الرئيسيةالأولىالسلطان الروحيّ

السلطان الروحيّ

لم أدرك قيمة هذا الارتباط الحاصل بين الطالب وأستاذه إلا بعد سنوات!

ليس كل بذلٍ يظهر أثره في حينه، قد ندرك حقيقة الأشياء بعد فوات أوقاتها!

هذه العلاقة التي كانت في يوم من الأيام مجهولة بالنسبة لنا هي التي جنيتُ -أنا وغيري- ممن دخلوا فيها ثمارها فيما بعد.

لم يكن هم أستاذنا أن يشرح لنا ألفاظ متن “قطر الندى وبلّ الصدى” لابن هشام النحويّ!

ظننا أننا سنكتفي من دروسنا بالمادة العلمية!

لسان حالنا ومقالنا يومئذٍ: الدرس وكفى!

أبى الأستاذ بحكمته البالغة ذلك، كان يرجو لنا ما لم نكن نرجوه لأنفسنا من التميز، يركز فيما وراء هذه الدروس، يدقق فيما وراء السطور، لا يعنيه المنطوق بقدر ما يهمه المفهوم.

صار لا يشرح لنا كتاباً سهل الفهم، يأتي لنا بكتب صعبة الإذعان، عويصة المعاني، عسيرة الألفاظ، أخبرنا ذات صباحٍ أن الشرح إنما يكون للشيء الأصعب، وأن كتاب الدرس ينبغي أن يكون دقيق العبارة ليستفاد منه.

لا فائدة من شرح كتاب سهل الارتياد، قريب المنال!

إنّ العبارة السهلة تشرح نفسها بنفسها، فلا حاجة إذاً لمعلم معها.

إنما يكون عمل المعلم الحاذق في تفهيم الأشياء الدقيقة عزيزة الملتمس!

كتاب مرامه صعب، مرتقاه كؤود، مطلبه وعر.

ليست علاقتنا به كعلاقة مدرس يُلقي درسه لطلابه، ثم ينصرف عنهم، هي في أعلى مستوياتها، نجلس بجانبه كأبناء يجلسون حول أبيهم.

من عاداته الحسنة أنه يملي علينا عدة حِكم من بنيات أفكاره، لم أحفظ كثيراً منها يومئذٍ إلا أنني أجدها معي في تحركاتي.

أستحضر ما أملاه علينا في صورة مواقف عملية تعترضني، أجد كلماته ماثلة أمامي.

أين اختبأت تلك العبارات هذه الأيام الطويلة؟!

بت أؤمن أن القراءة لا تذهب سدى مع الأيام!

أنا مقتنع أن القراءة المثمرة هي التي يستطيع الشخص أن يستعملها في حيواته، وإلا فلا قيمة لقراءة لا تتجاوز المقروء.

سأكون شجاعاً في حديثي معك!

أجهدتُ نفسي في التفكير عن فحوى الدراسة عند أستاذنا مرات عديدة، اعترضتُ على تدريسه اعتراضاً خفياً، أنكرتُ هذه الجمل التي كان يأمرنا أن نرددها أكثر من عشر مرات!

أيها الأستاذ: أشغلتنا بكلامك، أتعبتنا بعباراتك.

جئنا، قرأنا، فهمنا.

ما الهدف إذاً من كثرة التكرار؟

حقاً لقد سئمنا منه!

اكتشفت أن بعض المعاني لعظمتها لا بدّ أن تكرر مرات ومرات حتى تستقرّ في القلوب.

كتبت فيما بعد: “كرر ألفاظ النجاح وعبارات الأمل وكلمات المعرفة وجمل العلم على طلابك، فإذا تكرر الكلام على الأسماع تقرر في القلوب”.

أتظن أني كنت قادراً على كتابتها بمفردي!

اصبروا إلى الغد!

هي من بقية الآثار الباقية لمعلمي في نفسي!

تفقدوا عقولنا: هنا بقايا من ذكرياتنا الجميلة!

هنا بقايا مَن أوجد في نفوسنا حباً للمعرفة!

اشترط علينا الأستاذ إذ هو شرح لنا أبيات “ألفية ابن مالك” المقررة عامئذٍ أن نساعده في حقله الزراعي اختياراً منا .. لا غصباً.

لم أكن أحب العمل، ذهبتُ في الذاهبين رغبة في عدم الانفراد.

لا يمكن لمثلي أن يرجع بمفرده إلى بيته!

بيننا وبينه مسافات بعيدة، وفي الطريق من ألوان الخوف ما فيه!

أحببت مع كثرة التعلق بأستاذي العمل معه، في بعض الأيام أمرّ على أرضه الزراعية وحيداً.

يا لهؤلاء الفلاحين لقد ظنوا أني أحد أبنائه من كثرة ترددي!

لم أكن أتوقع أن الأستاذ كان يهدف من وراء هذا العمل تربيتنا وتنشئتنا على الصبر!

كانت علاقته بنا أنجح وأنفع وأنجع، يعرف أحوالنا، يلم بشخصياتنا، يتحسس مواطن الضعف فينا فيعالجها.

إني ذاهبٌ كلّ يومٍ إلى معلمي سيهدين!

تلك العلاقة التي تبحث وراء العلم فقط، متجاهلة الجانب الروحي هي من أقوى مشاكل التعليم المعاصرة.

صارت علاقة المعلم بطلابه تنتهي عند الخروج من الحصة!

لا أكون كاذباً حينما أخبرك أن الأستاذ يحاول التملص من قيد طلابه قبل انتهاء درسه!

ذكروا لي أنهم استفسروا عن طالبٍ جديدٍ في إحدى الفصول الدراسية، ففوجئوا بأن معلمي المدرسة لم يلتفتوا لحضوره، ومن تذكره عرفه بأوصافه دون معرفه اسمه.

ثمة شيء مفقود في العقول، ثمة شيء محطم في النفوس!

لا يعرف المعلم ما يناسب طلابه، بل لا يحاول أن يعرف، علاقة أشبه بشخصين اجتمعا في حافلة نقل عام، تكلما سويا لبعض الوقت.

ضحكا، تبادلا الحديث، نزل أحدهما بعد عدة محطات، انتهى بذلك ما بينهما.

ننكر الشدة والقسوة فيما مضى، لكن لا نستطيع أن ننكر حالتي التقدير والجد التي كان يحظى بها طلبة المدارس.

كانت نفوس الطلاب تمتلئ حباً للتعلم واعتزازاً بالمعلم!

في أيامنا المدرسية تمرّ الأوقات ونحن غافلون عن تعزيز الجانب الروحيّ، تصافحنا المواسم الدينية ونحن معرضون عن إحيائها.

آه ما أبعدنا، وما أصغرنا!

عيونٌ حزينة في وجوه كئيبة!

نريد أن ندرس شوقاً ولا نتعلم قهراً!

إنّ التربية الروحية والتكوين الأخلاقي سبيلان لتنشئة أجيال تجمع بين الجدّ في التعلم والالتزام بالآداب، وهو الذي يجب أن ترعاه المؤسسات التعليمية في تكوين طلابها.

لنرجع!

 

د. علي زين العابدين الحسيني |مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *