الرئيسيةالأولىمقالة: الـلـغـة والـحـقـيـقـة.. تـجـمـيـل أم تـدجـيـل؟

مقالة: الـلـغـة والـحـقـيـقـة.. تـجـمـيـل أم تـدجـيـل؟

” القول بأن الحرب قد تكون دفاعا عن السلام يشبه القول بأن ممارسة الجنس قد تكون دفاعا عن العذرية”! لعل هذه العبارة هي أشهر ما قاله جورج كارلين الكاتب والناقد الأمريكي الذي كان يلقي بعض ما يكتبه ممثلا على منصات المسرح. وفي شريط مرئي قصير يقول جورج كارلين إن اللغة أداة لاخفاء الحقيقة، ويضرب مثالا على ذلك بقوله : ” عندنا يطلقون على الفقراء الفائض في الموارد البشرية، لكي يخفوا حقيقة الفقر”، ويقول أيضا : ” كفوا عن القول بأن المخابرات الأمريكية تقتل الناس، وصاروا يقولون إنها فقط تقوم بتحييدهم “! وأيضا : ” القتلة الإسرائيليون أصبحوا بتلك اللغة الفدائيين، وأمسى الفدائيون العرب إرهابيين”. ويقول :” خذ مثالا آخر على التمويه على الحقيقة، يقولون لك في الطائرات نحن نستعد للصعود. بالله عليك ما معنى الاستعداد للصعود؟ أن نصعد قبل أن نصعد؟ أم ماذا؟”. وعلى أساس من تلك الملاحظات ينتهي جورج كارلين إلى أن اللغة ” أداة لاخفاء الحقيقة”. ومع اعجابي بذكاء الملاحظات وطرافتها إلا أنه لا يسعني الموافقة على أن وظيفة اللغة اخفاء الحقيقة. ألم تنطق اللغة بالحقيقة حين قال أمل دنقل : ” لا تصالح ولو قلدوك الذهب”، وهناك تراث عريق من الحقيقة عبرت عنه اللغة في الأدب الأمريكي، والانجليزي وغيرهما. هذا لا ينفي أن اللغة قد تستخدم سياسيا لاخفاء الحقيقة، أو للتخفيف من وقعها، وقد ضرب جورج كارلين أمثلة ساطعة على ذلك بعباراته الذكية، وفي تاريخنا صفحات طويلة قامت فيها اللغة بتشويه وتدمير واخفاء الحقيقة، مثلما حدث عند إشاعة الأوساط الرسمية أن ثورة عرابي مجرد ” هوجة” فقط لتسقط عنها جلال الثورة، وهناك بلا شك المثال الأخر عندما سميت الهزيمة في 1967 نكسة. لكن اخفاء الحقيقة أو تدميرها جزء من استخدامات اللغة وليس وظيفة اللغة الأساسية وهي التواصل بين البشر، وحفظ الذاكرة الانسانية، والتقدم نحو الوعي، وهذه وظيفة اللغة الرئيسية.

ينادي جورج كارلين أيضا بما يسميه لغة بسيطة مباشرة صادقة، لهذا لايعجبه أن عبارة ورق المراحيض قد أمست ” مناديل حمام”، وأن كلمة العلاج أصبحت الاستشفاء، أما الأوساخ فتحولت إلى نفايات، ويقول إنهم : ” حتى عندما يتكلمون عن الطقس يقولون يوم مشرق جزئيا بدلا من يوم غائم جزئيا ! وعما قريب سيقولون عن فتاة تم اغتصابها : فتاة خضعت لممارسة جنسية لم تكن راغبة فيها!”. ومجددا لا أستطيع موافقة الكاتب الأمريكي الطريف على ما يقوله، لأنه في واقع الأمر يعترض على إحدى أهم وظائف اللغة وهي تجميل الواقع، وتطويره، ووضعه في إطار أفضل، على سبيل المثال فإننا عندما يموت شخص نفضل القول بأنه” رحل”، وهنا بكلمة رحل يصون الإنسان الأمل في استمرار الصلة حتى مع الغائبين ومع المجهول والقدر. وسيظل تجميل الواقع إحدى أهم وظائف اللغة، وفي اعتقادي أن الشعر كله عملية تجميل للحياة، وتجميل للحب، وللانسان، وقد لايكون الشخص بطلا لكنك حين تقول له إنه فارس فإنك تبعث فيه تلك الفروسية. والحب ليس عملية روحية بحت، بل عملية روحية مادية معا، ومزيج من الوعي والبدن، لكنك ترتقي به وتجمله، وتزينه بمئات القصائد واللوحات والروايات، وفي هذا الصدد تحضرني أبيات لبابلو نيرودا حين قال لمحبوبته : ” وضع الله أسماء كل شيء في فم آدم .. وبقى اسمك على لسانه .. ينتظرني.. كما ينتظر الشتاء ولادة الورد”. تجميل الحياة إحدى أهم وظائف اللغة، أما التدجيل خاصة في المجال السياسي فأمر آخر. وفي كل الحالات تبقى ملاحظات جورج كارين طريفة وذكية وتدعو للتأمل، ويكفي أنه كان شجاعا ليقول في أمريكا:” القتلة الإسرائيليون أصبحوا الفدائيين، وأمسى الفدائيون العرب إرهابيين”.

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *