الرئيسيةإبداعقصة: توبة من ضلالة

قصة: توبة من ضلالة

قصة بعنوان : توبة من ضلالة

دخل منزله على الساعة الثانية عشرة ليلا، ذات ليلة باردة شيئا ما، ليلة من ليالي بداية موسم الحرث، والكل ينتظر السماء أن تجود بغيثها الرفيع، فغشي غرفته الخاصة، تلقف رواية ” الفقراء ” للروائي الروسي دوستويفسكي، وأخذ يستوي على فراشه، رفع بصره شيئا ما، فإذا بشخص وقف أمامه، وقفة مستقيمة، بلامح جادة وحادة، في موقف حزم وصرامة، كما يعرف بهما أثناء لحظات ما، في ردود أفعاله، أو حين يريد الحديث بكلام يقر به تصوراته وسلوكاته، بعيدا عن بعض النماذج ممن ينتحلون صفات معينة، بمظهر لا يخامر الإنسان شكا في كونه ذي مبادئ وأخلاق عالية، في المروءة والرجولة والفضل، كأنه هو، أو شبيه له، حتى الشبه صار طبق الأصل، وفي لحظة ما انمحى الشبه كلية، حيث لا شيء يوحي بهذا الشبه أصلا، الوجه بالقسمات المعلومة، وجه نضر، به شحوب خافت، وجه يميل إلى شبيه بواحد ينتمي إلى خلطة من ملامح العرب المشارقة وممن ينتمون إلى المغارب، عينان غائرتان شيئا ما، لكنهما بحسب شكل الوجه توحيان بالقبول، ببشرته التي تميل إلى البشرة الآرية، أنف معقوف وطويل إلى حد ما، لكنه بشكل حسن، لا يفسد النظر إليه، ذقن مستطيل، قامة شيئا ما تميل إلى الطول لا إلى القصر في شيء، نحيف نحافة بسيطة، وزنه أقل بعشر كيلو وزيادة بالمقارنة مع قياس طوله، لم تسعفه الحميات الغذائية الصحية في الزيادة من وزنه، رغم محاولاته المتكررة، فحدث نفسه بشيء من العجب، هذا الشخص ليس غريبا عني، وتساءل مع نفسه: من يكون هذا الشخص؟ أليس بي غشاوة؟ أم أنني أصبت ببعض من مس؟ أهو جن تلبس لبوس شخص آدمي يتراءى لي شخصا أعلمه علم اليقين؟ ماذا يريد مني؟ فيما يريد أن يحدثني وهو على هذه الحال التي تشي بشيء من الجدية والمعقولية الزائدتين على المألوف؟ وليس هذا فحسب، بل أنه تخيل نفسه أمام قاض من قضاة محكمة، جاء ليحاكمه بعد تفويض من قضاة معتمدين، انتدبتهم هيئة قضائية خصيصا للنظر في قضيته، فرفعت قضيته إلى هذا القاضي، الذي لا يهادن ولا يداري في أمر كل قضية من القضايا التي تعرض عليه، خاصة وأنها ليست ككل القضايا التي يبت فيها كما هو معلوم، كل القضايا التي تعرض أمام أنظار القضاء، بردهات المحاكم لها مقوماتها الخاصة، لا يمكن الخروج عن حيثياتها، هناك أطراف لهم مصلحة ما، أشياء مادية أو معنوية تكتب على أوراق ملف، تكون موضوع نزاع، تدعي مشروعية لأخذ حق مهضوم ومسلوب، أو تعويض عن مسؤولية تقصيرية، أو درء مفسدة، أو رد عدوان، أو إعادة حالة كما كانت عليها دون ضرر، أو قصاص في حق من ارتكب جنحة أو جريمة ما، أو رد اعتبار شرف كرامة ذات إنسانية، أو نظر في طلب رجوع لبيت الزوجية … يترافع من أجلها بين أطرافها، أو من ينوب عنهم، وتصدر فيها أحكام مختومة بأختام الهيئات القضائية المعنية بالنظر فيها، وهكذا ترد المظالم وتؤخذ الحقوق، أو تسوى قضايا وديا بين الأطراف …
بدأت أسئلة تتناسل وتتقاطر في مخيلته من جديد، كيف لي الإفلات من العقاب؟ أأنا مذنب حقا؟ ما الجرم الذي ارتكبته حتى أحاكم؟ ولماذا أحاكم أصلا، وأنا الذي لا أجرؤ حتى على قتل ذبابة أو خرق قاعدة أخلاقية أو اجتماعية في حياتي اليومية؟ الكل يشهد لي بالاستقامة الأخلاقية والاجتماعية، هل سلكت سلوكا أرعنا ولم أكترث لعاقبة من عواقبه؟ هل كتبت شيئا ما، أستحق عليه محاكمة ما؟ وإن كان هذا واردا، لا أذكر أني كتبت مقالا أو دونت تدوينة على جداري الفيسبوكي أو في أي موقع تواصل اجتماعي، تعمدت فيه المس بالمقدسات المعلومة، بقدر ما أنني أكتب، وكل كتابة تحتمل الجدال والنقاش والسجال من وجهة نظر ما لا غير؟ …
أراد أن يفك كل شفرات المشهد بكل ما أوتي من قوة ذهنية وفكرية، إلا أنه لم يتوفق في تحديد أي إجابة عن سؤال من أسئلته، ولا استطاع أن يخمن، لماذا هذا الشخص أتاه في هذه اللحظة بالذات من هذه الليلة القارسة، وقد اشتد بردها وزاد عن ما كان في بدايتها، فاستبدت به قشعريرة خوف، وحلت به رجفة في جسمه كله، ويداه تتنملان، ورجلاه تتناوبان حركات لا إرادية، تارة اليسرى فوق اليمنى، وتارة أخرى اليمنى فوق اليسرى، ولا أوحي له أي تأويل لهذا المشهد الذي أفزعه، من جراء المخاوف التي استشعرها، فبدا شاردا، لا يعرف ماذا يقدم ولا يؤخر قولا، ولا كلمات، انحبس لسانه، وأخرس ذهنه، دون أن ينبس ببنت شفة، ولا ثمة لحظة للتفكير والتأمل، ولا استطاع، حتى، أن يتمتم بحروف ما، استسلم لأمره، ولا غالب إلا الله، لا يدري كيف سيبدأ هذا الشخص بمحادثته، وكيف ستكون محاكمته، هل عادلة أم ظالمة؟ هل قضيته كباقي القضايا المعهودة بردهات المحاكم، أم أنها قضية من نوع خاص، لم يعرض مثيل لها قبلا على أنظار القضاة؟ كيف له أن يحاجج، وكيف له أن يعرض دلائله ودفوعاته بشيء من الحصافة والرصانة؟ …
فجأة، بدأ هذا الشخص في توجيه الخطاب إليه، شاهرا سبابته، وكأنها رصاصة مصوبة بين عينيه، قائلا : أنت الآن متهم، قد تسأل عن طبيعة التهمة، أو أحرى، تهم متعددة، وهذا من حقك، قد تخال نفسك .. لست مذنبا في حق أي كان، أو أنك لم ترتكب جرما، أو جنحة في حق أحد .. أو أنك لست مجرما إطلاقا، سواء بالفطرة أو بالاكتساب، وأنك بريء براءة الذئب من دم سيدنا يوسف عليه السلام، وأنك لم تخطئ خطأ قط، سواء في حق قريب أو بعيد، وأنك سيد نفسك في كل الأحوال، تزن مواقفك أيما وزن، سواء كانت ذهنية، أو سلوكية أو اجتماعية … قد تقول أنا ببصيرتي اليقظة على الدوام، أقرأ عواقب أفعالي وسلوكاتي ومواقفي، وإني فطن للغاية، وإن لدي نظر نافذ، أغوص به إلى خفايا الأشياء ودواخلها، وإني ذو فراسة لا تخطئ أطلاقا، وإني لا أقدم على شيء إلا وتبصرته مليا، أراه من كل جانب، واستقصيه لأضعه على مشرحة دماغي، وعلى طاولتي عقلي، لأعقل كل جوانبه، فإن كان به ما ينفعني وينفع كل ما على الأرض، أومن به وأعتقد فيه الخير، فأفعله وأترجمه على أرض الواقع في علاقاتي بكل الموجودات، أكانت إنسانية أم حيوانية أم بيئية، وإن كان به ما يضر، ولا خير من ورائه أعدل عنه، وأتركه حينا، وإني خلقت لأجل أن أنفع ولا أضر، ولا أريد علوا في الأرض ولا فسادا، وإني أفكر فيما يصلح لنفسي وللغير، وإنني كوني العقل والمحبة … كل ما أرساه العقل الإنساني من مبادئ وأخلاق إنسانية، أنهل منها دون كلل، وأغرف منها دون ملل، ما استطعت إليها سبيلا، وجهدا، كل معتقداتي وإيماناتي تصب في خدمة الإنسانية، تنبذ كل تعصب، وتأنف من العدوان، وتشمئز من كل كريه، وتنفر من القبيح، ومن كل ما به سماجة .. وكل ما من شأنه أن يصيب الإنسانية بخيبة أمل، حتى مع نفسي لا أهادن، صارما بقدر مبالغ فيه … هذا وغيره، والذي سوف أسرده عليك، إضافة من خلال هذه النقط التالية … إلا أنه هذا لا يمنع من أنك ارتكبت جرما في حق نفسك، تستحق عليه محاكمة، هل تعلم لماذا؟ لأنك أجرمت جرما فظيعا، نلت به شقاء الوجود، عاقبت نفسك بما ليس لك فيه الحق أن تأخذ بصدده قرار العقوبة، أجهزت على نفسك دون اعتبار لأشياء وعوالم لا تعلمها، علما يقينا، ولا تدرك حكمتها من وراء ما قصده الحكيم الخبير، العلي القدير، السميع البصير … سعيت اعتمادا على قدراتك الخاصة، وعلى ما كنت تتوهم فعله أنه سيكون من صنعك وحدك، ولا اعتبار لقوة تدبر أمورك وأمورنا جميعا على الوجه الأفضل، لم تقرأ برجك بشكل عقلاني، وبمنطق السببية والغائية وفق الحكمة الإلهية، تزامنا مع أقدار الآخرين، فكيف لك أن تعلم الخير من الشر، ولم تحسب لعالم يتفاعل فيه الخير والشر على السواء، بحسب ما اقتضته القوانين والنواميس على خشبة الموجودات، فظننت سوءا إلى حد الجحود بالنعمة، أنك لم تنعم بما رغبت فيه، وما أملته، مزهوا .. ومعتدا، بما فاض في عقلك من معارف وأفكار، فأصبحت تحاكم المصير الذي أنت عليه وتشتم الأقدار التي أدت إلى سبله، في حين أن ما أنت عليه هو الخير ذاته، هو ما استقرت عليه سفينة برجك في ملاذ آمن، هل كنت تدري أنك سوف تكون في مأمن من الغواية، لو ساقتك أقدار أخرى إلى غير ما أنت عليه الآن؟ هل كنت واثقا من أنك سوف تلجم شيطان أهوائك وأنت تتطلع إلى الجاه والسلطة … وشحذ الرغبة لأجل التملك أكثر، والظفر بالملذات والمتع، حلالها وحرامها؟ أليس حري بك أن تتساءل، في كل لحظة، هل كنت ستعدل في كل خطواتك، ولا تزيغ قدمك قيد أنملة عن جادة الصواب والحق، ولن تبرح مقولات العدل ولو بشق ثمرة؟ …
فبعد أن سرد عليه هذا الشخص كل ما هو مكتوب على أوراق ملف المحاكمة، وعرض عليه كل ما يجول في عقله، وكل ما خطر على باله، وتساءل معه أكثر من سؤال حول ضمانات ما يرغب فيه، فاغرا فاه، مشدوها، ومتجمدا لا يقدر على حركة، مطأطئا رأسه، أحس بدوار في رأسه، وأن حملا ثقيلا على كتفيه، خارت قواه الذهنية والعقلية أمام حيثيات التهم الموجهة إليه، تهمة إنكار الفضل والعدل الإلهيين، الاستخفاف بالنعم الربانية، وعدم الحمد والشكر على من نعم وخيرات، السابق منها واللاحق عليها، وما هو عليه منها راهنا من فضل الله …
رباه .. يا إلهي .. ماذا حل بي؟ تساءل مجددا، ازدادت حيرته، حاول أن يمتلك أنفاسه، لم يقدر على النطق ولو بكلمة، ولا أن يحرك لسانه وشفتيه، ولو بتمتمة خفيفة، تملكته قشعريرة لم يعهدها من قبل، لما سمع أنه لم يمتثل إلى أوامر الإيمان الحق، وأنه في جحيم الوساوس، جاثمة على قلبه وعقله وصدره، وأن إيمانه ضعيف، وأن ما يعتقده ليس بالاعتقاد الصحيح، يفتقد إلى خصال حميدة إيمانا واعتقادا وسلوكا، وأنه ليس متبصرا جيدا .. حين لم يقدر أشياء ما، ولم يحسب لها حساب في علم الغيب، ولم يوفق في قراءة الحكمة الربانية من إيجاد الأسباب والمسببات … استشعر بأنه حسب كل شيء بمنطق الرياضيات والحسابات الدقيقة الصارمة، من وجهة نظره هو، لا هامش لأي احتمال، أو معطى، خارج الإرادة الذاتية، وأنه كان واثقا من نفسه، وثوقا إطلاقيا، وفيما قد يشاكله في التفكير والنظر، والسلوك والعمل، وأن الأمور تسير بما فكر فيه العقل، وبما اشتهته الأنفس، وبما أرادته الإرادات … بما كان في تقديره هو لا غير، لكن، هيهات، هيهات …
فجأة، صحا مما هو فيه، بعد أن خال نفسه، قد تلقى صفعة قوية على خذه الأيسر، صرخ صرخة قوية، عاد إلى وعيه، تنفس الصعداء، تحرك بعض الشيء على فراشه، لم يستوعب المشهد جيدا، لازال في غشاوة من أمره، لم يدر هل كان في حلم يقظة، أم أنه في حلم أثناء نومه العميق، تمالك نفسه بعض الشيء، وبعدها استوعب أنه لم ينم بعد، وأنه لازال في وضعيته، حين حل في فراشه، جال ببصره في الغرفة، ظانا منه أن أحدا ما معه، لم يكن أحد سواه، آنئذ تساءل عن الشخص الذي أتاه،على حين غرة، من يكون؟ آه ! رباه .. ! أجاب نفسه: إنه أنا، إنه أنا .. إنه أنا بالتمام والكمال، إنه أنا من دمي ولحمي، وعظمي وشحمي، إنه أنا بجسدي وروحي، إنه أنا بكل ملامحي وأوصافي، إنه أنا بحركاتي ونظراتي، إنه أنا بطولي ونحافتي، إنه أنا ب .. إنه أنا ب .. إنه أنا ب … علم حينها بكل ما أوتي من قوة عقل وتمام وعي، وبيقين مطلق، أنه هو نفسه من دون شك، حضر شخصه هو، وجها لوجه، وكأنه أمام مرآة لا تشوبها أي شائبة، تعكس كل تفاصيل ودقائق الشيء المرئي، بوضوح مطلق، وبرؤية كاشفة لكل الجزئيات الدقيقة، من حيث لا يدري، ليكاشف نفسه وعقله .. ذاته وشخصه .. حقائقه ومغالطاته.. تصوراته وأوهامه.. جاء نفسه ليحاكم شخصه، على ما كان يعتقد، ويتصور، ويتوهم … صحا فيه الضمير ليؤنبه على ما صدر منه من نكران وجحود، وأنه لم يقدر النعم التي رفل ويرفل فيها إلى هذه اللحظة بالذات، ليعيد ترتيب مقولاته ومعقولاته وحساباته، ويصحح بعضا من إيماناته واعتقاداته، أو أحرى غالبيتها، ليؤمن حق الإيمان، أن كل أقدار الله بها كل اللطف والنعم، فيها الفضل والعدل، العلم والحكمة … حينها نطق بلسان الحق الخبير الحكيم الآية القرآنية الكريمة: ” وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} البقرة:216 .
ثم استرخى بعض الشيء، فطن أن رواية ” الفقراء ” لدوستويفسكي لازالت بحجره، وأنه لا يخلف وعد طقسه في القراءة، ليلا قبل النوم، أخذ نفسا عميقا من جديد، فبدأ يقرأها من حيث انتهى من آخر صفحة توقف عندها، حيث بعد قراءة أسطر قليلة، حتى باغته الكاتب بفقرات في متن روايته، وكأن الأمر يعنيه، فيما قرأ، وأن خطاب أحد أبطال الرواية تعيده الرجعى إلى ما كان بصدده، قبل قليل جدا، في أمر محاكمته، وإذا به وكأنه لازال أمام سيناريو جديد من سيناريوهات محاكمته، لم تتوقف عند حد ما، منبها له من جديد، ما إذا لم يستوعب جيدا، حين وصل إلى فقرة، تحث على الإيمان الصادق، بمطلق القول، ” ضع أملك في الرب، فإنه سوف يسوي كل شيء على الوجه الأفضل “، توقف شيئا ما، متأملا، متسائلا مع نفسه، خالجته أفكار وتساؤلات ومشاعر، من قبيل، كيف لهذا الروائي العظيم أن يتوجه إلى القارئ في روايته بخطابه هذا، على لسان أحد شخصياتها، اعتقادا مطلقا بالإرادة الإلهية .. ويقر بكون الأقدار والحظوظ والمصائر لها مدبر حكيم، ما انفك الإنسان لا يخرج عن دائرتها، كما سطرت في كتاب حياته، تحدث مع نفسه لحظة فقال: ليس كل واحد منا ينال ما يريد.. ويحقق ما يرغب فيه .. ويبلغ مراداته كيفما يحلو له .. واهم من يظن هذا يا نفسي، يا عقلي .. ليتساءل، لماذا شققت على نفسك كثيرا؟ فيتابع القراءة على صفحات الرواية، ليقف عند فقرة وضعته أمام نتيجة ما كان يعتقده من أفكار واعتقادات، ربما قد لا يكون مبالغا فيما كان يؤوله من خلال ما عاشه ويعيشه من أحدات ومسارات،، ولكنه استشعر أن الأمر فيه خطورة اعتقاد فاسد، حين قرأ بعض الفقرات من الرواية على لسان بطلها، قائلا : ” لماذا أنت يا فارينكا، شديدة الحزن؟ لماذا، يا ملاكي الصغير؟ ثم هل أنت أبخس قدرا من كافة النساء؟ أنت طيبة وجميلة ومتعلمة، فلماذا يعاكسك الحظ إذن، فيخصص لك مثل هذا المصير؟ كيف يلاقي الإنسان الطيب والكريم والخدوم الشقاء، بينما يكون حظ إنسان آخر غيره، السعادة التي تأتيه فاتحة ذراعيها نحوه؟ أعرف، أنا أعرف يا أميمتي، بأن من السيئ أن يفكر المرء بمثل هذا التفكير، وبأن تفكيرا بمثل هذا القبيل هو بمثابة مروق وكفر، لكن، لماذا- صراحة – ينعم أحدنا بالسعادة، منذ اللحظة الأولى التي يخرج فيها إلى الوجود، بينما يشقى الآخر في الحياة، ويقاسي جميع أنواع الفاقة والعوز والحاجة، منذ لحظة ولادته؟! من الممكن أحيانا أن يجد الطفل اليتيم الأبله نفسه محظوظا، ضمن قسمة القضاء والقدر .
من الممكن لسلطان القضاء أن يقول له، وقد حكم لصالحه من حيث لا يحتسب: << أنت، أيها الطفل اليتيم الأبله، اغرف – رغم بلادتك وبلاهتك ويتمك!- من خيرات جدك، بكلتا يديك … وانعم بالأكل والشرب … وامرح، ما شاء لك أن تمرح … أما أنت، يا من ليس يتيما ولا أبله، فابق بجوعك وعطشك وحزنك، فإن ذلك يا صاحبي هو نصيبك من الدنيا! … >>. أعرف أن التفكير على غرار هذه الكيفية، هو من قبيل الإثم العظيم، لكننا لا نعدم، سواء شئنا أم أبينا، أن نسقط في مطب الآثام “.
توقف عند هذه الفقرة، خالجه شعور ما، مرة أخرى، بأن هذا الخطاب من الرواية يعنيه عبر هذه الصفحات، شاكرا الله على بعثه إشارات إيجابية من حيث لا يدري، أعلن توبته النصوح، وأنه وعد نفسه ألا يعيد التفكير بما كان سابقا، وأن يعتقد مطلقا فيما تجري به الأقدار، ليخلص نفسه من الوساوس والآثام .. ويمحو القلق والتوتر والاكتئاب من حياته .. ويطرد من نفسه كل الأحزان والهموم والندم على كل ما فات … فشعر بهدوء وراحة بال، ولفته السكينة، فتبادر إلى ذهنه أن يقرأ أية قرآنية من الكتاب العزيز، راسخة في ذهنه، إلا أنه يتجاهل العمل بها، أو تمثلها بشكل صحيح، بعد أن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم 🙁 وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هو ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ .الأنعام: 58، ثم خلد إلى النوم، فنام نوما عميقا.


بقلم : عبد المجيد بن شاوية
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *