الرئيسيةأخبارمقالة: الأدب ومشكلة الفقر (2)

مقالة: الأدب ومشكلة الفقر (2)

أديب عربي فقير يجلس في غرفة متواضعة يكتب على مكتبه الخشبي وسط أوراق وكتب متناثرة.

تتمة لما سبق ذكره حول قضية  إلصاق الفقر بالأدب نرى أن نستمر في نقاش هذه القضية لكوني تفاجأت – وأنا اتصفح مواقع التواصل – أن الكثير من الكُتّاب تحدثوا عنها  بشكل لافت للنظر ، ولم تزل هذه القضية تشغل بال الكثير منهم و تحاول  أن تجيب بصدق  عن هذا السؤال المطروح : لماذا يفتقر الأدباء ؟ ، وأنا حين كتبت المقالين السابقين ” لماذا يعاني الأدباء ؟” ، و” الأدب ومشكلة الفقر ”  في هذه المجلة الرائعة لم أكن أعرف أني تحدثتُ في موضوع شغل بال الناس قديما وحديثا ، فأنا لستُ ممن له باعٌ في الأدب ، بَيْدَ أني تحدثتُ من وجهة نظري ، وربما اتفقتُ مع الآخرين من باب ” توارد الخواطر ” كما يقال ، عَودا على بدء أقول : لعل ما شفع للقائلين بحتمية اقتران الفقر بالأدب يتجلى في أمور منها : كثرة الأدباء الفقراء – كما أسلفنا في مقال سابق –  وكثرة  الانتاج الأدبي  عن الفقر وآفاته أيضا إلى درجة أننا نجد الكثير من الأدباء لا يخلو أدبهم من قصيدة أو مقطوعة شعرية أو مقالة أدبية عن الفقر أو الفقير سواءً أكان الفقير هو الأديبُ نفسه أم كان غيرُه.!

 

ومما يستدعي إلصاق ظاهرة الفقر  بالأدب والأديب أيضا ، هو ظهور جماعة من الشعراء في العصر الجاهلي سُمُّوا لشدة فقرهم ب: ” الشعراء الصعاليك ” ، والصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له ، وسوف تكون لنا وقفة عند هذه الطبقة من الشعراء لأهمية الحديث عنهم  في الأدب العربي . يقال في اللغة العربية : ” تصعلك الرجل ” إذا افتقر ” ، قال حاتم الطائي :

قضينا  زمانا بالتصعلك والغنى

فكُلَّا  سقاناهُ  بكأسيهما   الدهـــرُ

ويرى ابن دريد في الجهمرة أن أصل الصعلكة هو الفقر ، ( 1) (3/383) ،  ولكن د. يوسف خليف يخالفه الرأي ويرى أن الفقر ليس أصلا للمادة ولكنه الطور المعنوي الذي يأتي بعد الطور الحسي . مشيرا في ذلك إلى أن أصل الكلمة هو الصغر والانجراد ، وقد استدل في ذلك بما قاله ابن فارس اللغوي في معجم مقاييس اللغة من أن :” الصاد والعين واللام أصيل يدل على صغر وانجراد ”  (2) ، و ” هذه الحروف الثلاثة هي أصل مادة  ” صعلك  “، وبين المادتين تشابه في معانيهما ، فالصَّعْلُ : الصغير الرأس من الرجال والنعام ، وحمارٌ صعلٌ أي ذاهب الوبر .(3)  ( مقاييس اللغة 3/286)

“وهو يتصعلك أي يفتقر كأنما تجرد من ماله ، وبدا ضامرا بين الناس… ” ( 4) ( لمزيد من التفاصيل حول هذا المعنى ينظر : كتاب الشعراء الصعاليك ، د.يوسف خليف ، ص 21، و22 ، وما بعدهما ، ط/ دار المعارف ، 1966)

-الشعراء الصعاليك :

والشعراء الصعاليك هم جماعة من الفقراء اتخذوا من الترصد بالأغنياء ، والأغنياء البخلاء خصوصا  مهنة لهم فكانوا يغيرون على قوافلهم فيأخذون الأموال بالقوة ويقسمونها بين الفقراء والمحتاجين ، فرغم أن هجومهم على أموال الأغنياء لا تؤيده الفطرة السليمة والخلق الإنساني النبيل لكن توزيعهم لأموال الأغنياء البخلاء الذين يضنون على الفقراء بالبذل والعطاء يجعل من ذلك التصرف نوعا فيه  تحقيق للعدالة الاجتماعية كما يتضمن نزعة إنسانية تتمثل بإحساسهم بمعاناة الآخرين .

ومن طريف ما ذكر د. خليف في كتابـه  “أن عمرو بن برَّاقة الهمداني يغير على إبله وخيله رجلٌ من مراد فيذهب بها ، فيأتي عمرو فيغير على المرادي فيستاقُ كل شيء له وهو يقول :

تقول سليمى : لا تُعرِّض لتلفـَـــهُ

وليلك عن ليــل الصعاليك نائـــمُ

 

وكيف ينامُ الليلَ من جُلُّ مالـــهِ

حسامٌ كلون الملح أبيض ُ صارمُ ؟

 

ألم تعلمي أن الصعاليك نومُهــــــم

قليلٌ إذا نام الخليُّ المســــــالـــــــمُ ؟! (5)

(5) ( الشعراء الصعاليك ، المصدر السابق ، ص24)

وقد استدل د.خليف أن معنى الصعلكة في الأبيات وسياقها لا تدل على الصعاليك الفقراء المساكين وإنما تعدت الدائرة اللغوية لتدل على أن الصعاليك هنا هم ” أولئك المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في السلب والنهب والإغارة بينما ينعم الخلِيُّون المترفون بالنوم والراحة والهدوء .” (6) ( المصدر السابق ، ص 25) .

والحديث عن أولئك الشعراء وغاراتهم على الأغنياء مثيرة وذات شجون ولها صور فنية ، وتعطينا صورة عن طبيعة الحياة والعلاقات الاجتماعية و قسوة البيئة الجغرافية أيضا في ذلك الزمان الغابر ، وقد كُتِبَ عن الشعراء الصعاليك عدد من الدراسات والأبحاث لعل أهمها وأشملها في تقديرنا هو كتاب د.يوسف خليف الذين أشرنا له واقتبسنا منه بعض النصوص .

وقد سقنا الحديث عن الشعراء الصعاليك لنستدل- من باب الاستئناس – أن من رأى حتمية التصاق الفقر بالأدباء والشعراء لعله بدأ من الشعر الجاهلي ومن شعر الصعاليك تحديدا ، وللسادة القراء والمختصين في هذا الشأن أن يشيروا علينا فيما لم نحط به علما ، والسلام .

يونس نعمان اليماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *