تحل اليوم، العشرون من أكتوبر، ذكرى وفاة الفنان الكبير محمد فوزي، أحد أهم وألمع رموز الموسيقى والغناء في تاريخ الفن المصري والعربي، الرجل الذي عاش للفن ومات من أجله، تاركًا خلفه إرثًا موسيقيًا خالدًا يضيء درب الأجيال المتعاقبة.
ولد محمد فوزي في قرية كفر أبو جندي التابعة لمحافظة الغربية عام 1918، ليبدأ منذ صغره رحلة عشق طويلة مع الموسيقى والغناء. كانت طفولته مليئة بالأصوات الريفية الأصيلة، فحفظ التراث الشعبي واستوعب إيقاعاته العذبة التي انعكست لاحقًا في ألحانه التي جمعت بين البساطة والعبقرية.
بدايات متواضعة وميلاد موهبة استثنائية
منذ نعومة أظافره، كان محمد فوزي مولعًا بالغناء، يردد التواشيح الدينية والأغاني الشعبية في المناسبات القروية. التحق بمدرسة طنطا الابتدائية، وهناك بدأت موهبته تثير الإعجاب، فكان يؤدي الأغاني في الحفلات المدرسية والمناسبات المحلية.
انتقل إلى القاهرة في شبابه سعيًا وراء حلم الفن، فبدأ مشواره كمطرب هاوٍ في المسارح والمقاهي، إلى أن التقى بعدد من الموسيقيين الكبار الذين اكتشفوا موهبته الفريدة.
كانت بدايته السينمائية في الأربعينيات، حين شارك في أفلام مثل سيف الجلاد وسيف العرب، قبل أن ينطلق نجمه في سماء الغناء العربي. لم يكن صوته فقط هو ما ميزه، بل قدرته على التلحين والتجديد في الموسيقى العربية التي كانت في طور التحول آنذاك.
محمد فوزي.. موسيقار التجديد والاختلاف
لم يكن محمد فوزي مجرد مطرب يؤدي الألحان، بل كان موسيقارًا مبدعًا وصاحب رؤية ثاقبة سبقت عصره. جمع بين الحس الشعبي العميق وروح الحداثة، فاستطاع أن يطوّر الأغنية العربية ويجعلها أكثر خفةً وبهجةً وارتباطًا بالإنسان البسيط.
تميّز فوزي بألحانه المبهجة التي كانت تحمل فلسفة فنية خاصة، إذ آمن بأن الموسيقى يجب أن تبعث السعادة في النفوس، وأن تكون قريبة من الناس في لغتها وإيقاعها ومضمونها. لهذا، جاءت ألحانه سهلة ممتعة، لكنها في الوقت نفسه غنية بالتفاصيل الموسيقية الدقيقة.
وقد وصفه النقاد بأنه “فنان كل العصور” لأنه استطاع المزج بين التراث والتجديد في آنٍ واحد، فكان تأثيره واضحًا في الأجيال التي تلته، من محمد عبد الوهاب إلى بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ.
الرائد الذي أسس لصناعة الموسيقى الحديثة
عام 1958، سجّل محمد فوزي سبقًا تاريخيًا بتأسيسه لشركة «مصر فون» للأسطوانات، أول شركة إنتاج موسيقي مصرية خالصة، هدفت إلى نشر الأغنية العربية في أرجاء الوطن العربي بجودة إنتاجية غير مسبوقة.
لم تكن “مصر فون” مجرد شركة، بل كانت ثورة فنية بكل المقاييس، حيث أتاحت الفرصة للعديد من الفنانين لتسجيل أعمالهم ونشرها، وأسهمت في ازدهار سوق الموسيقى بالمنطقة.
ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية، ظل فوزي مؤمنًا برسالته في خدمة الفن. كانت شركته أول من أطلق نظام تسجيل الأسطوانات الحديثة في مصر، مما مهّد الطريق لتطور صناعة الموسيقى في البلاد.
الأب الروحي لأغنية الطفل
من بين بصماته الإنسانية والفنية التي لا تُنسى، أنه أول من قدّم أغنية عربية مخصصة للطفل. في وقتٍ لم يكن الغناء للأطفال شائعًا، أبدع محمد فوزي أعمالًا خالدة تربّت عليها أجيال، مثل:
-
“ماما زمانها جاية”
-
“ذهب الليل وطلع الفجر”
-
“هاتوا الفوانيس يا ولاد”
كانت تلك الأغاني نموذجًا في البساطة والفرح والرسالة التربوية، وأثبتت أن الفن قادر على أن يكون وسيلة تربية قبل أن يكون وسيلة ترفيه.
ابتكاره لفن “الأكابيلا”.. موسيقى بلا آلات
من إنجازاته الرائدة أيضًا تقديمه لأول مرة في العالم العربي لحنًا بلا آلات موسيقية، معتمدًا فقط على الأصوات البشرية بتنويعاتها، وهو ما عُرف بفن الأكابيلا.
في أغنيته الشهيرة “كلّمني وطمنّي”، استخدم فوزي أصوات الكورال البشري لتكوين الإيقاع واللحن معًا، في تجربة موسيقية سبقت عصرها بعقود.
هذه الجرأة في التجريب جعلت فوزي مدرسة قائمة بذاتها، تُدرّس حتى اليوم في معاهد الموسيقى العربية كمثال على الابتكار والخيال الفني اللامحدود.
تعاونه مع عمالقة الفن المصري
لم يكن محمد فوزي فنانًا منعزلاً، بل كان ركنًا من أركان الحركة الموسيقية في مصر. كتب ولحّن لكبار الفنانين مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وأسهم في تجديد شكل الأغنية المصرية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كما شارك في تلحين الأغاني الوطنية التي رافقت مرحلة ما بعد ثورة يوليو 1952، ومن أشهرها “بلدي أحببتك يا بلدي”، التي جسدت صدقه الوطني وحبه العميق لمصر.
رحلة المرض والمعاناة
ورغم مجده الفني، فإن حياة محمد فوزي كانت مأساة إنسانية في نهايتها. في عام 1965، أُصيب بمرض نادر عجز الأطباء عن تشخيصه في البداية. كان المرض يُتلف أنسجة جسده تدريجيًا ويمنع امتصاص العناصر الغذائية، حتى صار وزنه لا يتجاوز 36 كيلوغرامًا.
نُقل للعلاج في ألمانيا، وهناك اكتشف الأطباء أنه خامس شخص في العالم يُصاب بهذا الداء الغامض، حتى أطلق عليه الطبيب الألماني المعالج اسم “مرض فوزي” تخليدًا لحالته الفريدة.
ورغم آلامه المبرحة، ظل فوزي متفائلًا وصبورًا، وواصل كتابة الأغاني حتى آخر أيامه. كتب وصيته بنفسه، وكانت مليئة بالإيمان والرضا، قال فيها:
“إن الموت علينا حق، وإذا لم نمت اليوم سنموت غدًا. أحمد الله أنني مؤمن بربي فلا أخاف الموت الذي قد يريحني من هذه الآلام التي أعانيها… تحياتي إلى كل إنسان أحبني ورفع يده إلى السماء من أجلي، تحياتي لكل طفل أسعدته ألحاني، تحياتي لبلدي، وأخيرًا تحياتي لأولادي وأسرتي.”
توفي محمد فوزي يوم 20 أكتوبر 1966 في برلين بألمانيا، بعد رحلة صراع مريرة مع المرض، عن عمر ناهز 48 عامًا.
إرث خالد لا يزول
برحيل محمد فوزي، خسر الفن العربي أحد أكثر مبدعيه نقاءً وصدقًا. لكن إرثه لم يمت؛ فما زالت أغانيه تملأ البيوت العربية دفئًا وفرحًا، وتُدرّس موسيقاه في معاهد الكونسرفتوار كمثال على التنوّع والإبداع.
إنه الفنان الذي سبق زمنه، وتجاوز حدود الصوت ليصبح رمزًا للجمال والبهجة، لا في مصر وحدها، بل في وجدان العالم العربي كله.
من “شحات الغرام” إلى “يا مصطفى”، ومن “تحت الشجر يا وهيبة” إلى “ماما زمانها جاية”، ظل محمد فوزي رمزًا للبهجة والأصالة والتجديد.
لقد عاش فوزي فنانًا مؤمنًا برسالته حتى اللحظة الأخيرة، فاستحق أن يُذكر كل عام بوصفه أحد أعمدة النهضة الموسيقية في القرن العشرين.
طنجة الأدبية

