في أمسية خاشعة امتزج فيها الفن بالمأساة، والعزف بالحس الإنساني، أضاء العمل الإبداعي “حديقة إفريقيا” سماء الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، مساء الثلاثاء، مقدِّمًا لحظة نادرة من التأمل الجماعي في إحدى أكثر مآسي العصر إيلامًا: مأساة المهاجرين الذين ابتلعهم البحر الأبيض المتوسط وهم يلهثون خلف الحلم الأوروبي.
بعيدًا عن صخب العناوين السياسية، اختار هذا العمل الفني أن يعبر بصوت الموسيقى وحدها عن صرخات لم نسمعها، ووجوه لم نرها، لكنه حملها إلى الجمهور في شكل أوبرا حديثة تنزف شعرًا وموسيقى ومعنى، من توقيع الموسيقي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية بنجامين الطاهر، وأدّتها مجموعة “إضاءات” (Éclats)، التي اختارت أن تجعل من منصة الهواء الطلق بحديقة جنان السبيل، فضاءً لتكريم الأرواح الغارقة.
بين الأوبرا والطقس الجنائزي: عمل فني استثنائي
“حديقة إفريقيا” ليست مجرد عنوان، بل هي استعارة حيّة لواقع مأساوي. فالعمل مستوحى من المقبرة الرمزية الواقعة بمدينة جرجيس في الجنوب التونسي، والتي تحمل الاسم نفسه، وقد أنشأها الفنان رومان بيرو لتكون مدفنًا كونيًا لمهاجرين مجهولي الهوية قضوا نحبهم في عرض البحر أثناء محاولتهم عبور المتوسط. وتحوّلت هذه المقبرة إلى مكان للتذكر، والشهادة، والاحتجاج الصامت على مأساة تتكرر باستمرار.
في هذا السياق، صاغ الطاهر عمله الفني على شكل أوبرا معاصرة، تخلو من السرد التقليدي والشخصيات، لكنها تعجّ بالشحنات الرمزية والإيحاءات الدرامية. أوبرا بلا حبكة، لكنّها مشبعة بالشعر والمآسي، وتوظف الموسيقى كلغة تتحدث عن الغياب، والضياع، والبحث عن الكرامة الإنسانية.
موسيقى تنبض بالذاكرة: عزف للمجهولين
تم تنفيذ العرض بمشاركة اثني عشر موسيقيًا ومؤديًا، اختلطت أصواتهم بعبق الطبيعة في جنان السبيل، في محاولة لخلق طقس فني خارج القاعات المغلقة، حيث تتحول الطبيعة نفسها إلى جزء من المشهد. عازفة التشيلو والمديرة الفنية للفرقة، أوريلي ألكسندر دالبغون، شددت على أهمية الأداء في هذا الفضاء المفتوح، قائلة: “لقد تفاعلنا مع المكان كما هو، كنا في حوار مع الطبيعة، مع أصواتها، هوائها، ضوءها… وهذه التوليفة ساعدتنا على إبراز مضمون العمل”.
الموسيقى، كما قدمها الطاهر، بدت مشحونة بكثافة شعورية، ومتجاوزة للتنميط الغنائي. فهي لا تنتمي إلى الموسيقى الدينية التقليدية، ولا إلى الأنماط الأوركسترالية السائدة، بل تميل إلى “تونالية حرّة” تعتمد على التضاد الصوتي، والتموجات النغمية العميقة، والتوليف بين الآلات بطرق غير مألوفة. فإلى جانب ثلاثة آلات تشيلو بأصواتها الأرضية، حضرت القيثارة السلتيكية، والمزمار، والناي، وآلة الساكسفون التي كانت المفاجأة الكبرى بنغماتها التي تميل أحيانًا إلى البكاء المكتوم أو الأنين الخفي.
أصوات تحكي الغياب: تجسيد رمزي للأديان والإنسانية
من أبرز ما ميز هذا العمل استخدامه لثلاثة أصوات منفردة، مثّلت ثلاثة أبعاد فكرية وروحية: الوصف، الشعر، والمصير. هذا التثليث لم يكن اعتباطيًا، بل حمل رمزية واضحة، إذ يعكس في أحد أوجهه المرجعيات الروحية للديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، في تقاطع مع بُعد إنساني كوني، يسائل فكرة الموت الجماعي، ويحثّ على عدم نسيان من رحلوا بلا أسماء.
هذا الحضور الرمزي للديانات لا يعكس فقط وحدة الألم، بل أيضًا التقاطع الثقافي الذي يشكّل ضمير البحر المتوسط، الذي ظلّ عبر العصور ملتقى للحضارات، لكنه اليوم تحوّل إلى مقبرة جماعية صامتة.
البحر والحديقة: فضاءان للذاكرة والنسيان
اختار العمل أن يقيم توازنًا دقيقًا بين البحر والحديقة: البحر كرمز للعبور والموت، والحديقة كرمز للحياة والتأمل والتجدد. في هذا التداخل، تبدو الحديقة التي احتضنت العرض ليست مجرد مكان للعرض، بل جزءًا من المعنى. فكما أن “حديقة إفريقيا” الحقيقية بتونس تحولت إلى فضاء لتخليد المفقودين، فإن “جنان السبيل” في قلب فاس تحولت بدورها إلى صدى لهذا التذكير الحيّ، بلحظة تستعيد الغائبين، وتفتح أبواب الأسئلة الوجودية.
الحديقة هنا ليست طبيعة محايدة، بل شاهد صامت على العبور، ومكان لمصالحة رمزية بين الحياة والموت. ومن ثم، فإن العرض يتحول إلى طقس جنائزي رمزي، تتخلله لمسات بصرية رمزية بسيطة لكنها شديدة التأثير، حيث يصبح كل صوت، وكل نغمة، وكل صمت، بمثابة شاهد قبر أو آية في نشيد حداد لا ينتهي.
بعد موسيقي بصري يتجاوز الأداء
رغم أن العرض اتخذ شكله كـ “كونسير” موسيقي، إلا أنه تجاوز بكثير حدود الأداء السمعي. فالبُعد البصري للعرض، وإن لم يكن استعراضيًا، حمل دلالات رمزية قوية. الإضاءة، حركة العازفين، حضورهم المتجدد على الخشبة، وطريقة توجيه الصوت، كلها عناصر صاغت فرجة سمعية/بصرية متكاملة، تتغذى من بساطة التجهيز، ومن عمق الرسالة.
فبدل التركيز على الانبهار التقني أو المؤثرات الضوئية، فضل العمل استدعاء رمزية الضوء والظل، ما جعل الموسيقى نفسها تأخذ أبعادًا مسرحية، وتُخرج الجمهور من وضعية المتلقي السلبي إلى وضعية التفاعل التأملي مع المأساة.
التزام فني يتجاوز المأساة
ما يجعل “حديقة إفريقيا” عملًا متفردًا، ليس فقط نبل موضوعه أو جمالية موسيقاه، بل قدرته على تحويل الألم إلى طاقة تعبيرية راقية، بدون الوقوع في فخ الشفقة أو الميلودراما. لقد استطاع الطاهر وفرقته أن يقدموا شهادة فنية عالية المستوى، تتخطى وظيفة التنديد إلى وظيفة التذكير، وتتجاوز سردية الضحية إلى مقاربة إنسانية تُكرم الإنسان في ضعفه، في بحثه عن الأمل، وفي سقوطه الصامت.
هذا الالتزام الفني لا يتجلى فقط في اختيار الموضوع، بل أيضًا في دقة الإنجاز، وغنى التركيب الموسيقي، وصرامة الأداء، وهي عناصر تحدثت عنها عازفة التشيلو دالبغون في حديثها لوكالة المغرب العربي للأنباء، مؤكدة أن العمل كان بمثابة مغامرة موسيقية تتطلب كثيرًا من الدقة والانضباط، خصوصًا أنه يُقدم في الهواء الطلق، وسط تحديات طبيعية ولوجستية.
من فاس إلى المتوسط: رسالة بلا حدود
أن يُقدَّم عمل مثل “حديقة إفريقيا” في مهرجان مثل مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، هو في حد ذاته رسالة. فهذا المهرجان، الذي اختار منذ انطلاقته أن يكون منصة للتلاقح الثقافي والحوار الروحي، يؤكد من خلال برمجة مثل هذه الأعمال أن الموسيقى ليست ترفًا، بل أداة لفهم الذات والعالم، وللتعبير عن الجراح الكبرى التي قد لا تملك الكلمات القدرة على قولها.
“حديقة إفريقيا” ليست فقط عرضًا فنيًا مؤثرًا، بل هي تجربة وجدانية عميقة، تُعيد للموسيقى وظيفتها الأصلية: أن تكون مرآة للروح، وصدى للألم، ورافعة للأمل.
وإذا كانت موسيقى الطاهر قد استطاعت أن تُنطق الصمت، فإن جنان السبيل، بأشجارها وهوائها وخشبتها الطبيعية، كانت الشاهد الصامت على واحدة من أقوى لحظات هذه الدورة من مهرجان فاس. لحظةٌ لا تُنسى، لأنّها تحدثت عن أولئك الذين نُسوا.
طنجة الأدبية