في أعماق التجربة الإنسانية، تتجلّى ثلاثية فريدة: العقل، والعمر، والجسد. هي محاور تدور حولها حياتنا، لكن نادرًا ما تتآلف في رقصة متناسقة. كل بُعدٍ منها يشدّ الإنسان في اتجاه مختلف، وكأنها أوتار مشدودة تتنازع بين الانسجام والصراع.
العقل هو المنارة التي تقود الإنسان نحو ضوء الحكمة. يحمل الأفكار كأشرعة تعانق الرياح، ينسج الأحلام، ويرسم الطموحات، لكنه كثيرًا ما يجد نفسه مكبّلًا بقيود الجسد أو محاصَرًا بجدران الزمن. كم من فكرةٍ لامعة وأملٍ كبير اصطدم بواقع الجسد الذي أعيته الأيام، أو بعمرٍ يمضي سريعًا، لا ينتظر أحدا.
العقل هو جوهر الإنسان، لكنه يتوق دائمًا لما هو أبعد من إمكانياته، وكأنّه يسعى للخلود في جسدٍ فانٍ، ويصارع الوقت الذي لا يعرف سوى الفناء.
الجسد هو الحاضن المادي لروح العقل، لكنه محدود، سريع التأثر، يذبل بمرور الأيام كزهرةٍ عانقها الخريف مبكرًا. الإنسان يستهلك جسده في مقتبل عمره، معتقدًا أنه خزانٌ لا ينضب، ليفاجأ لاحقًا بأنه أضاع قوته في غفلة. وما أصعب اللحظة التي يثور فيها العقل بالأفكار بينما يُعيقه الجسد الذي أنهكه الإهمال.
العمر هو الزمن الذي يمضي بلا عودة، كالنهر الذي لا يرتدّ إلى منبعه. إنه المقياس الأكثر خداعًا؛ يمنحنا وهم الوفرة في البداية، ثم يفاجئنا بنضوبه في غفلةٍ. نعيش أعمارنا بين انتظارٍ دائم للغد وندمٍ على الأمس، دون أن ندرك أن الحاضر هو اللحظة الوحيدة التي نملكها حقًا.
العمر لا ينتظر أحدًا. يرحل كأنه لا يُبالي، ويترك الإنسان بين أطلال أحلامٍ لم تتحقق، وجسدٍ فقد قوته، وعقلٍ يعاتب الأيام التي لم تُنصفه.
بين العقل، والعمر، والجسد، تكمن مأساة الإنسان. عقلٌ يسبق الجسد، وجسدٌ ينهار تحت وطأة الأيام، وعمرٌ يمضي دون رجعة. هذا الصراع ليس عيبًا في الطبيعة البشرية، بل هو جوهرها. الإنسان كائنٌ يعيش في مفارقة دائمة، يطارد انسجامًا بين أبعادٍ تتنافر بطبيعتها.
رغم صعوبة التوازن، يبقى تحقيقه ممكنًا لمن يسعى ويعي القيمة الحقيقية لكل منها. أن يتعلم الإنسان كيف يقدّر جسده، فيحافظ عليه كأداةٍ تمنحه القوة لاستيعاب طموحات عقله. أن يُدرك قيمة عمره، فيستثمر كل لحظة فيما يُغني حياته وجعلها ذات معنى.
أما العقل، فهو قائد هذه الرحلة. هو الحكمة التي تُوجّه الإنسان نحو إدراك حقيقة الزمن، وحتمية التغيير، وضرورة القبول. حين يتعلم العقل أن يصالح الجسد، ويُصادق العمر، تنكشف أمامه أبوابٌ جديدة للحياة، أبوابٌ لا تُفتح إلا بالتوازن.
ثلاثية العقل والعمر والجسد هي لوحة الإنسان المرسومة بيد الزمن. قد تكون ألوانها متنافرة، وقد تضيع معانيها أحيانًا، لكنها تحمل في تناقضها سر الحياة. فحين يفهم الإنسان أن انسجام هذه الأبعاد لا يعني الكمال، بل القبول الواعي بالتناقض، سيعيش حينها في سلام وتوازن مع ذاته.
إنها رحلةٌ تبدأ بالعقل، تسير عبر الجسد، وتنتهي بالعمر. وفي كل لحظةٍ منها، نختار: إما أن نعيش أسرى هذا الصراع، أو أن نحوله إلى رقصة متناغمة تُجسد المعنى الحقيقي للوجود.
هشام فرجي