لم تكن لي في يوم من الأيام نيّة الكتابة في جنس القصّة بكل أنواعها، لولا أن قادتني الصُّدفة إليها. ارتميت مثل الكثيرين من أقرَاني مُبكّرًا، وأنا في المرحلة الثانوية، بين أحضان الشعر العربي القديم، بكل ما يجرُّه معه من أشكال وأوزانه وبُحور وقوافي، لأن القصيدة كانت دائمًا وأبدًا عشقي الأوّل. وقبل ذلك، كنت مهووسًا بكتابة الرّسائل والخواطر، وتفنّنت في تطريزها، حتى أن كثيرًا من أصدقائي كانوا يطلبون منّي الإطالة فيها، لأنهم يجدون مُتعة كبيرة في قراءتها، وفق ما أسرَّ لي به البعض منهم. كل ذلك، حدث في مرحلة مرَرنا بها ذات مُراهقة طائشة في الثانوي، وقبلها عشنا مراهقة أخرى أكثر طيشًا في المرحلة الإعدادية.

كان طول بعض تلك الرّسائل يصل إلى حدود الورقة المُزدوجة أو يزيد قليلا، ثم بدأت أضيف إليها ملاحق ورقية بيضاء، أنزعها نزعا من دفاتر ملخصات الدروس. ثم بعد ذلك، بدأت أضيف إليها صُوَرًا ملوّنة تحمل وُجوها رياضية من عالم كرة القدم وأخرى فنية شهيرة: بوب مارلي، بوب دايلن، كات ستيفنز وغيرهم. ووجوه أخرى تنتمي إلى عالم السينما والتلفزيون والطرب العربي، تحمل في الغالب صور فنانين مشهورين وفنانات حسناوات وجميلات من فرنسا، لبنان، سوريا ومصر تحديدا. كنت أعمل على تقليعها قلعا من مجلات فرنسية ومصرية أقتنيها ضدًّا في قلة ذات اليد وخواء الجيب من خَرْدَوات مكتبات فاس ومكناس، لأنها كانت رخيصة بالمُقارنة مع أثمنتها الحالية أوّلا، وثانيا لأننا كنا نُتقن الفرنسية، ونحن في الابتدائي والإعدادي عكس تلاميذ اليوم، فما بالك بالمرحلة الثانوية وما جاء من بعدها من مراحل.
وحدث في إحدى المرّات، أن نبَّهني موظف في إحدى وكالات البريد بمدينة تازة، حيث درست المرحلة الثانوية، إلى أن رسائلي قد لا تصل إلى وجهتها المرغوبة، وهي تحمل الطابع البريدي بالنظر إلى ثقل وزنها، حينها توقفت عن عملية المُراسلة وتبادل الرّسائل، هي التي كانت هوايتي المُفضّلة، كما كان الأمر بالنسبة لغيري ممّن عاش تلك الفترة، وأنا شاب في المرحلة الثانوية.
وحدث أن وصلتني قصة: “الغُراب” للقاص أحمد بوزفور بطريقة أو بأخرى، وجدت في أحداثها وشخوصها ما لم أجده في غيرها من القصص التي سبق لي أن قرأتها، ثم بدأت أعيد قراءتها بلهفة وعشق كبير، وكأنني أنا من كتبتها وليس بوزفور، لأنه لم يكن يفصل بيني وبين فضاءاته القصصية وأمكنته في الجغرافيا، وأبطال قصصه وشخوصه في الواقع أكثر من مرتفع صخري يغلب عليه الطابع الغابوي، هو الفاصل بين قريتنا وباديته التي ولد فيها، ومنها كان يستوحي السّي أحمد شخوص وأحداث قصصه الأولى.
المرتفع الذي يفصل بين قريتنا “أيلة” والقرية التي ولد بها بوزفور، هو عبارة مرتفع صخري ليس هضبة ولكنه أقرب إلى سلسلة جبلية تمتد من تاونات من جهة الغرب إلى تازة في الناحية الشرقية، قد لا يتجاوز علوها الألف متر ونيف في أحسن الحالات، كما أحداث أخرى وقصص إنسانية متشابهات. أحسست بعد ذلك، أن أغلب القصص التي تتضمنها مجموعته البكر “النظر في الوجه العزيز” تحكي بشكل فعلي عن شيء قريب من شخصيتي، وترى ما لم أكن أراه من جمال في قريتي، هو الذي كنت أعتبره شيئا عاديا في عوالم باديتي.
كنت أكاد أتحسّس قلم العمّ أحمد بوزفور الذي كان يكتب به، وأصغي إليه بأذني وهو يكتب بطريقته السهلة، التي لم تكن كذلك أبدا. كنت أدركه بعقلي وألمسه بيديّ، وهو يكتب قصصه انطلاقا من بيئة تشبه بيئتنا، ونظام أنثروبولوجي متشابه لا يختلف كثيرا عن عاداتنا الاجتماعية. وكأنّني كنت ساعتها شبيها له، وهو لا يعرفني أو هو من كان يشبهني، وأنا لا أعلم بذلك، من يدري؟
وعمومًا، كنا نتشابه أنا والسي أحمد في فضاءاتنا والشخوص القصصية التي تحيط بعوالمنا، قبل أن نلتقي ونتعارف في مدن كثيرة بمهرجانات وطنية للقصة القصيرة، واكتشفت حينها أننا فعلا نتشابه في أمور وطباع كثيرة. ولم يكن قبل ذلك في العالم الافتراضي فرق يذكر بيننا، لولا أنه كان يكتب القصة القصيرة، وأنا لم أكن أفعل حينها. ومن هنا جاءتني فكرة كتابة القصة القصيرة كجنس أدبي، وقلت مع نفسي: لماذا لا أجرّب كتابة فنّ القصة القصيرة؟ وكانت هذه الانطلاقة الحقيقية في مُمارستها كبلوى فنّية جميلة.
كانت بعضُ هذه الأقاصيص تلبسني أحيانا، وفي أخرى تعرّيني وتقرِّبني من حقيقتي، ولكنها في النهاية كانت تعيدني بهدوء إلى أحضان طفولتي في دوّار “أيلة”. كنت طفلا بدويا صغيرًا يعتني بالماعز في القرية الرّيفية، وإن لم يكن لنا قطيع نعتزّ بها كغيرنا، ولكنني كنت أحفظ القرآن الكريم في الكُتّاب وأدرسُ في المدرسة، ولكنني أرعى بعض الغُنيمات والعَنزات في العُطل الصيفية بين الأحراش وعلى جنبات الوديان الصغيرة. وكانت أقدام بعض نظرائي في القرية تدميها الأشواك ولا تتجه نحو المدرسة، يسوقون قطعانهم إلى الغابات القريبة والجبال المُسنّنة التي تعلو قريتنا من جهة الشمال غير بعيد عن جبال الريف، هي التي كانت حصننا المنيع، وتحرس دوار “أيلة” قريتي من السُّيول الجارفة في فصل الشتاء.
كل شيء في قصص بوزفور كان يذكرني بطفولتي وبعض صباي، وقليل من جنون مراهقتي وبداوتي الأولى: رعي الماعز، طريقة تهييئ الشاي، كُرّيش الغابة، فاكهة ساسنو الشتوية، بيت الضيوف الخارجي الطيني، فقيه المسجد العجوز، عرق جباه الرجال والنساء والمناجل بين أياديهم، وهم يكافحون من أجل لقمة العيش في حقول القمح صيفا، الأقدام الحافية، حنان الأب وبطشه مع خشونته القروية، الطريق الموحل إلى المْسِيد في الجامع، ثم المدرسة بعد ذلك. وهكذا بدأت بوصلتي تتجه تدريجيا إلى كتابة القصة القصيرة، لأننا لم نكن نعرف أجناسها ولا أحجامها، إن كانت طويلة أو قصيرة أو قصيرة جدا. كنا نكتب حسب المزاج والطريقة التي نرتضيها لأنفسنا، قبل كتابة قصصنا إن شكلا أو مضمونا.
وحدث أن كتبت مقالا اجتماعيا في جريدة “الاتحاد الاشتراكي” التي كنت أعمل مراسلا متعاونا معها ذات زمن تسعيني، نال إعجاب الكثيرين من القرّاء في فاس، وأشاد به كل من قرأه أو اطلع عليه. ولكن ما لم يكن مُنتظرًا، هو أن أحد الأدباء جاء عندي ونبهني بمحبة فائقة يومها، فيما يشبه الملامة، إلى أن ما أكتبه أقرب إلى جنس القصة، وليس إلى جنس المقالات الصّحفية، وعلي أن أستغلّ هذا المُيول أكثر في المجال الأدبي، وليس في المجال الصحافي.
الصدفة الثانية ستكون مع العم أحمد بوزفور نفسه في إحدى المكتبات الشهيرة بمكناس، حيث التقى نظري مرة أخرى مع اسم نفس القاص، ومجموعته القصصية: “النّظر في الوَجه العزيز”. اقتنيتها من دون تردّد بعشرة دراهم سنة 1984م، قرأتها بشغف وحُبّ كبيرين لها ولكاتبها الذي لم أكن أعرفه، ولم يسبق لي أن التقيت به من قبل، وهو نفس الحب الذي لازلت أكِنُّه لشيخ قصّاصينا السّي أحمد بوزفور أطال الله في عمره. اختليت بها ساعة ونيف في إحدى المقاهي، بعيدا عن ضوضاء الناس وفضولهم، ولم أرفع عيني ولو دقيقة واحدة إلا بعد انتهائي من قراءة كل صفحاتها.
هذه القراءة، أثارت فضولي أكبر في التعرف على هذا الجنس الأدبي الجديد الذي اسمه “القصة القصيرة”، خصوصا وأننا كنّا قد شبعنا من قراءة الأشعار والروايات في المرحلة الثانوية والجامعية. وكان أغلب كتابها مشارقة، لو استثنينا روايات مغربية قليلة كتبها عبد الكريم غلاب وأشعار خطها محمد الحلوي أو روايات الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي والصفريوي باللغة الفرنسية. وجدت أنه بإمكاني خوض المغامرة في هذه التجربة، وراقني كثيرا أن أقرأ لبوزفور على الخصوص قصة: «الرّجل الذي وجد البرتقالة” بكل مضامينها وإشكاليتها الفنية والمجازية ورموزها السّيميائية. ومن هنا كانت البداية، ثم جاءت الاستمرارية بعد ذلك مع القصة القصيرة كتابة ونقدا، تجربة إبداعية أثمرت عدة مجاميع قصصية.
شكرا للعم أحمد بوزفور الذي أنقذني من شرنقة الصحافة، وكان له الفضل في الاتجاه إلى كتابة القصة بأنواعها، لأعود مرة أخرى من حيث بدأت، بعد اللقاء بالشاعر محمد السرغيني، شاعر يكتب القصيدة كما يتنفس الهواء، ولكن دون أن أتخلى هذه المرة عن كتابة القصة بمختلف أجناسها..!!
قلم: إدريس الواغيش