الرئيسيةأخبارإطلالات: تحول الصورة من التوثيق للتسويق الشخصي

إطلالات: تحول الصورة من التوثيق للتسويق الشخصي

تحول الصورة من التوثيق للتسويق الشخصي

في زمن تسوده السرعة والتواصل الرقمي، ضاع الأمل في الإصلاح بين وهم الصورة وحقيقة الأداء ،كيف ذلك :

تغير المفهوم العصري للصورة من شكله التوثيقي إلى أداة سلطة، لم تعد مجرد لحظة موثقة، بل أصبحت في كثير من الأحيان بديلاً عن الفعل الحقيقي. نتحدث هنا عن ظاهرة باتت مألوفة: سباق محموم وراء الظهور المتكرر بألوان مواقع التواصل وانماطها كلها ،أمام غياب تام للفعل الحقيقي أو تتبع مراحله الأهم . مسؤولون لا يظهرون إلا في لحظات التدشين، الاجتماعات الرسمية، أو الوقوف خلف الميكروفونات، يبيعون الوهم مسوقين له بالصور ، ثم يختفون عندما تبدأ الأسئلة الحقيقية.

في عدد من الدول، يرافق  كل مشروع جديد موجة من الصور المصقولة والابتسامات البروتوكولية، لكن المظاهر لا تتوافق مع الإنجازات الحقيقية ،إذ سرعان ما تتبخر تلك الحماسة بعد انتهاء الحفل. لم يعد معنى للفعل من طرف مسؤول ما مادام يسبقه سعار حب الظهور والتشدق بالوهم ، حيث ضاع امل انتظار الواقع في عالم الوهم .  كم من مرة رأينا تدشين مستشفى أو طريق أو مؤسسة تعليمية، ليكتشف المواطن بعدها أن المشروع لا يشتغل بالكفاءة المطلوبة، أو أنه لم يكتمل أصلًا؟ الصورة التذكارية وُثّقت، أما الواقع، فهو مؤجل إلى إشعار آخر.

ما يثير القلق هو أن بعض المسؤولين باتوا يتعاملون مع المهام الرسمية كأنها منصات لاستعراض الذات لا لخدمة الناس. المسؤولون بدل ان يكونوا حريصين على  جدية الفعل ، أصبحوا أشد حرصا على أخذ صورة تذكارية يتظاهرون بها داخل إعلام أكثر حرصا منهم على توثيق الوهم بدلأ عن الفعل. تسابق محموم نحو الكاميرا، تدوينات متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحرص على “الظهور” أكثر من “الحضور”. وفي غمرة هذا الاستعراض، تُترك الملفات الساخنة: تسيير المؤسسات، أزمة النقل، هشاشة التعليم، ضعف المنظومة الصحية، والبطالة.

ووسط هذا المشهد، تضيع تطلعات المواطنين نحو من يأخذ بيدهم إلى بر الأمان ، نحو من يستحق ثقتهم في خدمة مصالحهم . وبهذا يظل المواطن الحلقة الأضعف في حكاية الصورة التي أضحت تحضر المشاريع أكثر من الإنجازات الحقيقية والتتبع الفعلي .ضاع المواطن وهو ينشد الإصلاح ويعيش حالما به حتى يصدمه الواقع عندما يحاول الوصول إلى إدارة ما، فيُواجه بجدران البيروقراطية أو انعدام التفاعل. وعندما يرفع صوته، يقال له: “المسؤول منشغل في نشاط رسمي”. نشاط يوثق غالبًا في صورة لا تُقدم ولا تؤخر.

لكن الوعي الشعبي اليوم في تصاعد، وفي تذمر متواصل ما يجعل لسان حال الواقع يقول : الصورة وحدها لم تعد تُقنع. الناس يريدون أثرًا، لا أثرًا بصريًا. يريدون مسؤولًا يقيس نجاحه بما تحقق، لا بما انتشر على “فيسبوك” أو “تويتر”. وفي المقابل، يجب أن تتغير قواعد التقييم الشعبي كذلك: لا مكافأة لمن يظهر كثيرًا، بل لمن يُنجز أكثر. وأصبح الوعي والمنطق البشري يفرض الوقوف على توضيح الفرق بين مسؤول بقرارات مسؤولة وواعية تؤكدها إنجازات فعلية ملموسة لدى المواطن، وبين مسؤول صوره على الفايسبوك اكثر من أنجازاته الحقيقية.

إصلاح هذا الخلل لا يتطلب ثورة، بل عودة صادقة إلى جوهر المسؤولية: أن تكون في خدمة الناس، لا في خدمة الذات. المطلوب شفافية حقيقية، آليات تتبع، مساءلة منتظمة، ومجتمع مدني وصحافة قادرة على فتح الملفات بعد انتهاء “القصّ والشريط”، بدل الصحافة المأجورة التي أساءت للمجتمع بالتواطئ على إخفاء الحقيقة والتطبيل للوهم.

في النهاية،  نؤكد أن الصورة لا تبني مدرسة. ولا تُرصف طريقًا. ما يبني فعلاً هو العمل، الالتزام، والمتابعة. وهذه خطوات مسؤولة تقترن بمسؤول يحترم نفسه قبل غيره ،أما من اختار أن يكون مسؤولًا بالشكل فقط، فعليه أن يدرك أن زمن الصور الخادعة لن يدوم طويلًا.

الدكتورة نزهة الماموني
الدكتورة نزهة الماموني

د. نزهة الماموني

تعليقان

  1. مقال عميق وواقعي لامس جوهر الخلل بين الصورة والفعل. شكراً لك على هذا الطرح الصادق الذي يوقظ فينا أهمية المحاسبة والوعي الحقيقي، ويعيد تعريف المسؤولية كما يجب أن تكون: التزامًا لا استعراضًا.

  2. سلمى الحدادي

    كما عهدناك استاذتي الجليلة دائما مقالاتك في المستوى تسلطين فيها الضوء على مجموعة من المواضيع التي تهم الرأي العام وتتطرقين الى تحليل مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي تشكل الجدل اليوم.
    دام لك التألق والبهاء استاذتي العزيزة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *