الرئيسيةأخباردلالات البحر ضمن مقاربة في نص : للبحر حكاياه للشاعر محمد سعيد المقدم المجاهد

دلالات البحر ضمن مقاربة في نص : للبحر حكاياه للشاعر محمد سعيد المقدم المجاهد

محمد سعيد المقدم المجاهد

من لونه الأزرق وأمواجه الصاخبة تارة والهادئة تارة أخرى ، من شمسه ورماله وفضائه الأبلج تتواءم ملكة الشعور مع تضاريس الإلهام والموهبة والمهارة لتُكوّن غيوما تمطر صيّبا نافعا من الإبداع الشعري .
الماء مظهر طبيعي ، عميق التأثير في النفس البشرية ، وقديما قيل : ” إنه لم يستدع شارد الشعر كمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي ” وهذه إشارة إلى الشاعرية التي يبعثها الماء في نفس الناظر إليه من الخارج فبالأحرى من يخوض غماره من الداخل
وللحديث عن البحر وعالمه السوسيولوجي ، وإن كانت هذه التسمية اعتباطية لعدم وجود أية جهود نظرية لإنشاء حقل معرفي في علم الإجتماع يختص ببحث القضايا البحرية يمكن النظر إلى مقولة الشاعر محمود درويش بعد تجريدها من سياق النص على أنها مقولة سوسيولوجية : ” البحر دهشتنا ، هشاشتنا / غربتنا ولعبتنا / والبحر صورتنا ” البحر كغيره من ظواهر الطبيعة يدخل في الشعر فتتسع معانيه ودلالاته وتتجاوز الوصف المجرد إلى دلالات تقترن بأحوال الشاعر النفسية والأجواء المحيطة به .
من أهم دلالات البحر التي وجدتها في نص قصيدة : “للبحر حكاياه” للشاعر البحار محمد سعيد المقدم المجاهد : _ شاعرية البحر واستحضار روحه وجماله وتكوينه
_ دلالات الجود والعطاء اللامحدودين
_ دلالات الخوف وتحدي المجهول
_ دلالات الأمل والإيمان بالقضاء والقدر
لقد تمّ النظر إلى هذه الدلالات باستصحاب جوّ القصيدة وشاعرية الشاعر وهو خلق ضعيف يركب خلقا عظيما يتّسم بالغموض والإمتداد الشاسع والقعر المجهول المظلم بصور تفتن القارئ وتغريه باكتشاف مخزونها المعرفي :
للبحر حكاياه ….
من لم يدر مالقياه ..
ماخفاياه ..
لم يعلم أن حناياه ..
عطاياه ..
أنعم كبرى ..
أستوطنت منذ القديم ..
حشاياه ..
في أول مقطوعة يبتدئ الشاعر بجملة خبرية لا تحتمل معنيان ، كون البحر كائن له حكاياته ، ولو أن التعبير مجازي إلا أن طبيعة البحر الديناميكية من مد وجزر وتيارات وأنماط جوية وكائنات حية متنوعة تجعله يبدو وكأن له شخصية لها حياة خاصة تتفاعل وتتغيّر باستمرار ؛ من الثّابت في وصف الشاعر أن البحر هو مصدر خيرات تستفيد منه الجماعات البشرية لكنه في نفس الآن يحذّر من سطوته ، وهنا يتداخل المكان في عالم الشاعر البحار السردي الإبداعي كي يضفي بُعدا من المادية المكانية المتخيلة ، ويساهم في تكوين علاقة استثنائية تصل إلى حدّ التسامح مع عمقه الغامض المجهول إذ يقول :
لم يعلم أن الذين تاهوا ..
في مداه ..
لم يكونوا أبدا ضحاياه ..
إنما هي رحلة إلى المجد ..
عانقت الحلم في سماه ..
ومثلما لليابسة من غابات وأنهار وجبال وسواقي ووواحات سحرها الأخّاذ فإن البحر فضاء للتأمل الشعري الباحث عن الجمال في الخلق الإلهي : ” زرقة تدلّت إلى زرقة ” صورة ذات مستوى أيقوني ، تليها صور لاتخفي انفعالات الشاعر الذي اتخذ من البحر مسرحا لركوب المجهول في جرأة وتحدّ ، صور ذات آثار معنوية عميقة تنقل البحر من حقيقته المادية إلى أخرى شعرية تخالف ما اعتادت عليه العين المجردة ، فهو المهابة في امتداده اللانهائي الذي يبعث في النفس خواطر شتى تفتن القارئ بأنساقها المتضاربة وتدفعه لاستجلاء البنية الكامنة في صور البحر كفضاء للتأملات وتحيل الناقد الأكاديمي إلى الإسترشاد في مثل هذه الدراسات بمقاربات اتجاه السيمياء الثقافية لدى” يوري لوتمان ” والمفاهيم الظاهراتية لدى ” غاستون باشلار ” وغيرهما .
زرقة تدلت إلى زرقة
تنسج أعصر الريح
لا بكفها دنياه ..
خطّت مسارات الأبد
طريقنا بتنا نحياه ..
جسر في المدى ..
من جرأة ..
نحن ذات يوم مشيناه ..
للمدن البحرية تأثير على شعرائها لايمكن تجاوزه ، يقول الفيلسوف الفرنسي ” غاستون باشلار ” : على كل شعرية أن تتلقى مكونات تبقى مهما تكن ضعيفة ذات جوهر مادي ” هنا يؤكد على أهمية مكان الولادة وطبيعتها في التأثير على خيال الشاعر وعلاقته الغامضة بالبحر ، رغم كونه مليئا بالمخالب كما يقول : ” فيكتور هوجو ” ، فالبحر قد تحوّل إلى فصيلة في دم الشاعر ، ومادة لازمة في حياته يحمل انتماءه ويعطيه هوية : أنا البحار والماء معبدي ..
الموج راحلتي ..
الملح أغنيتي ..
والنورس رؤياه ..
كما يعطيه انعتاقا وخلاصا ويحقق حلمه في معانقة الحرية ويمنحه فضاء مكانيا وشعريا جاذبا للمغامرة ، فهو كائن بحري بطبعه وطبيعته ينهل من سلالة الماء وصفاته وطبيعته الخِفّة ، المرونة ، الإنسياب ، الغموض ، الهياج ، الهدوء ، وأحيانا الغضب والنزق حدّ الجنون :
حلم فوق الحقيقة حرّا ..
كامل البهاء عشناه ..
ولأن البحر هو محور التاريخ وفي أعماقه يحتفظ بذاكرة خاصة لعابريه تماما كما يحتفظ بجثث البحارة والعبيد والكنوز والبواخر والقوارب كان من الأمانة أن يشيد الشاعر بأصله العربي المنتسب للقادمين من الشرق فاتحين للمغرب عن طريق البحر لنشر الإسلام في صلابة لا تقهر غير مبالين بالموت في سبيل الفتح :
أنا جندي الأفق ..
أنا ابن القادمين من الشرق ..
والخوف من دربنا قصيناه ..
إن كان في الدنيا وجل ..
من الموت ..
هاكم فتشوا صوتي ..
يخبركم أن الموت لغم ..
تخطيناه ..
وفي المقطع الموالي يجعل الشاعر من البحر كونا تنداح منه شاعريته بل يطوف فيه وقد تقادحت شخصيتهما وتمازجا تمازُجا تلقائيا ، فهو حرفه وقد نشأت بنات شعره بين جزره وخُلجانه ، وهو دماغه وقلبه ، بل غريمه الذي لا يخشاه ، وهذه دلالة من دلالات العمق والثّرارة والخيال غير ذي حدود ، وشاعرية تتحوّل إلى إبداع فني في أنسنة البحر وجعله ضربا من مثيرات الخيال باعثا على تقمّص مشاهد أعمق خيالا وأبعد تصويرا ، لأنه يسعى إلى أغراض يريد تحقيقها من خلال هذه الأنسنة ، أولها تنبيه المتلقي بشكل أو بآخر بما جاء به من أساليب سأذكرها لاحقا وظفها لتجسيد وتقريب الأفكار في صياغة الصور المعبرة .
أنا البحار ..
لم أكتب الشعر يوما ..
أنا حرفه ..
دماغي أنفه ..
قلبي يمناه ..
إذا الريح صفّر في الأعالي ..
فتحنا الأحضان ..
إلى المعالي ..
ثم حضناه ..
إذا الموج يوما كالجبال ..
حنّ ، علا ، جنّ ..
ثم نام وديعا في حضني ..
لأني أخاه ..
من طبيعة البشر أن يكونوا في البرّ ، أما البحر فإنه مما لايألفه الطبع البشري لاتساع قعره ورقعة الماء فيه ، وبُعْدِ أفقه والإحساس بالرهبة عند ركوبه ، لارتباط مفهوم البحر بالظلمة والخوف من غضبه ، لكن منظور الشاعر البحار محمد سعيد المقدم المجاهد يختلف ، ففيه يجد نفسه وماتزخر به من سمات النبل والإحسان والأمل النقي ، بوصف البحر رمزا لدلالات متنوعة تجسد تفاصيل المكان وطبيعة العلاقة بينه وبين الشاعر في مونولوج بديع يُرسِّخُ بدوره مبدأ العطاء من البحر والحب من الشاعر ومعنى الحياة أيضا رغم قساوة الظروف .
النبل زورقي ..
برّ الإحسان مرفئي ..
الامل الزاخر النقي ..
ورقي ..
ألقي ..
كرامتي ..
قصيدتي ..
حرف أعمق من بحر الظلمات ..
من أجلكم أيها السامعون ..
ذات عشق ..
إقترفناه ..!!
معظم قصائد الشاعر محمد سعيد مبلّلة بمياه البحر وأمواجه الصاخبة كما يقول حنّا مينة ، لأن صلته بالبحر وثيقة وليست عابرة ومستوردة ، وأثره به بيّنة ، وكما أورَدْتُ المضامين التي اتصل بها نصه سأُورِدُ في مقاربتي هذه التي تعتمد المنهج التحليلي خصوصيات يمتاز بها وأدوات جمالية تحقّق متعة التذوق في أساليبه ، وأبرز سماتها :
أ_ المعاني والصور : التي اعتمد فيها الشاعر على الرمز كوسيلة من وسائل التصوير الشعرية ، التي منحته القدرة على التعبير عن مختزناته الشعورية بالتلميح تارة والمزج بين الفكرة والعاطفة تارة أخرى ؛ فوضعنا أمام لوحة فنية تشكيلية للبحر مصورا عظمته وقوته وكرمه وتقلّباته فكانت المعاني الرمزية تتراوح مابين الهدوء : (زرقة تدلت إلى زرقة) ، والصخب : (إذا الموج يوما كالجبال) ، الهيبة : (حرف أعمق من بحر الظلمات) ، والتحدي : (اقترفناه) ، الحقيقة : (الموج راحلتي) ، والمجهول : (للبحر حكاياه) …
ب_ التجربة الشعورية : وتتمثل في انفعالات الشاعر وأحاسيسه تجاه البحر وعلاقته ببيئته التي أصبحت القصيدة تسجيلا لها ولمشاعره تُجاهها ، كيف لا وهو يرى ويعايش كل مظاهر عالم البحر وتقلّباته التي حوّلها إلى مشاعر وأفكار وتعابير فنية وموسيقى ذات إيقاع يوائم النص للتأثير على المتلقي وجعله يعيش نفس لحظاته الإبداعية : (حكاياه) ، (لقياه) ، (خفاياه) ، (حناياه) ، (عطاياه) .
ج_ اللغة والأسلوب : تتسم لغة الشاعر بالتنوع ، فقد اختار ما يتناسب مع بنائه الشعري ، مهتمّا بالموسيقى الداخلية باستخدام الطباق : (حنّ # جنّ) ، وتوظيف التشبيه : (الموج كالجبال) ، واستعمال الشرط : (إذا الريح صفّر في الأعالي فتحنا الأحضان) ، كما استعان بتفعيلات خلقت إيقاعات متناغمة تتناسب مع الوحدة العضوية للنص وتعطيها قوة وتأثيرا ، وتمنحه حرية أكبر في التعبير عن مشاعره : (أنا حرفه ، دماغي أنفه ، قلبي يمناه) .
بناء النص : النص عبارة عن عن عمل لغوي فني متكامل ذي قطع متقنة تعتمد على بلاغة الشكل وتلوينات اللغة والنزوع السردي وعوالم التخييل وبنية الإيقاع والتعبير بالصور ، وقد تحدّد شكل هذا النص وفق سعي الشاعر لابتكار صورة منظورة تكوّن بناء هندسيا يحتوي بداخله على كل العناصر اللغوية والتركيبية والصوتية واللغوية .
وأخيرا ، كان البحر ومايزال معينا لاينضب يسقي حاجة الشاعر إلى الجديد والمزيد ، ويقف عند رأس المواضيع الأولى الملهمة له والمشبعة لِنَهَمِه الشعري.

نهى الخطيب
نهى الخطيب

نهى الخطيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *