الرئيسيةإبداعبين الأرض والسماء                                                            

بين الأرض والسماء                                                            

عندما فتحت عيني، اكتشفت بأنني قد حللت بجسم غريب عني، جسم يبدو أكثر نضارة وشبابا من جسمي الحقيقي، دقّقْت النَّظر في المكان الذي أتواجَد به، علّنِي أعثر عن شيء يُزيل دهشتي، أنا في غرفة نوم فسيحة، مستلق على سرير ناعم الملمس ، وإلى جانبي تنام سيدة في حدود الثلاثين من العمر، بوجه أبيضَ ناصع، وشعر بنّيّ ينسدل في رقة، على كتفيها العاجيين، المنحصر عنهما ثوب الروب الحريري الذي ترتديه، بدت في رقدتها كملاك جميل، وديعة وفاتنة، كان جسمها قريبا مني حد الإلتصاق، مددت يدي أتحسس مكامنه فسرى في دواخلي تيار دافئ من التجاذبات، وتدفق الدم قويا في عروقي، فضممتها إلى صدري بقوة، وأحسستُ بأنفاسها تلهب أنفاسي، فأطبقت على شفتيها بقبلة بادلتني إياها، وهي تهمس بصوت غنوج :” ما أروعك يا عمر اليوم، تبدو مثيرا، “

عمر، هل هذا هو إسمي؟ أم هو إسم صاحب الجسم الذي حللت به دون استئذان، تطور العناق الحميمي إلى اِلتحام مقدّس، صعدنا إلى قمة الجبل في زمن واحد، وهتفت، بي:” ماذا فعلت بي يا عمر، عشر سنوات من الزواج ،لم أنل منك ما نلته اليوم أيها الحبيب ،كنت رائعا اِستمتاعا و إمتاعا، “

كانت صادقة في قولها، فقد أحسست بنفسي فَحْلاً معها ،واكتشفتُ قدراتي المتجددة ،على ممارسة الحياة بشكل أكثر توهجا، وعمقا، لكنني غير قادر على وضع ما أعيشه حاليا في سياق معقول، ومقبول، عمر ،هو الاِسم الذي نادتني به، وهو اِسم أسمعه لأول مرة، ولكنني مقابل كل هذا، أجهل تماما اِسمي الحقيقي ولا أعرف من أكون ؟، ولا من أين جئت ؟، بل أكثر من هذا، هناك ضغط علي من الجسم الغريب عني ،حتى أقبل بالأمر الواقع، وأدخل غمار اللعبة، دون تساؤل أو محاولة فهم .

كانت تباشير الفجر قد لاحت، وبدأ الخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود، قمت من السرير، كنت أبدو نشيطا على غير عادتي، نظرت إلى جسمي (جسمه) كان قويا، وكانت السيدة تنظر إلي بإعجاب، وغنج، قادني الجسم إلى فضاء أخر يبدو أنه الحمام، كان فسيحا يحتوي على حوض للاستحمام ،بمِسّرة من الألمنيوم، وحوض بصنبور لغسل اليدين، وكانت أرضيته من الرخام الأسود، اِتجهت صوب المرآة، نظرت إلى وجهي المفترض، اندهشت لِمَا رَأيتُ . وجهٌ أبيض نضيرٌ، وشعر أسود ناعم، ينحدر على جبيني، أتذكر أن شعري ضاع معظمه مع توالي السنين، وغدوت أصلعا بالوراثة منذ سنوات، وفيما أنا منصرف إلى تأمل شكلي الجديد ،لاح لي طيف ” زوجتي المفترضة” وهي تمرق من الباب بثوبها الشفاف، عانقتني بفرح وقالت : ” أحبك حد الوله أيها الرائع ،” ثم جرتني إلى بَانْيو العومِ، وتابعت كلامها ضاحكة : ” سنستحم معا، لم نفعل هذا منذ زمن بعيد.”

غادرنا الحمام، نحو صالون فسيح ،فُرش بِكنبات جلدية، ومطارح من خشب الأكاجو الرفيع، تَعلوها مضاربُ مليئة بالصوف ،وصُفَّت وسطها موائد من الموشاربي خَاصّة بالأكل، وفي أقصى القاعة بمحاذاة المدخل ،برز صوان جميل يتوسطه جهاز تلفاز، لاحظت منذ الوهلة الأولى أنه قديم لا يتناسب مع الزمن المعاصر، ويبدو نشازا إذا قورن بباقي الأثاث، إقتربت منه، أردت الضغط على زر التشغيل، هتفت بي زوجتي المفترضة : ” نحن في بداية اليوم والأرسال لايبدأ إلا في السادسة والنصف، تبدو غريبَ الأطوار هذا الصباح “، تراجعت إلى الخلف حين لاحت لي شهرية تحمل تاريخا قديما معلقة على الجدار ،سألت زوجتي المفترضة : ” هذه الشهرية قديمة جدا تعود لسنة 1965ترى ماذا تفعل هنا؟” ردت بلهجة مستنكرة : ألم أقل لك أنك غريبُ الأطوار  هذه الشهرية حديثة والتاريخ هو 23آذار1965″ نظرت إليها باستغراب وقلت :

-من أنت؟ أنا لا أعرفك !

زوت ما بين حاجبيها، و اقتربت مني ثم قالت :

-انا زوجتك ليلى بديع، وأنت زوجي، عمر بوعسرية

قلت مستغربا:

-لكنني لا أعرفك ! وبالمقابل، لا أعرف من أنا! الشيء الوحيد الذي أتذكره ،هو أنني أنتمي إلى زمن متقدم .

ضَحكت وقالت بصوت دافئ :

-دعك من هذا الكلام الآن ،وهيا بنا نتناول طعام الإفطار، فدادا أمُّ العِزّ قد أعدَّت لنا مائدة من “الشّهيوات “الصباحية كالعادة.

ولجنا قاعة الأكل، كانت فعلا الطاولة تحفل بما لذ وطاب، من مأكولات شهية، وكانت أم العز وهي سيدة سمراء اللّون في عقدها الخامس، تقف مبتسمة، قالت ليلى :

-تفضل لنفطر

ثم وجَّهت كلامها لأم العزِّ :

-هل ما زال نعمان نائما ؟

ردَّت أمُّ العز :

-نعم يا سيدتي.

ابتسمت ليلى وهي تمسك بيدي ،وقالت :

-نعمان اِبننا، لا تقل بأنك لا تعرفه .

أمسكتُ عن الحديث واكتفيت بالاِبتسام، ثم قرّرت مجاراتها في اللعبة، وقلت :

-هيا بنا نتذوَّقُ “شهيوات” أمَّ العزّ

كان طعام الإفطار لذيذا، أكلت بشهية مفتوحة، قطع الكعك، والأرغفة المدهونة بعسل النحل الطبيعي، وشربت الشاي المنسم بالأعشاب المنعشة، نظرت إليَّ ليلى بوجه يغمرُه الفرح مبتسمة، فابتسمتُ أنا أيضا في وجهها، وأقنعت نفسي بأن شيئا ما وقع وغيَّرَ مَجْرى حَياتِي، ربما كُنت في عالم أخر خارج نطاق الاستيعاب ،.. يتماهى مع نظرية تَناسخ الأَرواح، كل هذا ليس مهمًّا الآن، ما دمت أعيشُ وأحيا، وإن في زمن هو بالنسبة لي مجرد صفحات من الماضي .

أعادني رنين جرس الهاتف إلى سياق الأحداث، فرفعت السماعة بشكل عفوي، وقلت بصوت خافت :

-من على الخط؟

ورد صوت قوي النبرات:

-معك العميد فاتح العيادي

-مرحبا بك سيدي

وتابع صاحب الصوت كلامه :

-ننتظر حضورك على وجه السرعة “سي” عمر،هناك اِضطرابات بالشارع العام ،نحن نتواجد قرب ثانوية محمد الخامس بشارع 2مارس، حيث يستعد التلاميذ للخروج في مظاهرات احتجاجية نحو درب السلطان ،وطريق مديونة

صَمتُ بعض الوقت، ونظرت إلى ليلى مستغربا، وقالت هي :

– يبدو أن قرار وزير التعليم بحرمان كل البالغين 17 سنة من الالتحاق بالسلك الثاني من الثانوي هو السبب في كل ما يقع من اضطرابات

كانت السماعة ما تزال في يدي ،وصوت العميد يتردد عبر أسلاك الهاتف::

– ماذا هناك  “سي “عمر، لماذا لزمت الصمت؟

اضطربت، فكرت :” ماذا سأقول له وأنا لا أعرفه، ترى ما محلّي من الإعراب في هذه القصة الثقيلة على القلب ، علقت ليلي :

-ماذا دهاك يا،عمر أنت رئيسهُ ،وعليك أن تتصرّف

لم أجد بدّا من الرد عليه:

-نعم يمكنك التصرّف حتى أَحضرَ، لن أتأخر

ورد صاحب الصّوت:

-نعم يا سيدي، سأبدل قصارى جهدي لضبط الأمور، في انتظار حضورك

التفتُ إلى ليلى وقلت:

-هناك شيء ما خارج عن إرادتي يقع، الأحداث التي تتحدثين عنها وقعت في الماضي ،ولا علاقة لها بالحاضر، أرجوك ساعديني، أنا غير قادرٍ على التأقلم مع ما يقع، قد أكون فقدت ذاكرتي، قلتِ بأنني زوجك وأن اسمي عمر بوعسرية، فما هي مهنتي؟

ردّت ليلى بصوت مستغرب :

– أنت ضابط كبير في سلك الشرطة، درسْت بفرنسا

قاطعتها دون شعور :

– هذا غير ممكن فعلا أنا درست بفرنسا، لكنني كنت مطاردا من طرف الشرطة، انا مناضل في حزب الوحدة الوطنية ،ولا علاقة لي بأسلاك السلطة

– يبدو أن حربك على المشاغبين، الذين يشتغلون بالسياسة كما تسميهم أنت، قد أثرت عليك، هيا إنهم ينتظرونك، لباسك الرسمي جاهز، ولا تنس سلاحك الوظيفي

لبست البدلة الرسمية للعميد المفترض أنه أنا، و تمنطقت بالسلاح الخاص به، ثم خرجت من باب المبنى، لأجد نفسي في ممر تحفه الأشجار الباسقة، وأحواض من الورد المختلف الألوان ،والأشكال، اِكتشفت أنني في فيلا فسيحة ..تقدم مني كَهل وخَط الشيب فُوديه ،وقال بصوت يشوبه احترام زائد:

– صباح الخير سيدي لقد حضر سائقك الخاص، وهو ينتظرك أمام الباب، اخبرني بأنه صادف في الطريق دبابات، وسيارات مصفحة للجيش ،بشوارع المدينة يبدو أن الأمر خطير يا سيدي.

قلت ،وأنا أصافحه :

– خيرا إن شاء الله

عندما أصبحت خارج الفيلا، اِكتشفت أنها توجد بشارع غاندي، وبالضبط في جزئه المتقاطع مع شارع يعقوب المنصور ،بهرني جمال الطبيعة وسحرها رغم الموقف الصعب الذي كنت فيه، ترجّل السائق المفترض من سيارة د-س ( ستروين) كانت متوقفة أمام الباب وفتح بابها الخلفي وقال :

– صباح الخير سي عمر

ركبت دون أن أنبس بكلمة، كان صالون السيارة فخما، الكراسي جلدية وباقي الإكسسوارات كانت فاخرة، ركب السائق، أدار المحرك والتفت نحوي وقال :

-إلى أين سنذهب يا سيدي

رددت بصوت متردد و أنا أعلم مسبقا أنني أشارك في مسرحية ،أجهل كاتب مشاهدها، وحوارها :

– سنتوجه إلى مكان الاِحتجاجات

قاطعني :

– عذرا سيدي المكان خطر ،ونحن دون قوة ،قد نتعرض لهجوم خاصة وأننا باللباس الرسمي ،من الأفضل أن نتوجه لمركز الشرطة .

– ولكن فاتح العيادي يوجد صحبة القوة بشارع 2 مارس.

– أعلم ذلك سيدي ،لكن من الأفضل ،أن تخفرنا قوة إلى عين المكان .

-معك حق هيا بنا

قطعنا شارع غاندي، ثم انحرفنا نحو شارع الروداني، كانت تقابلنا سيارات وشاحنات تذكرني بفترة الستينيات، وفجأة مرقت بالقرب منا سيارة مصفحة ،تسير بسرعتها القصوى، وتبينت عند ناصية شارع الزرقطوني دبابة.. لا بل دبابتين، وكانت رائحة البارود ممتزجة بدخان الحرائق تخنق الأنفاس، وتمنع الرؤيا، وسمعنا ضرب نار متتابع، علَّق السائق ،:

-لقد تلقى الجيش الأوامر بإطلاق الرصاص على المحتجين، هناك أعمال نهب وتخريب وقعت بدرب السلطان وباب مراكش .

قاطعته :

– يبدو أن الأمر في غاية الخطورة ،هيا أسرع فقد نتعرض لهجوم غير منتظر .

رد السائق :

-معك حق يا سيدي ..لقد أصبحنا على مرمى حجر من مخفر المعاريف.

وصلنا المخفر، كانت هناك عشرات السيارات لقوات التدخل السريع، تقف في صف طويل، وكانت أيضا سيارات كبيرة للشرطة ،بلونها الأبيض الموسوم باللونين الأخضر والأحمر، شعرت بالرهبة وأنا ألج المخفر، تذكرت أنني مررت من هنا كمُتَّهم بنشر أفكار سياسية معادية للحكومة، خلال نهاية عقد السبعينيات، لكنني أدخله اليوم كضابط كبير، في زمن لا أتذكره ،لأنني كنت ما أزال في بداية عهدي بالحياة، كان المكان أشبه بخلية نحل، وكان هناك ضباط ومفتشو شرطة ،وكذلك حراس أمن وقابلني الكثير منهم باحترام كبير، وكأنهم يعرفونني منذ زمن بعيد( لا بد أنهم يعرفون صاحب الجسم) ،قادني السائق إلى مكتب يوجد في مكان قصي، هناك وجدت ضابطا متقدما في السن، أدى له السائق التحية وهو يقول :

– احتراماتي سيدي المراقب العام

مد المراقب يده لي مصافحا ثم قال:

– الأمور تبدو معقدة، لقد تعرض الكثير من رجال الأمن للاعتداء وقد صدرت الأوامر منذ قليل بإطلاق النار على كل المخربين، أنت مكلف بقيادة العملية سي بوعسرية، يجب أن تكون حازما .

نظرت إليه مستغربا، وددت لو أنني أصرخ في وجهه قائلا : ( أنا لا أعرفك سيدي، ما علاقتي أنا بكل هذه الأحداث التي سمعت بها فقط، وقرأت عنها كحدث تاريخي مرت به البلاد سنة 1965،وسقط خلاله عدد كبير من القتلى، وترتبت عنه قرارات سياسية مؤثرة)

قلت لنفسي، لعل ما يحدث مجرد حلم، فقد تعودت على مثل هذه الأحلام المتداخلة مع الواقع القريب، أو البعيد، حركت رأسي علني أستيقظ من النوم، وأنهي هذه المهزلة، لكنني عوض الاستيقاظ من النوم سمعت صوت المراقب العام يأتيني خشنا :

– سي بوعسرية ماذا دهاك تحرك رأسك ،و كأنك ترفض القيام بهذه المهمة

قاطعته بصوت فيه رنة تعجب:

-ليس الأَمر كما تتصور سيدي المراقب العام، أشعر فقط ببعض التعب، وأنا أحرك رأسي حتى أطرد بقاياه.

وتابعتُ بعد لحظة صمت قصيرة :

-عُلمَ ويُنفّذ

نظرتُ إلى السائق الذي كان يقف بجانبي صامتا، وهو مطرق رأسه، لعنت بوعسرية ،وجسمه الذي يحتضن تاريخي الجيني وذاكرتي الخاصة، ثم هرولت خارجا، وتبعني السائق، قررت أن أترك الأمور تسير بالشكل الذي كُتبت به، وأن ألبس ثوب الجلاد ،فالتاريخ علمنا بأن الأيام دُوّل، ولا شيء ثابث، فالتحول سمة الحياة ،والتغيير ناموسها، وقانونها، فتبادل الأدوار وارد في كل زمن ومكان، ولاشيء يمنعه، لأن القاعدة العامة تقتضي ذلك وتحبذه، عندما أصبحت بالخارج، ركبت في إحدى سيارات الشرطة التي كان ركابها من رجال الأمن ،يعرفون سي بوعسرية، ويؤدون له التحية باحترام، كان السائق ملازما لي، تحرّك الموكب نحو باب مراكش. لم نكد نسير إلا مسافة قصيرة حتى لاحت جموع المحتجين وكانت هناك سيارات تحترق، ودخانا يتصاعد، توقف الموكب، وبدأت المواجهة، كان بوعسرية يعطي الأوامر، ويوجه أفراد قوات التدخل السريع بحزم وحرفية، وكنت أنا أكتفي بالصمت داخل جسمه، ترى أية قوة قاهرة ،ترغم الانسان على التحول من وضع إلى آخر ،بالرغم من إحساسه بغياب أي توافق بينه وبين الوضع المروض عليه؟ الإشكالية صعبةٌ، ولا يمكن استيعابها، خاصة إذا كان هذا الانتقال يتمّ في زمن خارج السياق المعقول للواقع، وفيما نحن في مرحلة التجاذب هذه ،لاحت حوامة على اِرتفاع منخفض، وتتابع أزيز الرصاص منها متتاليا، يحصد أرواح المحتجين، وهتف بعض الأمنيين الجنرال بنفسه يقتنص المشاغبين، عندما رفعت وجهي إلى أعلى، رأيت نظارتيه الغامقتين، تخفيان عينيه الحابلتين بالأسرار التي ستنكشف خلال السنوات التي عشتها أنا وجيلي ونحن أطفال،كان يمسك رشاشا ويضرب بشراسة، وكان المحتجون يتراجعون إلى الخلف تحت هول الضربات ،التي تأتيهم من كل حدب وصوب، وهم لا يحتكمون إلا على الحجارة وزجاجات المولوتوف، في المساء كانت المعركة قد حُسمت، وكانت مرحلة جديدة من التاريخ قد كُتبت، قال لي السائق مهنئًا:

-كنت موفقا يا سيدي في تدخُّلاتك

ابتسمتُ بسخرية ورددت :

-بوعسرية هو الذي كان موفقا .

قاطعني السّائق باستغراب :

من أنت ياسيدي ومن هو بوعسرية؟، كلاكما واحد تداركت الموقف ضاحكا :

-أنا فقط أمزح معك ..كان فعلا يوما عصيبا.

 وتابع السائق وهو ينظر إليّ :

-سيدي السيارة جاهزة ،أظن أنك في حاجة إلى حمام ساخن ،ثم لحظة استرخاء في السرير حركت رأسي مؤيدا، وتذكرت ليلى تلك الأنثى الجامحة التي تنتظرني بالبيت، لكنني عدت ولعنت نفسي ،كيف أسمح لنفسي بالتفكير في هذا الموضوع، ودماء المحتجين لاتزال لم تجفّ بعد، عندما ركبت السيارة كان الليل قد احتضن المدينة بأجنحة ظلامه، أحسست برعشة غريبة تسري في بدني، أسندت رأسي إلى متكأ المقعد، بدت لي شوارع المدينة مظلمة ،ومصابيح النيون منطفئة تماما، سألت السائق :

– الظلام يخيم على كل مكان، يبدو أن هناك عطلا كهربائيا تسبب في تعطيل كل مصابيح المدينة .

رد السائق بصوت مستغرب :

– الشوارع مضاءة يا سيدي.

 قاطعته بصوت منكسر  :

– أنا لا أرى شيئا، ليس هناك سوى الظلام.

 لم يرد السائق، لكنني شعرت بدوار غريب ،وألم فظيع في مقدمة الرأس مررت بيدي على عينيّ فلامست شيئا يشبه الضمادات، يغطيهما.تذكرت عيني الجنرال، وهو يقتنص المحتجين، لكن أين هو السائق الخاص؟ والفيلا التي كنت في طريقي إليها،  لماذا اختفت، وأنا ما الذي ألمَّ بي ؟؟ ترى أين أنا؟ وهذه الضمادات ما قصتها؟ وكل تلك الأحداث الغريبة التي عشت ما حقيقتها ؟؟؟حاولت تحريك أقدامي، فاكتشفت أن إحداهما مكسوة بما يشبه الجبيرة، وشعرت فجأة بألم أكثر فظاعة في مقدمة الرأس، فصرخت بصوت خرج خافتا وضعيفا :

-أين أنا ؟؟ سمعت أصواتا، ووقع أقدام على مقربة مني، ثم خاطبني صوت تشوبه رنة وقار :

– على سلامتك سي حسن، معك الدكتور فجر الإسلام بدر

– من يكون حسن؟ أنا إسمي عمر بوعسرية

– أنت حسن التدلاوي المناضل السياسي والفاعل الجمعوي… وأنت الآن تستيقظ من غيبوبة دامت أسبوعا.

 قاطعته بصوت تشوبه رنّة حيرة :

 -أنا.. أنا لا أتذكر شيئا يا سيدي، ولا أعرف موقعي من الإعراب، أشعر فقط ببعض الألم ،في مختلف أنحاء جسمي ..أين أنا من فضلك؟ تابع صاحب الصوت الوقور :

-أنت في المستشفى، وأنا الطبيب المعالج لك، حالتك مستقرة، يلزمك بعض الوقت لتخرج من هذا الوضع

قاطعته من جديد متسائلا:

– هل أُصبت في احتجاجات مارس 1965؟

ابتسم الطبيب ونظر إلي وهو يحرك رأسه :

– نحن في سنة 2003وقد أصبت في الانفجار الإرهابي الذي وقع منذ أسبوع بدار إسبانيا .كنت صحبة صديقك حميد بن سحابة شافاه الله.

 رانت علينا لحظة صمت قصيرة، حاولت خلالها ترتيب أوراقي، حميد بن سحابة هذا الاسم ليس غريبا عني، ولكن عمر بوعسرية وليلى وكل أولئك الأشخاص الذين عشت معهم تلك الأحداث الرهيبة، ما حقيقة وجودهم ،؟؟ قطع علي صوت الطبيب حبل تفكيري وهو يقول:

-الكثير من المرضى يا سيد حسن يعيشون حالة هذيان، خلال غيبوبتهم العميقة ،ويتداخل عندهم الواقع  بالخيال، لكنهم يستعيدون ذاكرتهم بالتدريج، لا تنس أن التجربة كانت قاسية، وحالتك كانت خطيرة، ولكنك الآن تجاوزت مرحلة الخطر ونحن نحمد الله لأنك ما زالت بيننا.

 نزلت كلمات الطبيب على رأسي كدوش ماء بارد .. أعادتني إلى سكة الحقيقة، الانفجارات التي سمعت كانت فعلا إرهابيا، وحميد بن سحابة صديقي كان يومها يتحدث بإسهاب عن أحداث مارس 1965 التي عاش أحداثها عندما كان يافعا، وعشتها أنا بعده بروحي التي كانت معلقة بين الأرض والسماء .

محمد محضار

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *