سيقربنا،هذا الحوار، من رضوان، ونكتشف ما في داخله من “ريف” أصيل يخزنه في ذاته، معبراً لنا، وله عن كينونة يترسب في عمقها قدرٌ غير يسير من الوهج “الرومانسي”، والحب “القيسي” لأرضه، وبلدته المنسيّة الناظور حيث تترعرع، كيف أراد أن يكون، طائراً شحروراً، ويحلق ،بالطموح والتحدي، شاعراً أثيراً، سِمتُه نصرة الجمال، بالشعر،والضرب في الأرض،عبر تَرحال سندبادي لنُشدان “مرافئ التيهان” بحثاً عن اللؤلؤة المفقودة في الطبيعة، ولدى “الإنسان”.
براعة أخرى تُحسب للشاعر رضوان، تتمثل في ربطه أصرة قوية بالكتب… هو بها مفتون ،مفتون ،فيا لغرامه بها !..عشق ترجمه،ببراعة،بتأسيس “نادي الناظور للقراءة”، فكانت دعوة ملحة منه- كل شهر- لانتقاء كِتاب لأدباء عالميين، ومحليين من أجل قراءته، و سبْر أغواره في مناقشة مفيدة وماتعة يشارك فيها حملة أقلام، ومثقفون،وفنانون لهم حظوتهم.. وبهذا النادي ازداد رضوان تألقاً، فمَهر وبَهر.
1- _س_ رضوان بن شيكار ، الإنسان، في بني شيكر، كيف تقدمه لمحبيك ،وللقراء مما لا نعرفه عنه؟
ج- شكراً على هذه الاستضافة الجميلة وهذا الحوار مع أحد أبرز الكتاب والمبدعين المغاربة الذين نعتز ونفتخر بهم كثيراً في مدينة الناظور السي ميمون حرش. أنا ابن مدينة الناظور، وُلدت وترعرعت بين دروبها وضواحيها، ويجري حبُّها في كياني مجرى الدم في عروقي، بكيت فرحاً لانتصاراتها، وبكيت حزناً لانكساراتها أيضاً. طبعاً أصولي وأجدادي من بني شيكر بلدة المجاهدين والصالحين والمبدعين.
2- _س_ أبارك لك إصدارك الأول “مرافئ التيهان” .الطبعة الأولى- عام 2019- دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي -عمان-… لماذا تأخر هذا المولود الأول كثيراً ، وأنت الشاعر الموهوب والصحفي المعروف؟
ج- بالنسبة لديواني الشعري “مرافئ التيهان” أظن أن فكرة إصداره في هذه الفترة هي الأنسب ،ربما تأخرت عن الطبع ،ولكني لم أتوقف أبداً عن الكتابة الإبداعية، وهذا في رأيي هو الأهم، فالشاعر لايصنعه طبع ديوان أو عدة دواوين بقدر ما تصنعه نصوصُه وإبداعاته، فهناك، كما تعلم، بعض الأسماء لها العديد من الإصدارات ،ولكن لا أثر لها في الساحة الإبداعية وبدون قراء .ثم نجد فئة أخرى لها ديوان واحد أو لم تصدر أي عمل ولها حضور كبير ومتابعة واهتمام من طرف الاوساط الثقافية الوطنية والدولية. وقد كنت اتخذت قراراً بعدم الطبع والاكتفاء بممارسة الكتابة والنشر في المجلات والجرائد والمواقع الالكترونية، كما أفعل دائما في ظل الواقع الثقافي “المميع” الذي يزداد سوأ يوم بعد يوم، وخاصة بعد أن كثر السراق و المحوّرون، ولم يعدِ الكثير يستحي، ولكن مؤخراً عدلت عن هذا القرار استجابة لإلحاح مجموعة من الأصدقاء.
3- _س_”تائه” أنت في مرافئَ شتى،[ديوانك يشي بك]..أما آن للفارس،في داخلك،أن يترجل في مرفأ أخير دون “تيهان”، ثُمّ لوْ وُجد هذا المرفأ ،ما سماته؟ و هل محطته الأخيرة ستقنعك، وأنت الشاعر، ببعض الاستقرار على الأقل بحيث تضع فيه عصا تسيارك في النهاية ؟
ج- لولا هذا التيهان ما استطعت كتابة سطر واحد من الإبداع الشعري، هذا “اللاستقرار” هو الذي يذكي فيّ شرارة الإبداع في دواخلي ويستفز غرائز الكتابة في مكامن وجودي، أو لنقل بدون هذا التيهان وهذا القلق الوجودي الذي أستشعره ولا أريد له ان يتوقف .الاستقرار هو العدو الأول للإبداع الشعري الذي ينفر من الملل والتكرار، أعتقد أن المبدع أو الشاعر يكون في مرحلة الذروة الإبداعية ومتيقظ الحواس لالتقاط أي فلاش عندما يكون على قلق كأن الريح من تحته على حد قول المتنبي.
4-_س _ يتكون الديوان “مرافئ التيهان” من (23) قصيدة، متوسطة الطول، عدَدُ “الجمل الشعرية” في أطول قصيدة منها هو (41 )جملة (ضفاف قصية)ص/51/، وأقصرها (19) جملة (بلقيس الثانية) ص/ 61 /… والقصائد، في كل الديوان، رغم هذا النفَس القصير، زخمة وسمينة المعنى والمبنى، وطليقة الخيال، و”الشحنة” الدلالية فيها مركونة في مفاصلها بعناية شديدة، كيف تبني معالم نصوصك، بهذه الدقة،موازناً بين ” كمّ” قصير، و”كيْف” سامي الدلالة .. ما الذي يعينك، على هذه الهندسة ؟
ج- عندما أكتب نصوصي الإبداعية لا أضع خطة مسبقة ، أكتب ما تمليه عليّ اللحظة الشعرية وأتوقف عندما أشعر أنني عطل من أي إضافة، ببساطة لأني أكون قد وفّيت كل ما أريد قوله وعبرت عن “الفلاش” بكامل تفاصيله، هنا أضع نقطة ولا أنظر هل النص طويل أم قصير أو أحصي عدد الكلمات والجمل، هذا ليس عملي وما يهمني هو هل أفلح النص الشعري في طرح مجموعة من التساؤلات الذاتية والموضوعية، أو عبّر بما فيه الكفاية عن عالم من العوالم التي أعيشها.
5-_س_ أنت شاعر مثقف، مولع بالأدب الفرنسي، بل وتتحدث كأحد أبناء موليير، ويبدو لي أن تأثراً واضحاً، في بعض قصائدك، من الشاعر آرثر رامبو/ الشاعر المشاء.. مَنْ غيرُه من شعراء فرنسا ترك أثره في نصوصك ؟
-ج- أكتب وأقرأ كثيراً بالفرنسية وعندي علاقة وطيدة بهذه الثقافة وترجمت العديد من النصوص الإبداعية من هذه اللغة إلى العربية ،وأعشق الشعر الفرنسي وخاصة شعراء المدرسة السوريالية :لويس أراغون؛بول إيلوار؛اندري بروتون…
6-_س_الاحتفاء بالطبيعة في “مرافئ التيهان” لافت، وصارخ؛ تتغنى في نصوصك، بالطبيعة، مستحضراً عوالمها (الفصول- الشتاء- القطف -السحاب- العاصفة-البحر- ظلال- عباب- نجمة…)، ويقولون ” كثير الشعر ألهمته الطبيعة “..فيمَ تُلهمك الطبيعة تحديداً وكيف يخدم هذا الإلهام ما تريد إيصاله للقارئ؟
– ج- أنا دائم العلاقة بالطبيعة وعندي عشق كبير بالجبال والوديان والبحار والشواطئ ،وأبحث دائماً عن التجوال والسفر إلى المناطق الطبيعية وأجدني مشدوداً إلى سحرها ، إنها تفتح لي آفاقاً واسعة للتأمل والاستشراف بفعل تناقضاتها المتأرجحة بين السكون والجموح والقوة والهوان.
7-_س_ كيف اهتديت لهذا العنوان الجميل “مرافئ التيهان “.. دعني أسألك هل تشعر بأنك سفينة، وُجِدتَ لتكون فوقها قبطاناً، تمخر عباب البحر بحثاً عن “مرافئ التيهان”؟
ج- كما قلت أنا دائم العلاقة بالطبيعة وعندي عشق كبير بالجبال والوديان والبحار والشواطئ وابحث دائما عن التجوال والسفر الى المناطق الطبيعية وأجدني مشدوداً الى سحرها..
قصيدتي هي سفينتي، وما دمت أدير دفتها فأنا قبطان أمخر عباب مرافئ حياتي.
8_س_ أي قراءٍ يريد رضوان لنصوصه الشعرية؟ ولماذا استهواك الشعر تحديداً؟
ج- أعتقد أن الذين يقرؤون نصوصي وتعجبهم ويتماهون معها لابد أن تتوفر فيهم بعض الصفات كاطلاعهم على الحد الأدنى من اللغة، فأنا أكتب بلغة شعرية غير عادية، فيها الكثير من الانزياحات اللغوية التي تضع القارئ أمام عدة تأويلات وإيحاءات، والنص الشعري يميز نفسه بالخروج عن المألوف كما هو معروف بعيداً عن التقريرية التي تنعدم فيها نسبة التأويل ويضع القارئ أمام دلالة واحدة رغم اختلاف مستويات القراء وتنوع مشاربهم الثقافية.
وقد استهواني الشعر لأن البداية كانت معه ولأنني قرأت الكثير وحفظت الكثير وأجدني أكثر داخل ألاعيب الشعر رغم أنني أكتب السرد أيضاً. لكن الشعر يظل هو الحب الأول ويصعب استبداله وتجاوزه .
9- _س_ “التيه” تيمة غالبة على نصوصك الشعرية، غيرُ خافٍ ذلك حتى في بعض عناوين الديوان: “في المطار” ص/ 15/، “أقف خارج حقائبي” ص / 97/، و “في الشاون ضاع مني ظلي” ص / 91/، و”ضفاف قصية” ص/51 /… تنثر، في هذه القصائد، وغيرها كثير، مفرداتٍ من بطن التيه نحو: المطار- السفن- الحقائب- الطريق- الرصيف- التَرحال… ممّ تهرب رضوان؟ وهل التيه هو ” المكتوب عليك” ..طيب أنت تنشد ماذا بالضبط حين “تقف خارج حقائبك” حسب تعبيرك؟
ج- هذا القلق الوجودي الذي يسكن المبدع أو الشاعر هو الذي يحفزني على الترحال والسفر ، لا أهرب من شيء تحديداً، فقط ،من حين لآخر، أنسى نفسي وأضيع في إحدى المدن التي لا أعرفها فأمشي في اتجاهات مختلفة، لأسبر أغوار ذاتي ..وهذا هو التيه الذي تتحدث عنه وقد يكون أحيانا أخرى نوعاً من الاغتراب والضياع الذي يعيشه كل منا في محيطه أو مجتمعه والعوالم المفروضة عليه. أنا آسف لكن لا أريد أن أدخل في تفاصيل شرح نصوصي.
10- _س_ مقطع شعري مؤثر عن الناظور ،من قصيدة جميلة ” بقلب ثقيل وبلا مزاج” ص /35/ من الديوان تقول فيه :
” ليس في الناظور مُتسع للأحلام،
قالت إحداهن ذات تقاطع
وهي تعبر الشارع الطويل
مسرعة الخطو،
بقلب ثقيل وبلا مزاج
/ …/ “
أ إلى هذا الحد، تبدو الناظور قاتمة، وغير قابلة للعيش؟
ج- الناظور مدينة القلب والحب السرمدي الذي لا يمكن النزول عنه أو المساومة عليه كيفما كانت الظروف ،الناظور يسكننا وله سطوة حظوة كبيرة هذا الفضاء الذي ترعرعنا وكبرنا داخله بأفراحه وأحزانه .وهذا النص يعبر عن حالة من الحالات الإنسانية والنفسية بالخصوص. لكن أحياناً تضيق بنا هذه المدينة على رحابتها بسبب عدم توفر مجموعة من الشروط الضرورية والأساسية للعيش فيها والمتوفرة في أغلب المدن الأخرى ،فنحن ننتقد ،وأحياناً بشدة، الجهات المسؤولة غيرة منا على هذه المدينة العزيزة والغالية منذ الأزل والمتوجة بسحر وجمالية بحر مارتشيكا.
11_س _ ظاهرة استرعت انتباهي وأنا أستمتع بقصائد ” المرافئ”، بدتْ لي بعضها عبارة عن قصص قصيرة ،.. خذ مثلا قصيدة ” في المطار”، ص/15/،و “ليل غرناطة السرمدي “ص /15/،و “امرأة خارج الفصول” ص /39/، و”ضفاف قصية” ص /53/..أنت فيها حكّاء ماهر.. تحرص فيها على الزمكان، والبطل والحدث، والعقدة والتنوير.. كيف تعلق على ملاحظتي ؟
ج- أنا أكتب نصوصاً شعرية حداثية، فيها نوع من السرد الشعري إن صح التعبير أو لنقل تداخل مجموعة من الأجناس لتصنع في الأخير جنساً إبداعياً واحداً هو النص الشعري. وملاحظاتك سديدة فعلا. لذلك عندما نقرأ نصاً ما نجد فيه الكثير من مقومات الكتابة القصصية من خلال الوصف والحكي وهذا التداخل هوما أصبو اليه.
12-_س_ في قصيدة ” اثنان” ص /49 / {أعتبرها مليحة الديوان رغم قصرها الشديد،} تقول:
“واحد تسكنه المسافات
المتدفقة
في أروقة المدى،
وانسيابات الأشياء المضمرة
في طراوة الذهول،
يحمل خيباته واحتضاراته
قيثارة للفلوات
/…/
و آخر فقد نسغ الحياة
فأضرم ظمأ السنين
في أوداجه ثمّ استكان،
في انتظار موت هادئ
وترانيم جنازة سائرة”.
“الأول تسكنه المسافات،والآخر/ الثاني فَقَد نسغ الحياة”..قلْ رضوان ، أيهما أنت ؟.. أنت الأول ؟ أم الثاني؟، وإذا افترضنا وجودَ ثالث، ألا يكون ترياقاً لهذا التيه بين المشّاء / الأول، و الميّت/ الثاني ؟.. ألا يُلِح الأول والثاني في طلب الثالث؟ ألستَ، أنت، هذا الثالث مثلا، ومن يدري ، ربما، أنت امتداد لكل الأرقام المتبقية.. لا؟…لاحظ معي أيضاً -وهذه “ضربة معلم” أسجلها لك – استعمالاتك للفعل في هذا المقطع.. مع “الأول” توظف المضارع “تسكنه”، ومع “الثاني” تختار الماضي “فقد” ..واحد متحرك،والثاني ثابت..عالمان متناقضان .. ما الرسالة ،هنا، رضوان؟
ج- كل واحد منا يعيش هذا التناقض أو هذه المفارقة ،هذا الصراع الدائم والأزلي في ذاته بين الجموح والاستكانة والاستقرار أو التيهان. هذه الأشياء هي التي تجعل الواحد منا مختلفاً و متميزاً عن الآخر، وليس نسخة منه .أنا الأول والثاني وربما الثالث وإن شئت أنا إلى مالا نهاية ،أنا هذا المتعدد وهذا المتشظي في العوالم .فهذه الجدلية هي المكون الأساسي لهذا الكائن التائه الذي يبحر من وإلى مرافئ التيهان.
13-_س_{ات} حرفٌ صوتي سيميولوجي، يرفرف في “مرافئ التيهان” ،كطائر السنونو، فوق كل القصائد بدون استثناء، تَفتتنُ به حد التماهي في {الشرفات- الشهوات-الغجريات- المتاهات- الراقصات-النهايات-الرقصات- الرغبات-الخيبات- المفازات- المسافات- الاحتمالات- الخسارات- الصباحات-الفلوات- النداءات-القبلات- الهمسات- النايات-الكلمات- الحكايات- القطارات- المساءات- المتاهات- اللذات-الأصوات-البدايات-الجهات-الأغنيات- الغيمات…}،يصل العدد منه لـِ/44 /صوتاً ، ومنه ما أعدته في قصائد كثيرة مثل” الشهوات” و” المسافات”؛صدى هذا الصوت يتكرر في آخر السطر/ البيت الشعري،كنوتة موسيقية.في سيمفونية رائعة.
لنقرأ مثلا قصيدة ” أصداء تأبى الأفول” ص /117/:
“لدي الآن ما يكفي
من الخطوات
لألتفت فأراني
لا ألوي على شيء
أثني المسافات
أغالب فيك البعد
بالنبيذ والأغنيات”.
وفي قصيدة” في الشاون ضاع مني ظلي” ص /94/:
” والليل يسري بنا
يستدرجنا على منابع اللذات
ولنا كل هذا السكون،
ثم طفقنا نقطف الشهوات
/…/
وعطر جسدها الناصع
يلفني من كل الجهات”
هذا الصوت “روِيّ” مُتوج في نصوص كثيرة كما قلت ،ولا تخلو قصيدة إلا صدحتَ به، يتكرر،فيمنحنا،بانسيابية عجيبة، إيقاعاً داخلياً، وخارجياً..ولعلك راهنتَ عليه في موسيقى النصوص،لتسحرَ به القراء..كيف تعلق رضوان على هذه الملاحظات؟
ج- صراحة أنا أوظف الكلمات والجمل والاستعارات والمجازات التي تليق باللحظة الشعرية التي أكون فيها أثناء الكتابة، ولا أختار كلمات معينة لإثارة انتباه القارئ مثلا أو إبهاره. أنا اكتب لذاتي أولا، ولذلك لا أضع في حسباني، أثناء الفعل الإبداعي، قارئاً معيناً.. وهذا هو الطقس الوحيد الذي أحرص عليه وألتزم به أثناء الكتابة وأحاول إفراغ كل الشحنات الشعرية واللغوية في النص.. أما المسائل الأخرى التي ذكرتها فهي من اختصاص القراء والنقاد.
14_س_ صور شعرية جميلة جداً رسمتـَها باحترافية في “مرافئ التيهان” ..لنقرأ مثلا في قصيدة “ضفاف قصية” ص /53/ و/54/:”
“وهذه النايات البعيدة
تأتيني كأجراس كنائس
تدق في مهب الرحيل
سمفونية هذا الغروب
الذي لا يشبهني،
الملتصق بعُنقي
كأنما خِيط بجلدي.”
ما هو الشكل الذي اتخذته في الديوان، وتحديداً في رسم “صور شعرية” أخاذة، أهو التقليد والتجديد،أم الترميز،أم أنك رسمتَ أبعادَ هذه الصور و دلالاتها على الثوابت البلاغية من تشبيه، واستعارة، وكناية ، ومجاز؟
ج- أنحاز في صوري الشعرية ،بشكل خاص، إلى استعمال الكثير من الاستعارات والمجازات والانزياحات اللغوية ،وهي مكونات تتناسب بشكل جيد مع طريقتي في الكتابة، فالشعرية المعاصرة هي كتابة بأكثر من دال، وهي انفجارات متتالية، في اللغة وفي الإيقاع، وفي الزواج الذي يحدث بين البياض والسواد. ولكن كما سبق وقلت سالفا أنا عندما أكتب لا أراهن على هذه الأبعاد أو أضع في حسباني هذه التصورات ، أنا اقوم فقط بالتقاط الصور والفلاشات وأضعها في السياق الشعري مع بعض التقليم والتشذيب.
15-_س_ تستعمل في “مرافئ التيهان”، بحرص شديد، ألفاظاً وعباراتٍ مُتداولة، ومستهلكة، ولكنك تجعلها تتسربل-انسياباً- في سياق بياني، متحكم فيه، من خلال اللغة و إمكانيتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع… كذلك تلحف التركيب على مستوى الجملة، معطفَ الانزياح باستمالة لغة الإيحاء، والمجاز، والرمز …كيف تهتدي لوسائل التعبير في الديوان بهذا الشكل البديع؟
ج- استعمالي لهذه العبارات يكون من أجل جعلها تنتقل من المستوى العادي المستهلك إلى المستوى الشعري الإبداعي الخلاق والخارج عن المألوف ،وأعتقد أن هذا الفعل من وظائف الشعر المعاصر مع استعمال لغة شعرية عميقة إضافة إلى توظيف التراث، وهذا ما يضفي جمالية ويهب للنص الشعري الحديث سمة التميز مقارنة مع النصوص التقليدية الغارقة في الاجترار والابتذال سواء في التيمات أوالشكل …هذا ما يجعلني أنحاز، بشكل كبير، إلى الكتابة الإبداعية الحداثية لما لها من تأثير ووقع على القارئ من خلال العوالم التي تقدمها له.
16_س_ ما رأيك في الغموض الذي يجعل بعض النصوص الشعرية تستغلق على القارئ؟..
هل أنت واضح في شعرك ، وهل طالتك ،أنت أيضاً، هذه “التهمة”/ الغموض ؟
ج-الشعر المعاصر ثورة في التعبير والتغيير وهو قبل كل شيء انفعال و تجربة. وقد أثبت عصرنته من خلال ما يتميز به شكلا ومضموناً ،فالمعاني عميقة واللغة إيحائية فيها الكثير من التلميح والايماء .فالشعر لم يعد شعر مناسبات ومهرجانات أو مجرد أدب يطالع للترفيه والتسلية. والشاعر يلجأ إلى الغموض جنوحاً عن التقليد، والسذاجة والبساطة، لذا يقوم بتكثيف الصور الخيالية و اقتحام المشاعر والانفعالات حيث يتلون النص بضبابية غموضية، فاتساع الأبعاد الثقافية وعمقها في عصرنا وتشبع الشعر الحداثي بها من ناحية ثم لجوء الشاعر الحديث الى تقصي ما وراء الواقع، ساعياً إلى استكشاف الجانب الآخر من العالم والنفاذ إلى صميم الأشياء وجوهرها ،والانفتاح على عالم الأساطير غموضه وغرابته، من ناحية ثانية،ثم استخدام لغة شعرية جديدة لم تتعودها ذائقة القارئ كل هذا أضفى على الشعر الحديث غياباً دلالياً وتشتتاً في المفهوم، جعل من النص الشعري الحديث أحياناً لغزاً مغلقاً يقف أمامه القارئ العام، بل الناقد المتخصص حائراً وتائهاً.
وأنا أميل إلى الغموض أكثر في كتاباتي الشعرية ولا أحب الوضوح الفاضح الذي لا يترك مجالا لطرح الأسئلة واستقراء التجارب ،سواء في الحياة العادية أو في الكتابة، وهي ميزة وليست تهمة وليس في متناول أي كان أن يقدم للقارئ نصاً شعرياً يتسم بالغموض والجمالية في نفس الوقت. فالشعر نقيض البساطة الساذجة والمستهلك من الكلام واللغة، الشعر أعمق وأبعد من ذلك بسنوات ضوئية يا صديقي المبدع.
17-_س_ التراث في ” “مرافئ التيهان ” تغنيه باستحضار الشخصيات التاريخية والأسطورية { الفنيق ،الأندلس، غرناطة،بلقيس،طارق بن زياد،البئر التي تحيل على قصة سيدنا يوسف، رالابويا…} ،كيف توظف، جمالياً، هذه الموروثات في شعرك؟
ج-لابد من الاشتغال على التراث في النصوص الشعرية التي أكتبها فهي ضرورية من أجل التماهي مع بعض الحالات والحكايات واستحضارها لتوظيفها ،جمالياً ،في أعمالي الإبداعية ، أنا قارئ مولع بالتراث الإنساني والأساطير ،ولذلك تجد الكثير من نصوصي تعكس هذا الولع، وأستحضرها باستمرار من أجل إضفاء الجمالية على النص، وكذلك من أجل مساءلة هذا التراث أحياناً.
18_س_ بعض الأرقام ، في الأدب،و في السينما، حظيت باهتمام كبير ،نحو، مثالا لا حصراً، الغرفة رقم/101 /في رواية جورج أورويل، “1984”..
لنقرأ مقطعاً من قصيدة ” لا يشفى بالنسيان أحدٌ” ص /105/:
“قبل أن أرتمي عميقاً
في أزقة الصيف المتشابهة،
المحفوفة بالصدى،
الغارقة في وحل أصوات
الباعة المتجولين،
المكتظة بقسمات الغرباء
الفارّين من جحيم الضجر.
أدلف إلى الغرفة رقم 15،
أطيل النظر في المرآة
كأني أراني أول مرة،
أكتب رسالة طويلة جداً.”
سؤالي هو :الغرفة رقم {15} ما سرها؟
ج- عندما أسافر أطلب الحجز دائماً في الغرفة رقم 15 في الفنادق التي أنزل فيها ،وهو رقم أتفاءل به وأعشقه لأسباب ذاتية محضة، ولا علاقة لذلك بالسياسية أو بأي حدث خارجي آخر.
19_س _ ما قصتك مع الطيور في هذا الديوان الجميل ” مرافئ التيهان”، وتحديداً طائر “النورس”،
أبيات رائقة عن العصافير نقرأها في قصائد كثيرة ، و تحصد النوارس حصة الأسد بينها..
نقرأ في قصيدة ” على غيرالعادة” ص /14/ :
سأتكئ على هذا الخراب
/…/
لأصنع من غيمة تائهة
في سماء خيباتي
ظلا لأشجار العنفوان
/…/
أو مرفأ ترسو إليه نوارسي
العائدة من إبحارات التعب”
و نقرأ أبضاً في ” بقايا جموح” ص /46/:
” يا أيتها النوارس العابرة
في وجع الصباح والمساء.
هل لك أن تهـبي للفنيق
صياح الرياح
أو تقلديه صوت الأنبياء”
و كذلك نقرأ مقطعاً جميلا عن “النوارس” في قصيدة ” بلقيس الثانية” ص /63/و/64/..هذا فضلاً عن كلام شاعري جميل عن “الحَمام” في قصيدة ” أقف خارج حقائبي” ص /101/، و عن ” طائر أسطوري “في قصيدة” لا يُشفى بالنسيان أحد” ص /107/…وفي قصيدة “البرزخ الذي بيننا” ص /83/، وفي قصيدة ” في الشاون ضاع مني ظلي” ص/94/…
أسجل إعجابي بكل هذه القصائد، المطرزة بعقيق ” العصافير”، والنورس واسطة عقدها..
هل الطيور هنا مناسبة لتيمة ” التيهان” الطاغية في الديوان”؟.. ثم لماذا النوارس تحديداً؟” ما الذي يميزها عن طيور أخرى تغنيتَ بها في ديوانك..؟
ج- النورس طائر دائم الحضور في الموانئ و على الشواطئ وعلى السفن وهو ملتصق وملازم لعالم البحر والترحال والتيه. وهو ،في نفس الوقت ،طائر جميل ،ويعيش بقرب البحارة والملاحين، وكثيراً ما تجد البعض منها على سفينة تبحر إلى منطقة بعيدة. عندما أتملى النوارس تجتاحني عواصف من الحنين وأحياناً حالات من الكآبة والسوداوية وأنا أراها تشيع البحارة في رحلة الصيد المحفوفة بالخطر غالباً، أو وهي تحتفل بعودتهم الى الميناء سالمين غانمين، النورس طائر له سطوة علي وأجده غريباً وغامضاً، قريباً وبعيداً في نفس الوقت.
4- 20_س_ باعتبارك مثقفاً،وشاعراً متميزاً تحضر ملتقيات كثيرة، تنظمها جمعيات في مدينتك الناظور،.ما الذي يميز “نادي الناظور للقراءة” الذي تشرف عليه باقتدار يشهد لك به مثقفو المدينة، ومَنْ خارجها.. ماذا يضيف للمشهد الثقافي بالناظور برأيك ؟، ثمّ لماذا فِعل” القراءة” تحديداً.. وما الأهداف التي رسمتها للنادي؟ وهل حققتْ لقاءات “النادي” ، لحد الآن، ما تصبو إليه؟ وما الإكراهات؟
ج-لاحظت مؤخراً أن هناك مجموعة من التكتلات والصراعات الخفية والعلنية التي تشتت المشهد الثقافي الناظوري، لذلك ارتأيت تأسيس هذا المنتدى مع مجموعة من الفعاليات والطاقات الثقافية والمدنية، والهدف هو جمع شمل المثقفين والمهتمين بإقليم الناظور حول تشجيع وتنمية ثقافة القراءة وترسيخها كتقليد في الأوساط الناظورية، وذلك بالالتقاء مرة كل شهر للحديث والدردشة وتبادل الآراء والأفكار حول عمل إبداعي مُنتقى ويحصل حوله الاتفاق مسبقاً ،يكون مرة من الأعمال العالمية لتقريب الضيوف القراء بالكتابات ذات الصيت الدولي ،ومرة يكون عمل لأحد مبدعينا المحليين من أجل الاعتراف بطاقتنا ورفع الحيف والجحود الذي يطالها، وكذا الاحتفاء بهم وإتاحة الفرصة للقراء للجلوس ،وجها لوجه، مع مؤلف الكتاب في نقاشات مباشرة وربط أواصر العلاقات الإنسانية مع هؤلاء المبدعين. وهذه اللقاءات نعقدها آواخر كل شهر.. وبالمناسبة أشكر مؤسسة “سيكوديل” التي وفرت لنا القاعة التي تنعقد فيها هذه اللقاء ات الشهرية.
لحد الآن حققت هذه اللقاء ات نجاحات منقطعة النظير وتصلنا التشجيعات والمتابعات من المغرب وخارجه، وذلك بفضل الالتفاف الكبير لكل مثقفي الناظور وبمبدعيها من أجل الدفع بعجلة تنمية الثقافة بالناظور، وترسيخ فعل القراءة في الأوساط الناظورية، وجعلها رافعةً للرقي بمستوى الوعي الجماعي للمنطقة ككل. ومن أجل أن تستمر هذه المبادرة الخلاقة أدعو ،من هذا المنبر، الجميع للانخراط في هذا العمل من أجل مجتمع ناظوري واعٍ ومثقف .فاللقاءات تمر في أجواء رائعة وممتعة، والنقاشات تتسم دائماً بالعفوية والتلقائية،بعيداً عن الرسميات والبرتوكولات الساذجة والألقاب السخيفة والأستاذية الفارغة. فالجلسات تتميز بكونها لقاءات قراء أولا وأخيراً بغض النظر عن المستوى الدراسي أو التخصص الأكاديمي .
أما بالنسبة للإكراهات فهي كثيرة ،أولها غياب الدعم المادي، فنحن نعتمد فقط على مجهوداتنا الذاتية ،ثم ثانياً غياب البنيات التحتية الأساسية لمزاولة الأنشطة الثقافية بأريحية والمتوفرة بشكل كبير، في أغلب المدن المغربية الأخرى. فقد ابتلينا في هذا الاقليم بمجالس ومنتخبين ليست فيهم ذرة واحدة من الغيرة على إقليمهم، ينفرون ويصمون آذانهم عن كل ما له علاقة بتنمية الثقافة والمعرفة لسوء حظنا.
21_س_ هل تسمح لي بأن أنعت كتابك ” مرافئ التيهان” بـــ ” الديوان النورس”…لكن، نيابة عن كل عشاق حرفك كافة، نطمع في دواوين أخرى ، ألا تقول في ص /59/ ” نورس واحد لا يكفي” .. متى نقرأ الديوان الجديد” .. وما هي مشاريعك عامة؟
ج-،،،النورس هذا الطائر الصاخب والفوضوي و الجميل في نفس الوقت هو جزء من هذا الديوان وقد يرسو أو يغترب من أحد مرافئه.
أشتغل الآن على مجموعة من الأعمال الشعرية والسردية التي أرجو أن ترى النور قريباً.
22_س_شرفت ” العرين” رضوان.. كلمة أخيرة من فضلك؟
ج-أشكرك جداً صديقي، وأعتز بهذا اللقاء مع مبدع متمكن قام بقراءة رائعة ومستفيضة لديواني الشعري “مرافئ التيهان”. وللقراء الأعزاء والصديقات والأصدقاء الذين يتابعونني باهتمام ويشجعونني دائما وأبداً أقول لهم : أحبكم وأعانقكم من القلب وأرجو للقاءاتنا أن تستمر وتدوم.”
أهدي، في النهاية، لقراء هذا الحوار قصيدتك الجميلة ” في الشاون ضاع مني ظلي”:
” ضاع مني ظلي
في الشاون تحت ضوء
خافت،
أسفل منحدر يطل
على الهاوية،
كنا اثنان
ثالثنا الرذاذ
المتساقط كمعزوفة أندلسية
تبث بدون توقف،
وعلى صدري تتماوج أنفاسها
كسفن تقاوم الغرق،
والليل يسري بنا
ملتهب الحواس
يستدرجنا إلى منابع اللذات
قالت للسماء نجومها
ولنا كل هذا السكون،
ثم طفقنا نقطف الشهوات
من أشجارها
ونسرق العصافير
من أعشاشها،
وفستانها الأحمر القاني
يعصف بتلابيب قميصي
كهبوب شديد،
وعطر جسدها الناصع
الشفاف
كشهد مصفى
يلفني من كل الجهات
كحنين جارف.
هناك في الشاون
ضاع مني ظلي
متسكعاً بين الأزقة الزرقاء
وفشلت في تعقب أثره،
أغلب الظن أنه
ليس وحيداً
ولن يعود أبداً”.
حاوره : ميمون حرش
حوار رائع بين علمين شامخين في سماء الثقافة والأدب في مدينتنا ، بل في وطننا ، لأن المحاور أديب متمكن سبر أغوار الكتابة السردية ، وأحد ثلاثي القصة القصيرة جدا في وطننا الحبيب ، وقارئ مثابر ومتمكن .
أما الثاني فهو اديب يمعنى الكلمة ، فهو متعدد الاهتمامات والكتابات، شاعر متمكن، وقاص سبر أغوار الكتابة السردية ، وناقد متعمق في قراءاته ، وعلى العموم فإنه قارئ متعدد الاهتمامات والثقافات ما أهله ليكون أديباجديرا بذاك الاسم.
ونتيجة لما سبق ، فإننا أمام نص حواري في مستوى عال، عميق ، مكثف، ذي حمولة ثقافية غنية ،وهذا كله يدل على المستوى الراقي للمتحاورين حفظهما الله وأدام عزهما .