في كتاب المغربي سعيد بودبوز، الموسوم بـ “بين ضفة السراء وضفة الضراء..مقاربة سيميائية” الصادر عن مكتبة سجلماسة بمكناس المغرببية عام 2011، الذي خصّصه لتقديم قراءة في المجموعة الشعرية “هم الآن يكنسون الرذاذ” للشاعر بن يونس ماجن، نقف على أسئلة جمّة تحتاج من قارئه إلى مزيد التبصّر بحدود إجاباتها، وذلك لاتصالها بمجال السيمياء، وهو مجال معرفيّ غزير المصطلح، متشابك المفاهيم معقّدها. وسنسعى، في إطار تقديم هذا الكتاب، إلى التبسّط في بعض المصطلحات التي هي من السيمياء آلتُها إلى ابتناء معنى المكتوب.
في كتابه النقدي الجديد، الذي خصّ به مجموعة “هم الآن يكنسون الرذاذ” للشاعر المغربي بن يونس ماجن، لاحظت سعي الناقد إلى تشريك القارئ في فكّ شيفرات الكتاب وتركيبها، عبر حجج نقدية واستدلالات وجيهة، وهو كتاب يزيد من تألق العملية النقدية وتوهجها، ويشكل، وفق رأي جميل حمداوي: “إضافة هامة للمكتبة السيميائية المغربية، حيث لا يمكن لأي كان الاستغناء عنه إطلاقا، نظرا لأهمية هذا الكتاب معرفيا ومنهجيا ونظريا في مقاربة النص الشعري تشريحا وتركيبا، وإن سطحا وإن عمقا، وإن فهما وإن تأويلا”.
لا ريب، أن المكتبة العربية أيضا، وليست المغربية فقط، تكاد تفتقر إلى هذا النوع من الكتب. لقد اعتمد الناقد تقنية الفصول للإحاطة الكاملة بخبايا الكتاب المنقود، فبدأ بتوطئة مبتسرة، لكنها مكثفة، ومحرضة للقارئ للمضي به قدما في قراءة هذا الكتاب وفصوله، فشرح له-أي للقارئ- في ذلك الفصل الموسوم بـ”التوطئة” خطة عمله بعد أن أحاطه بأجواء الديوان المنقود، ثم أنهى كتابه بخاتمة، وأدرج، مقاطع للديوان المنقود في الملحق بعد أن كرس لهذا الأمر برمته فصولا ثمانية لمفردات تعتبر مفاتيح بالنسبة إلى المنهجية التي ستقوم عليها قراءته لهذا الديوان.
الكتاب يشتمل على تحليل وازن وعميق لمقاطع مستلة من متن ديوان “هم الآن يكنسون الرذاذ”، ولتقديم صورة حية عن عمل الناقد، سأتوقف هنا، وبعجالة، عند تلخيص سريع للفصل الأول فقط، حرصا منا على عدم تقسيط أو تجزئة متعة القراءة التي سيكتشفها القارئ بحواسه الخمس بعد أن يقوم بقراءة العمل بنفسه. ففي الفصل الذي تطرق فيه لمفردتي “البحر” و”المطر”: يستهله الناقد بمقتطف للمسعودي لشرح ثنائية البحر والمطر في أعتاب هذا الديوان تأكيدا منه على العلاقة الدلالية والرمزية العميقة بين مفردتي البحر والمطر وعلى مكانة الماء في الفكر الأسطوري القديم وتناصا مع الآية القرآنية “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، وبعد الشرح والفحص الدقيق جدا لمقاطع مائية في هذا الديوان يؤكد الناقد على أنه إلى جانب الوظائف الخطابية والتقريرية والواعية التي تؤديها مفردتا “البحر”و”المطر” هناك وظائف منطقية ورمزية ولاواعية موازية في عمق النص، ليخلص في المجتبى إلى إدراج هذا الفصل في حقل”السراء”.
إن الناقد اعتمد في كتابه نهجا مغايرا لأسلافه من النقاد عندما قدم لقارئه نقدا ثقافيا خلاقا، تحليلا وتركيبا على حد سواء، كما أشار إلى ذلك الناقد السعودي عبد الله الغذامي في كتابه “النقد الثقافي”، وذلك بتوسيع دائرة النقد الأدبي ليصبح نقدا ثقافيا لا أدبيا فقط. ونأى بودبوز بذلك نفسه قدر الإمكان من الولوج في ذلك الفخ أو الشرك اللعين، بأن آثر الابتعاد عن تلك النخبوية المقعرة البلقاء التي انتهجها جُلُّ من سبقه من النقاد في المعمورة العربية، إذ كانت من سمات تلك النخبوية نفور القارئ-أي قارئ- من كلمة “نقد”.
ولعل أوقع وأبلغ ما قرأته في هذا الصدد جملة لكاتب لم أعد أذكر اسمه قال فيها: “عندما أسمع بكلمة نقد أتحسس مسدسي”. لما كانت تنطوي عليها تلك الكتب النقدية من زج عرمرم لمصطلحات ونظريات يكاد لا يفهم منها الناقد المختص ذاته إلا النزر اليسير. وجاء كتاب “بين ضفة السراء وضفة الضراء…مقاربة سيميائية” ليساهم في إلمام القارئ بأدوات الناقد، وليساهم يقينا هذا الكتاب تاليا في تثقيف القارئ والكاتب تثقيفا موظفا ومبرمجا لاستبيان مواطن الضعف والقوة في النص المنقود.
هذا، بالإضافة إلى القدرة العجيبة على المحاججة وإقناع القارئ لإفهامه خطته المتبعة في تحليل وتأويل نصوص الكتاب المنقود، ومن ثم تركيبها، أو كشف أوالياتها ومراميها وأبعادها القريبة والبعيدة على حد سواء عبر لغة نقدية رصينة محقّقة للمتعة والفائدة.
نحن في هذا الكتاب إزاء ناقد متمكن ورصين، مخلص وأمين للعملية النقدية، لكننا في المقابل، إزاء كتاب شعري مراوح، يفتقرإلى أبسط المقومات الشعرية. فالمعادلة غير متكافئة في وجه من وجوهها الهامة، لكن، وما هو مؤكد، أن سعيد بودبوز قد أشبع ذلك الكتاب الشعري شرحا وتحليلا وتأويلا. لم يتوقف هنا فقط، بل حمَّل أشعار بن يونس ماجن ما لا تحتمل حقيقة، وأمام ذلك، سرعان ما وجدتني عرضة لسيل منهمر من الاستفسارات، كنت أتساءل في إحداها مثلا، حول ما إذا كان بودبوز راضيا كناقد عما جاء من شعر في كتاب بن يونس ماجن؟ . إذ بدا الأمر لي، وكأن ناقدنا لا يعنيه في شيء استواء أو كمال المادة الإبداعية الشعرية.
نعلم جميعا أن الفن عموما، والشعر خصوصا، عملية خلق واكتواء وابتكار، ومن ثم خرق للسائد والمألوف والممجوج من المفردات والصور والاستعارات والكنايات!. ولا غرابة، فالناقد يوضح لنا ذلك صراحة من خلال هذا المقتبس الذي جاءت عليه في التوطئة: “الطرح المباشر على حساب الطرح الفني لنصوص هذا الديوان اختلط فيه السردي بالشعري، فهي سردية وشعرية ونثرية، في الوقت نفسه، وعبارة عن خواطر في بعض الحالات”.
عمران عز الدين أحمد