لطالما حذرنا من سياسة الإلهاء التي اتبعها بعض المسؤولين تجاه أجيال المستقبل. بدلًا من إطلاق برامج تنموية جدية، تم إغراء الشباب بأحلام نجوم الترندات وسهرات سطحية مصحوبة بكلام نابي ، تطبع مع الفساد الأخلاقي .وبدل أن تُعنى التنمية الثقافية بالمراكز الشرعية والمشاريع التعليمية المستمرة، اختزلت الثقافة في مهرجانات فارغة من المحتوى، تحوّلت خلالها المراكز الثقافية إلى أدوات مسخرة لخدمة الجمعيات السياسية، بينما أُلغي دور ومدى صلاحيات مديريها، وأصبحت قراراتهم مقيدة .في الوقت نفسه، تُمنح الجمعيات الممولة ميزانيات سخية على حساب المراكز الرسمية، فتتدهور الثقافة المحلية أمام أعين الجميع.
الجهوية الموسعة: حلم التنمية أم أداة سياسية؟
جاءت الجهوية الموسعة في عالم الإدارة الحديثة كأفق واعد لنقل السلطة والموارد من المركز إلى الجهات، بهدف تقريب الخدمات من المواطن، وتعزيز التنمية المحلية، وفتح آفاق جديدة للنمو الثقافي والاجتماعي. ببساطة، تعني الجهوية تفويض الجهات بصلاحيات حقيقية، واستقلالية في اتخاذ القرار، وتمويل كافٍ لإنجاز المشاريع المحلية.
لكن السؤال المحوري: هل يمكن للجهوية الموسعة أن تنجح بدون حكامة جيدة وترشيد النفقات؟ الإجابة واضحة: لا.
الحكامة الجيدة تعني إدارة شفافة ومسؤولة للموارد، تعتمد على المشاركة والمساءلة والقانون، لضمان فاعلية الجهات المحلية. وترشيد النفقات يضمن استخدام الموارد المالية بحكمة وتقليل الهدر، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة.
الواقع يعكس فشلًا واضحًا، والسبب ليس نقصًا في الكفاءة فقط، بل تداخل السياسة الحزبية مع العمل الثقافي. فالمدير الجهوي للثقافة غالبًا ما يصبح مجرد أداة لتنفيذ أجندة حزبية، فيما تُستغل المراكز الثقافية لخدمة مصالح محددة، وتُلغى صلاحيات مديريها، فتُحرم الثقافة المحلية من أي دور تنموي أو اقتراحي. الميزانيات، التي من المفترض أن تُستخدم لتطوير الفعل الثقافي، تُصرف كأداة “رضا سياسي”، لا لتحقيق أهداف تنموية حقيقية.
النتيجة: مراكز ثقافية مهملة، أدوار مغيبة، وثقافة محلية تموت أمام أعيننا، بينما يزداد تمويل الجمعيات المرتبطة سياسيًا.
السؤال الجوهري: هل الجهوية الموسعة مجرد شعار للتنمية، أم غلاف لتوزيع النفوذ السياسي محليًا؟ الحل يبدأ بفصل العمل الثقافي عن السياسة، وتعزيز الحكامة الجيدة، وترشيد النفقات، مع آليات مساءلة شفافة وصارمة. بدون ذلك، تبقى الجهوية شعارًا فارغًا، وتستمر الثقافة في التدهور.
جيل Z: من التفاهة إلى الفعل الواعي
في زمن تتسارع فيه الأحداث كما تتسارع الإشعارات على الهواتف، يعيش جيل جديد بين الواقع الافتراضي والمادي، بين أحلام عابرة في الفضاء الرقمي، وبين بحث حقيقي عن الانتماء والكرامة. إنه جيل لم يولد في عصر الثورات، لكنه يصنع ثورته الخاصة: ثورة وعي، ومسؤولية، وتغيير سلمي.
مرّ شباب الوطن العربي بسنوات طويلة من الإحباط، جيل تربّى على الوعود المؤجلة، وشاهد كيف تُختزل الكفاءات في الواسطة وتُغتال الأحلام في المكاتب المغلقة. لكن وسط هذا الركام، وُلد وعي جديد، متصل بالعالم، متعلم ذاتيًا، ومسلّح بالمعرفة الرقمية.
كان يُنظر إلى هذا الجيل سابقًا على أنه أسير “الترندات” ومهووس بالمؤثرين، لكن المشهد اليوم تغيّر. أصبح الشباب صُنّاع محتوى واعٍ، يحوّلون هواتفهم إلى منصّات للمساءلة، ومقاطعهم القصيرة إلى أدوات للتأثير الاجتماعي والسياسي. وسائل التواصل التي كانت للترفيه أصبحت ساحة للنقاش العمومي والمحاسبة.
بين الذكاء الاصطناعي والوعي الجمعي
في عالم يقوده الذكاء الاصطناعي، يدرك الشباب أن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد الفساد، بل ضد ثقافة التلقين والتبعية. فجيل Z يعيش زمن الخوارزميات، حيث تنتج الآلات المعلومات وتوجّه الرأي العام، لكن الوعي النقدي يبقى سلاحًا وجوديًا. من يملك المعرفة، يملك القرار والمستقبل.
من الفردانية إلى المسؤولية الجماعية
هذا الجيل لم يعد ينتظر “المخلّص”، بل يبني ذاته بنفسه. يتعلم مهاراته عبر الإنترنت، ينشئ مشاريعه عبر المنصات الرقمية، ويحوّل فكرته إلى مشروع، وصوته إلى حركة. ومع ذلك، لا يزال يواجه منظومة بيروقراطية عتيقة تعامل الشباب كـ”قاصر سياسي”، بينما هو قلب نابض للمجتمع.
وطن يستحق أبناءه
صحوة الشباب ليست مجرد موجة عاطفية، بل لحظة وعي جماعي. الوطن لم يعد فكرة مجرّدة تُرفع في الخطب، بل مساحة يومية من الفعل والرقابة والشفافية. الوطن هو أن تفضح الفساد بدل أن تصمت عنه، أن تبني مشروعك بدل أن تلعن البطالة، وأن تؤمن بأن حب الوطن يكمن في العمل، لا في الشعارات.
رسالة إلى شباب الوطن
أنتم لستم جيل الضياع، بل جيل التحول. لا تسمحوا لأحد أن يختزل وعيكم في “فيديو قصير” أو “هاشتاغ عابر”. استخدموا التكنولوجيا، لكنها وسيلة، لا غاية. ناقشوا، احلموا، شاركوا، وراقبوا. فالوطن لا يُبنى بالصمت، بل بالكلمة الشجاعة والفعل الواعي.
آن الأوان لتكونوا أنتم المعنى الحقيقي للوطنية الجديدة: وطنية الوعي، والإبداع، والمواطنة الرقمية المسؤولة.
الدكتورة نزهة الماموني


شكرا دكتورة نزهة على هذا المقال الجميل