نُحاول عبثًا أن نُقيّم أنفسَنَا أحيانًا في هذا العَالم بوسائل مُختلفة، ومن زَوايا مُتعدّدة، فلا نرَى في الإثنين سوى العدمية والتفاهة. العدمية بشكلها السلبيّ وليس الإيجابي. عدمية سلبية تطبق علينا من كل حدب وصوب، وما عداها مُجرّد بهرَجة. يُحاصرنا “اللاّشيء”، وتلفّنا التفاهة من كل جهة. نصادفها في كل زنقة وشارع، كما في كل موقع نمرّ منه، لولا أن أنعم الله علينا بنعمة الإيمان، الإيمانُ بالله تعالى ورُسله وكتبه وملائكته.
كل ما آمنّا به سابقًا من قيَم ومَبادئ ويقينيات في العالم السّفلي- الدّنيوي، أصبحنا نراه يتلاشى أمام عُيوننا، كأنّه الخرابُ ولا شيء غيره. وكل ما نراه من أحداث، حرُوب، تطوّرات في التكنولوجيا، تراكمات في مُختبرات العلوم، واختراعات على اليمين وعلى الشمال، تجعلنا نشكّك في كلّ ما آمنا به من يقينيات، وأنا لا أتحدث عن العالم العُلوي، مُتمثّلا في الإيمان بالله تعالى، حتى لا أفهم بشكل خاطئ، إذ لولا هذا الإيمان المُتمَكّن فينا بالقلب والبَصيرة، لأصبحنا ضحية انحراف في التفكير بالعقل. والعقل، كما خبرناه، لم يفض يوما إلى حقيقة ثابتة في عالم مُتغيّر، لا نعرف إن كان واقفا على رأسه، كما كان يراه هيغل أو على قدميه وفق رُؤية ماركس. عالم تتغيّر فيه اليقينيات في كل لحظة وحين، كما تتغيّر صيحات الموضة في شوارع نيويورك وباريس وروما، عالمٌ خرافيّ يحكمه الذكاء الاصطناعي، تسودُه الميتافيزيقا وتحكمُه الماوَرائيات.
وفي هذا المَنحى، أخبرنا الشاعر محمود درويش في إحدى قصائده أنه: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحَياة”، ثم تركنا ومضى إلى حال سبيله. ولكنه ما لبث أن عاد إلينا مرّة أخرى، وقال لنا كلامًا يناقضُ كلامه الأول، وفي قصيدة أخرى يقول فيها: “لا شيء يُعجبني”. كيف؟ لا أدري. الشاعر محمود درويش رحمه الله، وحده من كان له ما يكفي من الأسباب لأن يتراجع عن قوله الشّعري الأول، وهو الوحيد الذي كان يعلم علم اليقين، لماذا انقلب على نفسه. وفي الأخير، غاب دون أن يوضّح لنا شيئا عن أسباب انقلابه، وغابت معه أسرارُه إلى الأبد. ومن حُسن حظنا، أن المسألة تبدو هنا فردية، كما رآها محمود درويش. ولذلك، أصرّ على القول في مقام آخر: “ابكِ وَحدك، ما استطعت”. والبكاء في هذا القول لا يعنينا جميعًا، ولذلك استعمل درويش ضمير الفرد: “أنت”، وقد يكون قصدُه أناهُ. ولم يستعمل ضمير الجمع: “نحنُ”، وأكيد أيضًا، هنا كما هناك، كان له ما يكفي من مُبرّرات، لا يعلم بها إلا هو، وهو الوحيد الذي يعرفها، وها هي تجاورُه هناك في قبره بمسكنه الأبدي.
وبالنظر إلى ما يدور حولنا من وقائع وأحداث، نرى أنه لا شيء يستحقّ الحياة حقيقة، لا شعرًا ولا مَجازًا. أصبحنا نعيش الحياة دون أن نفهم عن قصد معناها، وغيرُ معنيّين بمغزاها، علّنا نستمتعُ بطراوتها وحلاوتها، ونستريح من وجع فلسفة ديكارت ومن وَالاهُ من الفلاسفة. عالم بدأ زراعيّ الملامح والهَويّة، ثم دينيًّا ولا دينيًّا، قبل أن ينقسم على نفسه، ويصبح اشتراكيًّا ورأسماليًّا ، ثم مع مرور الوقت برشلونيًّا وريَالِيًّا من السّند إلى الهند، ومن المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، قبل أن تغيب ملامحه التي تعوّدنا عليها، وأصبح تافهًا وعدميًّا وغيرَ جدير بالعيش فيه، ولا مُتابعته أو تقييمُه. ولذلك، فضّل أكثرُنا أن يعيش الحياة على أهوائه وأمزجته في عالم نشعر فيه جميعُنا، وكأنّنا لا ننتمي إليه. وكم هو جميل ألّا نُخضع الأشياء للتّفكير والتفكّر، ونعمل بمبدأ “laisse tomber”، ونجرّب إن كانت الحياة مُحتملة وجديرة بأن تُعاش في عالم حربائيّ.
وكم هو أكثر جمالا أيضًا، أن تضع أمامك فنجان قهوة على الرّصيف، وتتأمّل الناس وهم يمرّون أمام ناظريك تباعًا، بمُختلف أعمارهم وأجناسهم وجنسياتهم وطولهم وقصرهم، وتترك الدنيا تدور على هوَاها ووفق مزاجها، وأنت غير مُهتم بها ولا بضحاياها. ولا يهم إن وصفك الفضوليون في هذه الحالة، وقالوا عنك:” سطحيٌّ، وعدميٌّ وسلبيّ”، وهذا واردٌ جدا في عالم الفضوليّين، ولكنه يبقى غير مُهمّ في عالمنا. كثيرًا ما نشعرُ بالتّوتر المُزمن، لأنّنا أفرطنا في الجدّية منذُ الصّغر، ومن فرط إعمال العَقل والمَعقول في سلوكيّاتنا وتصرّفاتنا، وفي الأخير أصبحنا نخافُ من عَمل أيّ شيء. وقد آنَ الأوانُ اليوم أن نريح ضمائرنا، نتهكّم من كل شيء يدور في المحيط من حولنا، ونتعامل مع العالم من بنوع من اللامبالاة، علنا نستريح من أعباء الحياة وسرعة دوَران طاحونتها.
وقد يتساءل البعضُ من العَدَميّين أمثالي: هل أصبحت الحياة بلا جدوى إلى هذا الحدّ؟ ونحن نحاول عبثا الاستمتاع بها قدر ما نستطيع، من خلال الاكتفاء والاحتفال بالحُصول على فتات الحياة، والتمتّع بمَباهج صغيرة، ونحن نعرف حقّ المَعرفة، وتعلمُ علمَ اليقين أنها تافهة وعابرَة. الحقيقة المُرّة، هي أن الواقع لم يعد مُحتملا في عالم آخر، هو عالم الفنّ والأدب والسياسة، كل شيء أصبح تافهًا ومُستنسخًا من سابقه بشكل رديء جدا، وغير جدير بما يُلصق به من صِفات. فلا السياسة أصبحت سياسة، ولا الفنّ فنّا، ولا الأدب يحمل صفة الأدَب. ولذلك، صرنا نهربُ من ذواتنا وأنفسنا، ومن واقعنا البئيس إلى شاشات عالم آخر أكثر احتمالا، ولم نجد أمامنا في الطريق من كل هذه العَوالم، أحسنُ ولا أرحمُ من الارتماء بين أحضان العالم الافتراضي.
كنا ننتقدُ ما حولنا من خلال الانخراط في الأحزاب والعمل السياسي، وإذا بنا أمام موت السياسة وبُؤسها، وغباء السياسيين وسذاجة سياساتهم، ولذلك تركناها لهم عن طيب خاطر، وهرَبنا منها ومنهم ومن مواجعها وصُداع كلامهم. كنا نُربّي المُجتمع من خلال الانخراط في العمل الجَمعوي وتنشيط الجمعيات، وإذا بهذه الجمعيات تتحوّل بدورها إلى مصدر بُؤس وشقاء، وبالتالي تركنا لهم الجَمل بما حَمل. أصبحنا نشعرُ بأننا بعيدون جدا في هذه الحياة عن بعضنا، حتى ونحنُ جلوسٌ على نفس الطاولة في المقهى، ونعيش تحت نفس السقف في البيت الواحد والأسرة الواحدة. هل أصبحنا غرباء إلى هذه الدرجة؟ نعم غرباء في مجتمع بدأ يميل تدريجيًّا إلى الفردانية المُوجعَة. أصبحنا نشعرُ فيه بالوحدة مع ظهور قيَم جديدة، ولكنها فارغة لا تُحتمل، وغريبة كل الاغتراب عن مُجتمعنا. أصبحنا نبحث اليوم في هذا العالم عن الهُروب بأيّ طريقة من واقع عالمنا، ولكن إن حدث واجتمعنا فيه، فإننا نكره بعضنا البعض بالتّراضي في عالم لا يحتمل…!!
إدريس الواغيش