حين خرجت من فاس مُسافرًا، كنت وحيدًا كذئب مُنفرد. لم يكن قصدي أن أحمل جُبّة باحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، ولا قبعة الفيلسوف والسّوسيولوجي أغست كونت-Auguste comte، ولا باحثا في علم النفس السياسي والاجتماعي أو التطوّر الإنساني. لم أسافر خبيرًا اقتصاديًا لتقييم الوضع الاقتصادي والمعيشي عند السكان في المدن والقرى المغربية، ولا صحافيا يتتبع أخطاء الحكومات المغربية المتعاقبة في تنزيل برامجها التنموية بالقرى النائية، ولم أكن في كل ذلك صانع محتوى يتلصّص على هفوات المستشارين والبرلمانيين ورؤساء الجماعات، يبحث عن جمع أكبر عدد من المشاهدات واللّايكات. ذهبتُ مواطنًا عاديًا شغوفًا بالسّفر، وكنتُ في رحلتي مُسافرًا زائرًا ومُستكشفًا مُحِبًّا لبلده، كان مُبتغايً الوحيد الاستطلاع والاطّلاع عن قُرب، ومعرفة مناطق جغرافية من وطني، ومدن مغربية كنتُ أجهلها مع أنها تسكنُ القلب.
أعترف أمامكم أنني لا أملك شيئا عظيمًا أبوح به، ولا معلومات حصرية جمعتها لأقدمّها لكم، هو وطني ووطنكم، أعرفه أنا كما تعرفونه، جزئيا أو كليا، أنتم كذلك، ولكن أحببت أن أشارككم أحداث رحلة جميلة ومُتعبة، بدأت من حاضرة فاس، وانتهت في مدينة العيون وضواحيها بالمرسى ثم فم الواد، وكانت نيّتي ألا أقف إلا وأنا أمام بناية الجمارك في الكركارات، ولكن لكل شيء قدر ونصيب. الأطلس كان دائما ملهمًا لنا نحن المغاربة، في الشعر كما الطرب، وأنا واحد منكم. وقد كان مُحفّزًا لنا على مقاومة الاستعمار الفرنساوي، ولنا فيه بطولات وأمجاد، وخضنا في جباله ووديانه معارك في مواجهة جيوش الاحتلال الفرنسي، وانتصرنا فيها، رغم قلة الزّاد والعتاد، ولذلك فأنّ حُبّه مغروسٌ في قلوبنا منذ نعومة طفولتنا، هي التي لم تكن أبدًا ناعمة.
عشقنا هواء الأطلس، بُحيراته وجريان وديانه، بياض الثلج في قمَم جباله، واخضرار أشجار الغابات فيه. أحبَبنا أهازيجه ورَقصاته، خفّة دم قروده وذكاؤهم، وطقوس أناسه الطيبين الظرفاء. كنت كثيرا ما أعاتب نفسي على أنّني كنت مُقصِّرًا في حقه، وكنت كذلك فعلا، وبالتالي لم أكن أعرف، وأنا المُحِبُّ للسّفر والتّجوال، كثيرًا من مناطقه السّياحية الرائعة، يقصدها السّياح من أقاصي الأرض، ولا أفعل أنا المواطن المغربي المُقيم فيه: زاوية أحنصال، إملشيل، سد بين الوديان، أفورار، أزيلال، تنانت، دمنات إلخ. أجزاء غالية من مغربنا العزيز، عزّ عليّ الوصول إليها في وقت سابق، وتعدّدت أسبابي بين ذاتية وموضوعية.
من فاس، قصدت مدينة بني ملال باكرًا، هي التي كنّا نتوجّه منها رأسًا إلى مراكش، وننسى الباقي. عبرت مدينتي إفران وخنيفرة الجميلتين، وما بينهما من قرى وحواضر: سيدي عدي، مريرت، تغسّالين، آيت عتاب، زاوية الشيخ وغيرها. ومن محطة بني ملال، نصحني كثير من خبراء الجغرافية وخرائط الطرقات في المنطقة، بالتوجه رأسا إلى قرية واويزغت الجبلية في الأطلس المتوسط، إن كان قصدي سد بين الوديان، وكان لا بد من صعود طريق صعب وواقف عبَر جبل “تِيزي”. هالني أن أراه مُنتصب الهامة أمامي في شموخ، ظننت أنه سيفاجئني فجّ أو مَمرٌّ مُلتوي بين جبلين نمُرّ منه، وإذا به طريق واقفٌ تكثر فيه مُنعرجات حادة في الصُّعود، كأنها “أناكوندا” تلتوي وسط أشجار غابة البلوط، وأنا هنا لا أنصح الغير المتمرّسين جيّدًا على السياقة بالمُجازفة والمرور منه.
في قرية واويزغت، آلمتني رُؤية أشجار اللوز اليابس. كنت أعرف أن الأطلس لم يعد بتلك الخضرة العنيدة، ولكنني مع ذلك صُدمت. بدت لي ملامح الهشاشة الاجتماعية واضحة عن قرب، جرّاء توالي سنوات الجفاف، وتباطؤ في النمو الاقتصادي للسّاكنة. وهي ذات الملامح التي سترافقني عبر مدن ومراكز حضارية كثيرة، بداية من قرية بين الوديان نفسها، حيث يتوجّع سد بين الوديان من الجفاف، وجدته حزينًا على غير عادته، يتمدّد ماؤه قليلا وراء حاجزه الإسمنتي بشكل يائس، تنغمسُ جنباته في لون الوحل وترابه البنيّ اليابس على الجنبات، بعد انحسار الماء عنها بشكل لافت. الأمرّ من ذلك، أنه لم يستفد من التساقطات الأخيرة، قيل لي أن مرّت من زاوية أحنصال رأسًا إلى سدّ الحسن الأول. وكم آلمني أن أجد حقينته المائية في أسوأ حالاتها، قليل ماء تبدّل لونه، ولم يعُد كما اعتدنا أن نراه في الصّوَر على اليوتوب وشاشة التلفزيون، تغيّر لونه من الأزرق إلى الأخضر.
من هناك، انطلقت وسط غابات أطلسية مختلفة، عما تعوّدت عليه في غابات الأطلس المتوسط بإيموزار كندر، إفران وأزرو. شاهدت غطاء غابويا مختلفا عمّا ألفت رُؤيته في الأطلس المتوسط. أشجار لوز وعَرعار، وقليل من شجر البلوط وسط تربة يغلب عليها اللون الأحمر. في مثل هذه الأسفار المتقطعة، التي يفرضها عليك الأمر الواقع، إما أن تكون معك سيارة أو رفيق طريق يصاحبك، وإلا عليك بالصبر قليلا مع محنة الـ”auto-stop”، وتحمُّل عواقب يَمّ وَحادَتك. قطعت ما يقارب الكيلومتر مشيًا على الأقدام، انطلاقا من قرية بين الوديان إلى قنطرة السدّ الذي سُمّيَ باسمها، عند ملتقى الطريق القادمة من أفورار في اتجاه مدينة أزيلال. كان عليّ أن أمرّ من نفق مُوحِش تحت الجبل، ولو أنه قصيرُ المَسافة، في منطقة لا أعرف عنها شيئا، غير طيبة أهلها. قال لي أحد الرجال المحترمين ممّن صادفتهم في قرية بين الوديان، أنه ابن المنطقة ويقطن بالدار البيضاء، ولكنه لا يزورها إلا نادرًا، كي لا يرى حال السدّ على ما هو عليه اليوم، هو الذي ألِفَ رُؤيته، كما تعوّدنا على رُؤيته جميعًا، مُمتلئ بحَقينة من الماء فاقعة الزُّرقة. هناك، نزل شخص من سيارة، وسألني سائقها عن شلّالات أوزود، قلت له:
– “إنها وجهتي، ولكنني مثلك أو أكادُ قليلا، لم يسبق لي أن زُرتها من قبل، إنها المرّة الأولى…“
قال لي: “ولا أنا رأيتها، أنا مثلك تمامًا، مشتاقٌ إلى رؤيتها…“
صعدت السّيارة بعد موافقته، وانطلقنا معًا، كانت ترافقه زوجته. عرفت من خلال حديثي معهما في الطريق، أنهما قادمان من الدار البيضاء في زيارتهم الأولى للمنطقة. وقبل أن نصل إلى مدينة أزيلال، أوقفنا طفلان صغيران يدرسان بإحدى الإعداديات في المدينة. حملناهم معنا، وكنا نسألهم عن كل شيء نجهله. وكانا بدورهما، يجيبان في براءة أطفال الأمازيغ المتأصّلة فيهم على استحياء عن كل شيء. يا الله، كم كانا ظريفان ولطيفان، ولكن قبح الله الفقر.
في أوزود الأطلسية، تناولنا الغذاء مجتمعين، قبل أن أشكرهم على صنيعهما، وافترقنا بإحسان ومعروف. المنطقة تغري فعلا بالزيارة، ولست أدري كيف رجعت بي ذاكرتي في لحظة إلى أربعين سنة إلى الوراء، ذكرتني بزمن تارودانت الجميل. كنت هناك في العطل القصيرة والآحاد أشبه بمُرشد سياحي بين إغرم وتافراوت، بفضل ما اكتسبته من طلاقة في اللغة الإنجليزية. كنت أصاحب السياح من العجم، أرافقهم إلى الإقامة معهم في فنادق مشهورة وراقية في تافراوت، أكادير، تارودانت، مراكش وورزازات، وهذا مكنّني أن أصاحب شابّا يملك بازار كبير في الجزء العتيق من مدينة تارودانت.
كان إرسال البطاقات البريدية يومئذ موضة، كنا نرسلها في الرسائل إلى الأصدقاء والأحباب في الأعياد والمناسبات. في أحد الأيام تركني في البازار، ودّلني على أثمنة السلع، وحين كنت أشك في ثمن بضاعة، كنت أجد مُبرّرا حتى لا أبيعها. سألتني سائحة من النّمسا عن ثمن بطاقة بريدية مُكبّرة قليلا لشلالات أوزود، قلت لها أن هذه الشلالات ليست في المغرب، فقالت لي بإصرار وتعجب: “بلى، أنها توجد في بلدكم“. قلبت البطاقة على ظهرها، وإذا بي أجدها في morocoo، وبقدر ما افتخرت بذلك، لمت نفسي وعاتبتها، ولكن الأهم من كل ذلك، هو أنني بعتها بورقة نقدية قيمتها ربع دولار.
ومن يومها إلى زيارتي الأخيرة، وأنا أعاتب نفسي في صمت، على أنني لم أزر منطقة جميلة مثلها، وها قد فعلت أخيرًا، بعد مضي ما يقارب الأربعين عاما. وجدت أوزود المنتمية إداريا إلى جماعة آيت تكلا قرية هادئة وجميلة، وهي معروفة على الخصوص بشلالاتها الشهيرة، هوائها النقي وكثرة حقول الزيتون، وأشجار العَرعار على جنبات الطريق، على عكس باقي مناطق الأطلس المتوسط. شلالات أوزود تشكلت من مياه منابع وادي تيسخت الذي يجري على رواسب حمراء من العصر الجوراسي الأوسط إلى غاية عصر الجوراسي العلوي، وتصب على شكل شلالا مذهلى في رؤيتها من ارتتفاع 110 متر، ويوجد على جانب ضفتيها فنادق مصنفة، بعضها من خمس نجوم، ويقصده الأغنياء والمشاهير من عالمي الفنّ وكرة القدم، وأخرى غير مصنفة مع دور للكراء، مثل كل الأماكن السياحية في المغرب، وكل ما يطلبه الزائر، وهي منطقة جديرة بالزيارة. أغلب السياح يأتونها من مراكش على متن دراجات نارية كبيرة أو حافلات سياحية كبيرة ومتوسطة، إلى جانب المغاربة.
في الصباح، واصلت الطريق نحو قرية تنانت، هناك تذكرت أيضا صديقي محمد الكاموس الرائع، متعه الله بطيبة نادرة، كنا كمدرسين في سوس الأقصى، نختلف على كل شيء إلا على طيبة وصفاء قلب هذا الرجل. ومن هناك، تابعت الطريق إلى مدينة دمنات التابعة إداريا إلى إقليم أزيلال، هي التي كنت إلى عهد قريب أعتقد أنها عمالة مستقلة، وصولا إلى مشارف عاصمة النخيل مراكش. وأنت في طريقك من أزيلال إلى تنانت، يؤلمك من حين لآخر، رؤية منظر أشجار اللوز والزيتون اليابسة، مشاهد فرضتها التقلبات المناخية في السنوات العشر الأخيرة. وحدها أشجار السدر صامدة، تواجه آثار جفاف في السنوات العجاف. وفي دمنات، اختلطت عليّ الأمور، لم أجد مدينة عتيقة وأخرى جديدة، كما هو متعارف عليه في مدن تازة، فاس ومكناس. في المدينة تقسيم مختلف، تتوزع المدينة بين “البيرو”، المنطقة التي تتجمع فيها مصالح الإدارات العمومية في هضبة علوية، ثم بعدها المدينة بشقيها الجديد والقديم في الجزء السفلي. دمنات مدينة القبب والهضبات بامتياز، وقد لا تتعجب، إن وجدت حقل ذرة أخضر، وبجانبه جرار واقف ينتظر صاحب الحقل، وأنت تتجول جيئة وذهابا بالموازاة مع الشارع الرئيسي في المدينة. وعلى مرمى البصر من قلب المدينة، تنتصب أمامك جبال “رات” الشامخة، سلسلة جبلية تجمع بين الأطلسين الكبير والمتوسط، على امتداد لا متناهي بين مدينتي دمنات وورزازات. وسلسلة جبال “رات” تنتمي، كما قيل لي، إلى الأطلس الكبير الأوسط، وفيها ثلاث قمم: أولتوم، تيسكت نايت عبدلي، جامع نايت ربي 3789م.
في الطريق من دمنات إلى مراكش، باغتتني الهشاشة المناخية مرة أخرى، فيما يشبه أجواء الصيف أو الصحراء، وتظهر بشكل جلي أجواء الجفاف، أشجار الزيتون واللوز تئنّ واقفة من وطأة الحرّ وقلة ماء السقي. مرَرت على وادي تسّاوت بقنطرته الصغيرة، ثم وادي تزارت. في تنوع هذا الغطاء الغابوي والنباتي، دلالة على غني المغرب وفرادته في الجوانب الأخرى: الثقافة، اللهجات، العادات، المناخ، التضاريس وحتى الطبيعة، إلخ. ما أن يدبّ اليأس إلى قلبك، حتى يفاجئك الاخضار في كل كيلومتر تقطعه، من فاس إلى أحواز مراكش. في مركز سيدي رحال، تذكرت طفولتي في دوار “أيلة”، تذكرت كيف كان أولاد سيدي رحّال يجوبون الدواوير بجلاليبهم المُخططة والألواح بين أيديهم. كانت نساء مختلف القرى تستقبلهم مُستبشرات بقدومهم من أجل طلب البركة، الأولاد، البنات والرزق للفقيرات منهنّ، وما على النساء إلا أن يخترن بين كل هذا. ولكنّ فقهاء المساجد من جهتهم، لم يكونوا كذلك، كانوا على النقيض تمامًا، يحاربونهم بكل الوسائل المُمكنة، ويحذّرون النساء والناس من سِحرهم وشيطنتهم. كنا نحن صغار في الجوامع لا نعرف شيئا عمّا يجري من حولنا، ولكن ما أن نراهم، حتى نستبشر بقدومهم، كنا نعرف أن فصل الصيف على الأبواب، وهذا ما كان يهمنا من قدومهم، لأن وصولهم إلى “أيلة” كان يتزامن مع أواخر فصل الربيع، وهذا يعني أن العطلة على الأبواب، سواء عندما كنا في الكتاب أو عندما انتقلنا بعد ذلك إلى المدرسة. ولم نعرف أن الأمر لا يغدو أن يكون تضاربا في المصالح بين الطرفين إلا وقد كبرنا، وهنا انقطع وصولهم مع نهاية السبعينيات.
عند الوصول إلى وادي غدات، وجدناه طريَّ الفيضان، لا يزال يحمل ما تبقى من مياه التساقطات الأخيرة، وهي قادمة في طراوتها من ملتقى أعالي الأطلس الكبير، المتوسط شمالا والكبير جنوبا، قبل أن ينتهي بها المطاف في محطتها الأخيرة في زرقة المحيط الأطلسي.
في مركز سيدي رحال، بدأنا نرى ملامح مغرب آخر مختلف، تغيّرت معالم الطريق التي بدأت مع مُغادرتنا مدينة بني ملال. حين استفسرت أحدهم بجانبي، أجابني بالقول: “وما العَجب؟ إنها جهة مراكش، إحدى عواصم السياحة العالمية”، وقال لي راكب آخر متأسفا، ونحن في سيارة الأجرة الكبيرة: “كلما وجدت طريقا رديئًا، اعرف أنك في جهة بني ملال- خنيفرة..“. في مركز أولاد حسّون، بدى وادي الحجر يجر حمولته نحو المحيط ثم بعده وادي أوريكة، وهما من روافد وادي تانسيفت. هناك تبدأ فعلا ملامح مراكش الحقيقية، سيارات فاخرة ومختلف الأنواع من الدراجات النارية من الحجم الكبير، ريضان فاخرة وفنادق مصنفة وفلل، بدأت تظهر حمرة تربة وتكثر معها أشجار النّخيل، إنك على أبواب مراكش، قبل أن تجد نفسك ملفوظًا في باب دُكّالة بمدينة سبعة رجال. لا عجب، إنك الآن فعلا في مدية مُرّاكش.
إدريس الواغيش