” ظلالٌ مضاعفةٌ بالعناقات” تنبثق من هذا العنوان لوحة، تختزل الكثير من الصور والمعاني التي تراكمت في هذا الديوان الجديد وربما في ذهن الشاعر الفلسطيني ابن القرية الجليليَّة، نمر سعدي، ثم انبثقت شموسا تنير دروبه الأدبية والشعرية، وتؤثث فضاء قصائده بأشكال وصياغات من اللغة والمرجعيات الشرقية والغربية. نمر سعدي لا يكتب قصائد ذات ثيمات تندرج في أغراض الشعر المصنفة والمتفق عليها بين الشعراء، بل ينسج عالمه الحاضر بخيوط من عوالم شتَّى، من أرض فلسطين. القديمة وسماء أورانوس، وأثقال المسافرين بين القرى المقدسية والجليليَّة، ومن التفاتات العاشقين الى عيون الصبايا الدامعة في لحظات الوداع.
إن قصائد نمر سعدي محملة بعبء الماضي وأنين الحاضر وأحلام المستقبل الثائر على سياقات اللغو والخطابات المحمومة بلغة الكسر والنصر المؤجل. إن كلماته تبدو كمسالك عبور إلى من سبقوه من الشعراء، إلى العاشقين، الصامدين بلغة العشق، بلغة الإثم ولغة الفجر الموعود على جدران البيوت وقباب المساجد ونواقيس الكنائس وضفائر الأمهات.
” … شوكُ ليلِ السياج الذي يحرس الورد والمستحيل…
…وصايا الحبيبات والأمهات مخضبةً بدموع يديكِ،
ومسكونةً بصراخكِ أو بسماءِ الجليل…”
ظاهريَّاً يبدو شعره مكتفياً بالعشق والبكاء، ككل شعر عربي يغرق في بحور الغزل والرثاء، لكنه في الحقيقة يثأر من الغضب والعنف والدمار، بقصائد وجدانية تعيد إلى الإنسان إنسانيته والى اللغة جناحيها، لتحلق بين روافد الحضارات وتستقي شيئا من حكمتها ومن جمال إبداعاتها وآثارها الشاهدة على الإعمار والحياة.
ربما أراد نمر سعدي بناء جسور مع أغراض الشعر والأدب والسفر، عبر تهجين لغته بمصطلحات من التراث العربي والإغريقي ومن التراث الإنساني الذي تراكمت طبقاته وتداخلت تعبيراته وفنونه وتحولت الى خزان من المعارف والأساليب، ينهل منها كل عاشق للحياة والفن.
“…وصَّتني أمي بالشمسِ
الخضراء وبالورد العالي
…وصَّتني حين أضيع بأن
أستهدي بحنيني الزاجل… ”
“…وحينَ أحسَّ الغريبُ بوخز جمال صباح البلاد
وحين العناقيدُ كانت تضيءُ طريق الحرير ”
” … دلَّت على أثري غيومٌ فوق أزرار القميص…”
قصائد نمر سعدي، نصوص شعريَّة تجمع بين رشاقة اللغة وانسيابية الإحساس، تتخللها المعاني القوية، متدفقة ببراعة وحبكة العارف المتمرس. انه يلتقط التفاصيل من يومياته، من طفولته، من حكايا الجدَّات، من الهزائم والانتصارات. يجمع نمر سعدي بين الأضداد، إذ يتجول في قصائده بين الأحلام والطرقات المقدسية، بين الجليل وسماوات الخرافات… إنه يسافر بنا من ضفيرة إلى حقل ومن عصفور إلى ساحة وغاء، يتسلق جبال الأساطير وينزل الى مقابر الشهداء، ليجمع رفات القصة الأولى في صندوق الوطن الساكن قلب القصيدة.
المرأة، الوطن، الطير، الحلم والكابوس كلها ثيمات حاضرة بغزارة في قصائده، ولكن بتقنيات ودلالات متعددة تحيل القارئ على مرجعيات أدبية وفنية ساكنة في مخياله، دون أن تثقل كاهل النص. وهذه الانسيابية الشعرية توصله الى بلاغات متميزة تمكنه من كسر الأشكال النمطية للوطن والمرأة خاصة أنها من المواضيع التي تكرَّرت في ديوانه، لكنه استطاع تطويع الصور حسب سياقات قصائده، ليجعل منها عناصر تؤثِّث البعد الجمالي للنص أكثر من الوقوع في الترميز المستهلك.
“…مفرطٌ في تسلق شرفاتِ المدن العالية
مفرطٌ في مزاجيتي المتقلبة كريح أيلول…”
“…كبرت بقلب طفل يطارد الفراشات…
…حياتي حلم معطوب…”
“…وحدي مثل نهر في العراء، القلب خبط فراشة
والأغنيات صدى اشتهاء…”
“ويكتبُ أحلى استعاراتِ قلبي
على حجرٍ في جبال الجليلِ
على جذر نهرٍ،
على خصر غيمة…”
“…أقولُ للغصنِ الذي في الريحِ: هل اقوى على مطر يهبُّ
عليَّ وحدي في مدار الزمهريرِ
…وهل سأنبتُ من خطاي…؟”
هذه الطاقة الشعرية، المتدفقة في زمن العنف والابتذال هي مجد المبدع الفلسطيني نمر سعدي ومجال حضوره على الساحة العربية والعالمية، وهذا المرور السلس من القصيدة النثرية الى العمودية، ما هو إلا مجازفة المحارب العاشق المارق على التقاليد، بحثاً عن أسلوب ثائر ومسار وعر، يخطو منه وعبره إلى مواطن الشعر الإبداعي ليكون، إمضاء يسجل به انتمائه لأرض المبدعين التي أنجبت درويش وكنفاني.
هذا المسار والمصير يسكن الشاعر ويكاد لا يغيب عن كل قصيدة، رغم أنه يتفادى بذكاء المبدع التصريح به، فيتوجه إلى البعد المجازي، إلى تكثيف الصور: ” منمنمات عاشق ” ، ” مملكة الفراغ “، ” حبق الأغنيات “، ” سنابل قمح الأنوثة “، “شاعرة الضجر الأزرق “…وغيرها من الاستعارات التي تحمله من حال إلى حال ومن فكرة إلى مرجعية و من مشهد إلى فضاء (بالمعنى التشكيلي للكلمة) فالكتابة الشعرية عند نمر سعدي مبنية على الصورة الاستعارية، وهي ليست مهرباً، إنما هي روح شعره و جسد قصائده. تلك الروح التي تعانق الأزمنة الغابرة وتعيدها الى أزمنة الحاضر بهجانة أطيافه وكثافة أبطاله العالقين في عشق هذه الأرض- القصيدة. ربما هذا ما أختاره نمر سعدي لشعره، أن يكون فضاء للعودة الى صور اللغة الأولى تلك الثريَّة بضلال العشق وتعانق المجازات.
بقلم: د.مفيدة الغضبان
أستاذة جامعية في علوم وتقنيات الفنون / جامعة قرطاج / تونس