلفية للكشف عن تناقضات المجتمع، دون اللجوء إلى الخطابة أو الطرح المباشر. تُصوَّر البطلات في قصصها باعتبارهن نساءً عاديات: ربّات بيوت، خيّاطات، عاملات في المدارس أو المستشفيات، ولكنهن جميعًا يحملن بداخلهن نار السؤال والرفض والتوق إلى الحرية.

القصة التي تحمل اسم المجموعة، “Heart Lamp”، تحكي عن امرأة مسلمة تعيش في قرية نائية، تُجبَر على الزواج المبكر، ثم تُقصى من الحياة العامة باسم الدين والشرف. لكنها تبدأ سرًا في تعليم الفتيات، وتحوّل منزلها إلى “مصباح” في الظلام. ومن هذه الاستعارة تشتق الكاتبة رؤيتها للعالم: الإضاءة من الداخل، وسط واقعٍ مُعتم.

البوكر الدولية: اعتراف عالمي بأدب المهمّشين

جائزة البوكر الأدبية الدولية، التي أصبحت تُمنح سنويًا منذ عام 2016، تُكرّس كأحد أهم الجوائز الأدبية في العالم للكتب المُترجمة إلى الإنجليزية. وهي تُسلّط الضوء على الأدب العالمي خارج نطاق التيارات التقليدية، وتحتفي بالأصوات القادمة من الهوامش الثقافية والسياسية.

فوز “Heart Lamp” ليس فقط تتويجًا لبانو مشتاق، بل هو احتفاء بالأدب النسوي في جنوب آسيا، واعتراف بالدور المهمّ الذي تلعبه الكتابة في مقاومة التهميش والإقصاء.

بين الأدب والنشاط الحقوقي

بانو ليست كاتبة فقط، بل ناشطة نسوية وحقوقية معروفة في كيرالا. شاركت في تأسيس عدد من الجمعيات التي تُعنى بحقوق النساء المسلمات، وتدافع عن حقهن في التعليم والعمل وتقرير المصير. وسبق أن تعرّضت لحملات تشويه من بعض الجماعات المحافظة، بسبب آرائها الجريئة ودفاعها العلني عن النساء ضحايا العنف الأسري والزواج القسري.

في عام 2019، أُدرج اسمها ضمن قائمة أكثر الشخصيات تأثيرًا في جنوب آسيا، بحسب مجلة “Asia Women Voices”، ليس فقط لأعمالها الأدبية، بل أيضًا لنشاطها الميداني.

صدام مع التقاليد… وتمثيل دقيق للهوية

أحد أبرز ملامح أعمال بانو هو قدرتها على ملامسة مناطق معقدة من الهوية الدينية والثقافية، دون السقوط في فخ التعميم أو الإساءة. شخصياتها لا تُمثّل نماذج جاهزة، بل كائنات بشرية من لحم ودم، تتصارع داخليًا مع معتقداتها ومحيطها وتاريخها الشخصي.

وقد كتبت إحدى الناقدات في مجلة The Hindu:

“قصص بانو تضع القارئ في مواجهة مع أسئلته، أكثر من كونها تمنحه أجوبة. وهذا هو جوهر الأدب الحقيقي.”

ردود الأفعال… فرح وذهول وتحفّظ

أثار فوز بانو مشتاق تفاعلًا واسعًا في الأوساط الأدبية داخل الهند وخارجها. فقد اعتبره البعض لحظة تصحيح تاريخي لمسار طويل من الإقصاء، بينما عبّر آخرون عن تحفظهم، بحجة أن أعمالها “تهدف إلى إثارة الجدل أكثر من تقديم الأدب”.

أما المنظمات الحقوقية النسوية، فقد اعتبرت الجائزة انتصارًا للأدب النسوي الذي طالما حُرم من التقدير داخل السياقات الأدبية الذكورية.

من جهتها، قالت بانو في خطابها خلال حفل استلام الجائزة بلندن:

“هذه الجائزة لا تخصني وحدي، بل تعود لكل امرأة قيل لها: اصمتي.”

خاتمة: مصباحٌ في العتمة العالمية

في زمن تتصاعد فيه النزعات المحافظة، وتُمارَس فيه الرقابة على حرية التعبير، تأتي “Heart Lamp” كعمل أدبي يُضيء ما يُراد له أن يظل في الظل. ويؤكد فوز بانو مشتاق أن الأدب ليس مجرّد كتابة، بل شهادة على الحياة، ومقاومة صامتة في وجه النسيان والطمس.

إن جائزة البوكر لم تكرّم كاتبة فقط، بل كرّمت قضيّة، ومسيرة، وجرأة أدبية لا تُهادن. وبهذا المعنى، فإن “Heart Lamp” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل وثيقة أدبية وحقوقية، تتجاوز حدود اللغة والدين والجغرافيا.

طنجة الأدبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *