الرئيسيةإبداعقصة قصيرة: عندما زارني نيتشه

قصة قصيرة: عندما زارني نيتشه

مشهد أستاذ فلسفة مغربي داخل فصل دراسي مظلم، مع رجل يشبه نيتشه جالس في الخلفية.

الساعة تشير إلى التاسعة وخمس دقائق، الحجرة شبه مظلمة، فقد أتلف التلاميذ ثلاثة مصابيح من أصل أربعة، و تركوا الحجرة بعين واحدة كالمسيح الدجال! العيون المرمصة شبه مغمضة والأفواه في تثاؤب مستمر،  تنبعث منها روائح تسقط الطير من عليائه. غدا المكان أشبه ما يكون بمخدع  كبير. أحدق في وجوههم فأرى أجسادا بلا عقول، آلات نائمة! لم يجيئوا عندي، أنا، مول الفلسفة كما يسمونني، إلا مرغمين،  ربما إرضاء لأولياء أمورهم  أو خوفا من صفعات الحارس العام القوية!

أطرح سؤالا حول فكرة شرحتها وفصلت فيها بما فيه الكفاية، و لا من يجيب! أعيد طرح السؤال ببساطة أكثر و لا من يجيب ..أشير إلى تلميذة تحرص دائما على الجلوس قدامي .

– عائشة،  لماذا اعتبر نيتشه طاليس أول فيلسوف ؟

-مممم، لأن طاليس أول فيلسوف .

( يضحك الآخرون)

لم أحر إليها جوابا . و ماذا عساي أقول! .قلت في سري : لمن تتلو مزاميرك يا داود؟! ، و هذه التلميذة التي عقدت عليها أمل تحريك عجلة الدرس ، و ضخ دماء جديدة في الفصل ذكرتني بالمثل القائل ” آلمزوق من برا آش خبارك من داخل”..

كم هي مهمة شاقة أن تدرس الفلسفة في هذا البلد السعيد!

في الوقت الذي أحاول فيه تجاوز هذه الخيبة ، و البحث عن وسيلة أخرى لإيصال فكرتي إلى هؤلاء الذين ابتلاني بهم الله و ابتلاهم بي ، طرق باب الحجرة .

توجهت صوب الباب معتقدا أن الطارق هو التلميذ خالد الذي تعود أن يأتي متأخرا ، و في نيتي أن أصب عليه جام غضبي ، فتحت الباب منفعلا ..وجدتني أمام المدير و معه شخص خلت أني التقيته من قبل ، لكن أين و متى؟ الله أعلم . صافحت المدير و مرافقه. انتظرت من المدير أن يعرفني على الرجل ، لكنه لم يفعل ، و توجه إلى الأخير : تفضل! الحجرة حجرتك .

رأيته يذهب ،استغربت الأمر ،  زاد انفعالي ، ناديته :   آسي عبد الرحيم من يكون الرجل ؟ ..التفت  إلي مبتسما  : من بعد أ أستاذ ، من بعد ، خليها مفاجأة !

لعنته في سري . و دخلت قسمي دخول السجين إلى زنزانته. اتخذ الرجل مكان خلفيا ، تماما كما يفعل المفتشون . فكرت . أهو المفتش زارني ؟ و إذا كان المفتش فلم لم يعرف نفسه ؟

أ أكون ارتكبت خطأ جسيما فأرسلوا لي هذا ليقيم عملي ؟ ثم ماذا يعني المدير بالمفاجأة ؟ اللعنة !

عدت إلى مكتبي ، جلست لأستعيد توازني ، أخذت الكتاب المدرسي ، و طلبت من تلك المزوقة من برا أن تعيد قراءة النص عل و عسى أن يفهم هؤلاء الذين ابتلاني بهم الله و ابتلاهم بي لماذا اعتبر نيتشه طاليس أول الفلاسفة.

شرعت عائشة في القراءة ، و أنا أتابع ما تقرأ حرفا حرفا ، كلمة كلمة ، جملة جملة… فجأة أثارت انتباهي صورة صاحب النص. أقصد صورة نيتشه. تذكرت الرجل ، الرجل الذي جاء به المدير ، الرجل الجالس في الخلف، رفعت رأسي و مسحته بنظرات متفحصة ، أنظر إلى  الصورة و أنظر إلى الرجل ، أنظر إلى الرجل و أنظر إلى  الصورة :  الشارب الكث نفسه ، و الشعر المسحوب إلى الخلف ذاته.. صورة طبق الأصل .يا الله ! ما هذا التطابق ؟! يكاد يكون هو ، سبحان من خلق من الشبه أربعين !

التلميذة تقرأ و أنا خلفها ، أشرح من جديد كل فكرة من أفكار النص ، و أقوم إلى السبورة و أدونها ، أشرح بالفصحى و بالدارجة و بدارجة الدارجة حتى لا يحشمونني مع هذا الرجل ذي الملامح النيتشوية .

بعد شرح مستفيض ، و عرض مفصل ، و وقوف على دقائق الأمور و جزئياتها ، زغبني الله و طرحت سؤالا على تلميذ لاحظت متابعته لي و انتباهه منذ دخول هذا المفتش أو الملاحظ أو النيتشه أو لست أدري ..سألته: ما معنى أن فكرة إرجاع كل شيء إلى الماء هي ما جعل من طاليس أول فيلسوف؟

– لأن بالماء نتوضأ و نصلي و الله خلقنا لنعبده وحده ..

-يكفي ، يكفي …

تفاديت النظر إلى  الرجل ، احمر وجهي ، و انتفخت أوداجي ، و لعنت الوجود و ما عليه ، تمنيت لو انشقت الأرض و ابتلعتني ، و لم ينقذني من هذه المصيبة الكحلة سوى رنين الجرس ، فانفض الجمع من حولي  ، ككلاب بافلوف عندما تسمع الجرس.

خرج التلاميذ و بقيت وحدي مع الرجل ، الله يخرج العاقبة على خير ( قلت في نفسي ) . ها هو الرجل يتقدم إلى مكتبي ، ها هو أمامي ..

– تحية ديونيزوسية !

(السيد واضح أنه متأثر بنيتشه ، و علي أن أجاريه في أفكاره كي لا يكنش لي تقريرا سيئا، هكذا فكرت في سرعة الضوء)

-تحية باخوسية !

ابستم ، و بدا أن كلماتي وقعت في قلبه موقعا حسنا.

– إنك تدرس بدمك يا أستاذ و هذا شيء نادر ..

– لقد كان نيتشه يفكر و يكتب بدمه

– ههه نعم ، يبدو أنك نيتشوي يا أستاذ

– قليلا هه

– لم تسألني من أكون!

– أنت مفتش مادة الفلسفة الجديد أليس كذلك ؟

–  لا ، لست مفتشا و لا مراقبا و لا ….

(مقاطعا) – من تكون إذن ؟

– أنا نيتشه بلحمه و دمه ، و قد بعثني ديونيزوس برسالة إليك ..

– نيتشه ؟! غير معقول ، لا يمكن !

– كل شيء ممكن يا أستاذ ! أصغ إلي جيدا فوقتي معك ضيق و محسوب ، يقول لك ديونيزوس ” درس بذكاء، و لا تذهب نفسك على تلاميذك حسرات ، و اهتم بصحتك و جسدك ..”

قبل أن يكمل كلامه رأيته يتقلص شيئا فشيئا ، يتقلص ، يصبح في حجم كرة قدم ، ثم في حجم كرة المضرب، تشتعل كرة المضرب نارا ، تطير ، ترتفع نحو السماء ، تبتعد ، تبتعد أكثر …تختفي.

يوسف بوكرين
يوسف بوكرين

يوسف بوكرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *