الرئيسيةإبداعقصة قصيرة: ظل بلا شمس

قصة قصيرة: ظل بلا شمس

ينفتح باب المنزل القديم من الخارج، يمتد ظل طويل من عتبة الباب إلى الداخل، ظِلُّ رجُل ثمانيني يقف منحنيا بشكل يوحي بأنه لم يعد يحاول الوقوف باستقامة أو محاربة الانحناء. لا أحد يتذكر منذ متى دخل في مرحلة الانحناء، ربما منذ تقاعده، أو قبل ذلك بقليل، لكن المتفق عليه أنه حضر جنازة زوجته منحنيا، وكان ذلك منذ سنتين وبضعة أشهر. اختفى الظل داخل المنزل وصار يمتد إلى الخارج عندما أنار المصباح.

أغلق الباب ودخل بخطوات محسوبة، دخل غرفته.. رفع عينيه أخيرا.. الشيء الوحيد الذي يجعله يرفع عينيه داخل هذا المنزل القديم هو الساعة الحائطية الفاخرة – على الأقل بالنسبة له – التي أهداه إياها أحد أصدقائه منذ أربع سنوات، مستطيلة الشكل، تشع عقاربها ليلا ونهارا، تشع فعلا ولا تعكس الضوء كما هو شائع في الساعات الميكانيكية الكلاسيكية.. حتى يتمكن من معرفة التوقيت دون الحاجة إلى استخدام مصباحه الجيبي إذا استيقظ ليلا. ساعة تؤذن عند كل صلاة، وتوقيت أذانها مضبوط باستمرار، موافق للتوقيت المحلي، يتغير بتغير الأيام والشهور والفصول، يواظب العجوز المنحني على شحنها وتنظيفها والاعتناء بتفاصيلها.

كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة تماما، أخرج من جيب جلبابه قطعة خبر وعلبة سمك مصبر. جلس وأخذ يأكل ببطء وامتنان، وترك البقايا لقطته الصغيرة، ناداها عدة مرات: “بس بس بس…”، بحث عنها دون جدوى، وضع البقايا على عتبة باب الغرفة، غسل يديه، ومضمض، خلع سرواله واستلقى على السرير، فنام دون أن يغير وضعية استلقائه الأولى، كأن النوم كان في انتظاره على السرير.

الساعة الحائطية تبعث شعاعا خفيفا في الغرفة، تتسابق عقاربها.. عندما وصل العقرب الصغير إلى الرابعة، بدأ صوت الأذان يصدر من الساعة، يملأ فراغ الصمت، ويغمر قلب العجوز الممتن بالسعادة. يطل على بقايا عشائه، فيجدها كما تركها، ولا أثر للقطة.

يلبس سرواله، يتوضأ عند عتبة المرحاض دون أن يغلق الباب، يمسح ذراعيه ووجهه بفوطة بالية معلقة على مسمار صدئ، يعيدها إلى مكانه، يصلي ركعتين قبل الخروج، يخرج ويغلق الباب دون أن يتأكد إن كان قد أحكم إغلاقه، لم يستغرق الكثير من الوقت للوصول إلى المسجد لأنه لم يكن بعيدا.

جلس في الصف الأول، في انتظار الآخرين، أثناء الجلوس، كان يستدير إلى باب المسجد ليتأكد إن كان أحد المصلين قادما، بدأ يحس أنه انتظر أكثر من اللازم.. كيف لم يأت أحد حتى الآن؟ كان صوت عقرب ساعة المسجد الحائطية الذي يشير إلى الثواني يحاول اختراق الصمت، لكنه يفشل فيصبح صوته تأكيدا لانتصار الصمت.

لا أحد.. لم ييأس العجوز المنتظر من انتظاره..

لا أحد.. يرفع عينيه إلى الساعة الحائطية، الثامنة.. لكن الشمس لم تشرق بعد! يستدير ليتأكد.. الظلام مطبق في الخارج، أليس هذه مستحيلا؟ بدأ الألم يتسلل إلى ظهره بسبب جلوسه مدة طويلة، وقف ببطء وحذر، كاد يفقد توازنه وهو يتكئ على يده المرتجفة، يتماسك، يقاوم للحفاظ على توازن جسمه، وقف أخيرا، صلى وحيدا في المسجد، يخرج حاملا حذاءه، ينظر إلى السماء قبل أن ينتعل الحذاء. رفع رأسه ليرى النجوم تتلألأ في السماء، ابتسم مبتهجا، غمره شعور غريب بالسعادة، تحدث بصوت منخفض كأنه يحدث نفسه، لكنه يحدث الكون: “ألن تشرق الشمس اليوم؟ إلى أين ذهب الجميع؟”

سار في اتجاه عقبة طويلة تؤدي إلى قمة تلة خلف المسجد، أخرج مصباحه الجيبي لينير طريقه.. لقد غادر الجميع، كل أصدقائه الذين يلتقيهم في المسجد، كل الأطفال الذين ينتظرون حافلات النقل المدرسي، كل المقاهي والدكاكين والمحلات التجارية مغلقة.. لا يمكن أن يظلوا جميعا غارقين في النوم حتى الآن، الوقت متأخر، حتى لو لم تشرق الشمس، كان عليهم أن يستفيقوا، أو يستفيق بعضهم، ليشاهدوا هذا الحدث الغريب.

استأنف العجوز طريقه، يلتفت يمينا ويسارا، كأنه يبحث عن كل الأشياء التي فقدها.. وصل إلى قمة التلة بعد عناء، جلس على الأرض يتنفس بوتيرة سريعة، وعندما تبدد العياء، ابتسم، كان النور الوحيد الذي يكسر ظلمة المدينة هو الشعاع الذي يخترق زجاج نوافذ المسجد، يشاهده العجوز مبتسما. التفت إلى جانبه فرأى، على بعد ثلاث خطوات، قطته السوداء في يد طفل، وَجَّهَ مصباحه الصغير ليتأكد.. نعم، طفل صغير قد يكون في السادسة من عمره وفي يده القطة السوداء الصغيرة التي غابت عن وجبة العشاء. تحدث العجوز بعد تردد: “لقد اختفت الشمس.. إلى أين ذهب الجميع؟” فأجاب الطفل وهو يمرر يده يلطف على فرو القطة: “لقد غادروا إلى عالم آخر. سينيرون سماءنا بمصباح كهربائي كبير”.

يونس أعب – المغرب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *