الرئيسيةأخبارمقالة: ساحات طنجة بوح المكان وجدل التغيير

مقالة: ساحات طنجة بوح المكان وجدل التغيير

حكي ساحة 9 أبريل 1947

ما الذي يمنح الساحات الثقافية ذلك البريق الذي يجعلها قلبًا نابضًا للمدينة، وكيف يمكن لهذه المساحات أن تستعيد دورها كمختبر حيويّ للثقافة والحوار والإبداع بدل أن تتحوّل إلى فراغ إسمنتي بارد يُدفن تحت عجلات التحديث المفرط؟
لطالما اعتُبرت الساحات قلب المدن النابض وفضاء يمنح الإنسان إحساسًا بالانتماء والحريّة. وكما يرى المفكر الفرنسي هنري لوفيفر، فإن «الفضاء العام هو نتاج اجتماعي بامتياز»، أي أن الساحة ليست مجرّد حجر وبلاط وأعمدة إنارة، بل نصٌّ يُكتب بأقدام العابرين وأصوات المتحاورين وألوان الفنانين. هكذا كان شأن ساحات العالم، من أغورا أثينا التي شهدت نقاشات الفلاسفة والحكماء، إلى ساحة “جامع الفنا” بمراكش، التي أدرجتها اليونسكو ضمن التراث اللامادي للإنسانية، مرورًا بساحة “الدوج” بالبندقية التي اجتمع فيها الجمال بالفنّ والتاريخ.
وفي طنجة، مدينة العبور بين إفريقيا وأوروبا، لعبت الساحات أدوارًا لا تقلّ أهمية. تحكي ساحة 9 أبريل 1947 قصة خطاب الملك محمد الخامس ونضال أجيال من أجل الاستقلال، بعدما حملت من قبل اسم “سوق برا” حين كانت ملتقى التجّار والمتسوّقين من داخل الأسوار وخارجها. ساحة المسيرة الخضراء، التي عُرفت باسم “سوق الداخل” سابقًا، لم تكن مجرّد فضاء اقتصادي، بل قلبًا فنّيًا يجذب الحكواتيين والعازفين والزوار من كلّ الأطياف، واليوم بدأ صخبها يخفت أمام جمود التحديث. وحتى ساحة الروداني، التي كانت فضاءً إبداعيًا للشعراء والرسّامين، أضحت اليوم منسية على هامش الزمن.
هنا نستحضر كلمات الكاتب المغربي الطاهر بنجلون الذي قال ساخرًا: «طنجة تُباع قطعة قطعة، حتى شرفاتها وساحاتها تُستبدل بمراكز تجارية تافهة»، وهو نداء يدعونا لنتأمّل مصير الساحات في ظل زحف الاستثمار العقاري الذي لا يُبالي بالذاكرة الثقافية للمدينة.
لا يمكننا الحديث عن ساحة حقيقية من دون الإشارة إلى أدوارها العميقة، التي أشار إليها عالم الاجتماع زيغمونت باومان حين وصف الساحات بأنها «مساحات للسيولة الاجتماعية»، حيث يذوب الجليد بين الهويات المتعددة وتنتعش النقاشات وتولد الأفكار الجديدة. الساحات الثقافية هي التي تُخرج الفن من صالونات النخبة إلى قلب الشارع، فتجعل الموسيقى والمسرح والحكايات ملكًا للناس جميعًا.
ولكي نعيد إحياء الساحات الثقافية بطنجة، لا بد من استثمار هويتها وتاريخها من خلال تثبيت لوحات تعريفية توثّق أسماءها السابقة وأحداثها المفصلية، كي يدرك العابر أهمية المكان ويشعر بالارتباط بالماضي. من الضروري كذلك أن يكون التصميم تشاركيًا، بحيث يُسهم الفنانون والمعماريون المحليون وجمعيات الأحياء والسكان أنفسهم في رسم ملامح الساحات، فتكون انعكاسًا لروح طنجة وليس مستوردة من كتالوج جاهز. ولا بد من إطلاق أنشطة ثقافية دوريّة، من عروض موسيقية شعبية وأمسيات شعرية ومهرجانات للحكايات، كي تتحوّل الساحات إلى منابر إبداع مفتوحة على مدار العام. كما يمكن دعم الاقتصاد الإبداعي من خلال تنظيم بازارات للفنون والحرف التقليدية والكتب، بما يمنح الساحات دورًا اقتصاديًا مكمّلًا لهويتها الثقافية. وأخيرًا، من المهم أن تُعطى أولوية للبُعد الإنساني، من خلال زراعة الأشجار وتوفير المقاعد المريحة وترك مساحات للأطفال والعائلات، كي تعود الساحات فضاءات حميميّة ومحبوبة لدى الجميع.
المدينة الحقيقية ليست شوارع وأبنية فحسب، بل فضاءات تربطنا بأرواح من سبقونا وبأحلام من سيأتون بعدنا. فهل نمنح الساحات الثقافية بطنجة ما تستحقه من رعاية واهتمام؟ هل نصغي إلى أصوات كتّابنا ومفكرينا، أم نترك قلب المدينة ينكمش وينطفئ؟ يبقى الجواب بيدنا جميعًا، ما دام لكل ساحة تاريخٌ يُحكى ومستقبلٌ يُرسم.

منير بنرقي فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *