الرئيسيةالأولىقراءة نقدية في الأعمال التشكيلية للفنان يوسف سعدون صرخة جسد بلون السماء

قراءة نقدية في الأعمال التشكيلية للفنان يوسف سعدون صرخة جسد بلون السماء

عرف مسار يوسف سعدون الفني قطيعة جغرافية ألقت بظلالها على أعماله الإبداعية. انتصبت القطيعة أمام منعطفين، أعمال فنية بمدينة القصر الكبير عكست لمسة الشباب، وأعمال إبداعية بمدينة تطوان أظهرت مهارة النضج. في الحقيقة، تستدعي هذه القطيعة الجغرافية وقفة لمساءلة منطلقاتها وأبعادها وتقييم آثارها على أعماله الأخيرة.
تعتبر مدينة تطوان في اللاوعي الفنان سعدون فضاء المنشأ والوجود، هناك كانت صرخة الولادة، فهل يمثل المكان انجذاب الروح؟ قضى الفنان مرحلة طويلة في العمل السياسي، متأثرا بمحيط أسرته السياسي وكذلك بمحيط الشارع العام الذي كان يتفاعل مع المد الاشتراكي، فهل يمكن اعتبار مكان الولادة بمثابة تحرر من أسر الإكراه السياسي والنقابي؟ عاش سجنا داخليا بسبب التقاليد العريقة للمدينة ودوغمائية الحزب، فهل يمثل البحر انفتاحا كونيا وثقافيا ؟
بمدينة تطوان انطلقت رحلة الوعي مثقل بهاجس البحث، البحث عن النسخة الأصلية لذات مفقودة وسط قلق واضطراب داخلي، كانت رحلة صعبة تحاول استكشاف عناصر الكون لتتماهى مع تناغمه. بدأت الرحلة تتشكل وتنمو ببطء شديد وفق جدلية السقوط والانبعاث لتظهر في الأخير كأيقونة تحمل بصمتها المتميزة من خلال لون السماء.
وسط تمازج الألوان بدأت الرحلة، كان الأزرق صامتا ينتظر صفاء السماء في طلعتها الربيعية، لكن التجربة عرجت بالفنان نحو منعطف جديد واختطفته نحو عوالم الحصار النفسي الذي مارسه فيروس كورونا، وهناك حصل اختفاء الألوان وتلاشى الأزرق وتلبدت سماء الفنان بغيوم سوداء، لكن بعد رفع الحجر الصحي عاد الأزرق إلى مساحة الحضور بوصفه علامة للانجذاب وحلم الجسد.
1- سلطة اللون أمام هامش أزرق
بالرغم من القطيعة الجغرافية التي ظهرت بشكل واضح في أعماله، إلا أن الفنان سعدون لم ينسلخ عن قضاياه ومعتقداته التي بناها خلال معاركه السياسية والنضالية. لقد حمل معه هامشه المجتمعي وغادر المكان ولم يكن في زاد مخياله سوى جسد امرأة. صحيح أن الإطار الحزبي الذي كان ينتمي إليه، كسائر الأحزاب التقدمية الأخرى، تحتل فيه المرأة موقعا خجولا ومساحة ضيقة من خلال أدبياته السياسية والثقافية، إلا أن الفنان كان حلمه يتجاوز قضبان الحزب نحو بناء مساحة خالية من حدود جغرافية. في عالمه الفني نسج مساحة الحرية والقول والفعل.
في هذه المرحلة طلعت علينا أعمال تجسد حضور وجه امرأة، تصرخ، تهذي، تتألم، تبكي…وسط امتزاج ألوان قوية، ساخنة وساطعة (الأحمر والأصفر والأخضر). لم يكن لحضور الأزرق سوى مساحة صغرى، كان لونا شاهدا ومتأملا فقط، يتابع حركة جسد يتألم وسط عنف رهيب، كان يشاهد جنازة ميت يقاوم أيدي بائسة خفية وأحيانا ظاهرة.
2- اختفاء الألوان وحزن الأسود
عانى الفنان سعدون كباقي العالم جحيم انتشار فيروس كوفيد 19 كما عانى قسوة العزلة والحصار النفسي. في هذا السياق، كان لا بد له من ممارسة عشقه الفني، لكن أمام غياب الأدوات الفنية تعذر عليه تفريغ مخزون العشق, وأمام إلحاح الرغبة لجأ إلى تقنية الحفر على الورقة من خلال أداة نكرة في عالم الإبداع الجمالي، فلم تكن هذه الأداة سوى قلم بيك أسود، بهذه الأداة حفر منافذ الهروب، حفر مسالك وطرق النجاة، حفر وجوه باحثا عن ثغرة في سمك التجاعيد أو بين أسنان صدئة ومكسورة، لقد حفر بشدة في جنبات الأضلع، حفر وسط فوضى الوجوه، حفر بجنون في عيون جمجمة ، حاول أن يرمم حصاره بوجوه ذابلة كستها أغصان أشجار ميتة، وسط هذا الهوس الجنوني للهروب، كان يحمل معه دائما جسد امرأة، كان يقاوم نسورا وعيون شرهة تخبئ الموت، كانوا يريدون منه خطف امرأة يعشقها، فضربوا بيد من حديد على جسد أعزل، فلم يسحبوا سوى قطعة ثوب رثة.
كانت هذه المرحلة كابوسا، حلما أسودا، صراعا من أجل الشر، هنا غابت الألوان وغاب الحلم الأزرق الذي كان يتشكل بصمت.
3- حضور سلطة الأزرق
في تجربته الحالية انتقل الفنان سعدون إلى فن الكتابة، يسرد حكيا فنيا مأخوذا إلى وحدة الموضوع، أو لنقل كتابة فنية صيغت في حلقات، مطوعا رغبة التشويق لدى المتلقي. ما يمكن قوله إنه أنجز، لحد كتابة هذه السطور، أربع لوحات من الحجم الكبير (150cm / 150cm) يحكي فيها ملحمة التحرر كُتبت بصيغة نسوية، تناول حكايته السردية على مراحل، استخدم فيها تقنيات الكتابة واللون، أو بعبارة أخرى استخدم تقنيات اللون أشبه بالكتابة، في الحقيقة لا يمكن التعامل مع هذه الأعمال، إلا من خلال فعل الإنصات إلى سرد انسيابي تتكامل أطرافه من لوحة إلى أخرى، أو لنقل من صفحة إلى أخرى.
لم تكن اللوحات الأربع سوى قصة امرأة تتأمل الأشياء بحزن وقلق، حيث تظهر أمامها ألوان مفككة ومبعثرة، إذ من زاوية رؤيتها للأشياء، يكون العالم غير مركب بشكل منظم والعين لا تستشعر المتعة والارتياح، فيغيب صفاء الذهن أمام لحظة تأملية ينعدم فيها نسق الألوان، هناك حالة من الفزع تنتاب المرأة أمام هول ألوان مكسورة فوق عتبة القهر المجتمعي والثقافي. في محاولة منها لإعادة تركيب العالم تضع المرأة خلفها عالما بألوانه الضبابية، ثم ترفع وجهها إلى الأعلى فتظهر لها زرقة السماء من حولها، هناك انجذاب إلى السماء في مشهد طقسي لا يخلو من وجل ترانيم الحرية، تتسلل زفرة الحرية إلى جسد يشكو السكينة والسلام.
في الصفحة ما قبل الأخيرة من الكتابة الفنية، يغمر لون السماء جسد امرأة ويلقي بظلاله في أرجاء الكون، ينطلق الجسد في حركة كالسهم مستمتعا بحريته يتحسس ذاته ككينونة جديرة بالحرية كهوية متحررة من نمط ذكوري ثقيل ومن أغلال ثقافية بائسة.
أما في الصفحة / اللوحة الأخيرة يحصل تقابل بين امرأة تملك زرقة السماء في صفائها الخالص وأخرى تحمل بقايا ألوان مبعثرة وأطراف جسدية مشوهة، يحدث لقاء وجها لوجه، لكن يتخلله عوائق تتمثل في فوضى الألوان، فالحوار مستحيل هناك طاقة سلبية تحجب التواصل. ما أراهن عليه شخصيا من خلال هذا الحوار إمكانية ظهور، في الصفحات الفنية المحتملة، تعميم اللون الأزرق على فضاء الحوار برمته وينتهي بتماهى الجسدين معا تحت سعة السماء، وبهذا التفاؤل الأزرق يتم تخليص الأرض من صراع طويل بُني على إخضاع جسد المرأة لإرادة موت مجهول.
نختم هذه القراءة بالعودة إلى الأسئلة التي طرحناها سابقا لنصيغ الأجوبة التالية: إن المكان/ تطوان شهد ولادتين: ولادة بيولوجيا للفنان سعدون وولادته الإبداعية (المنعطف الجديد). أما حرية الفنان ومسألة الحزب السياسي خطان لا يلتقيان، إذ لا إبداع في حضرة الاعتقال الحزبي. وعن اشتغاله على عري الجسد، فهذه إشارة تمردية على تربية تقليدية شكلت قوام شخصيته. لقد استقل الفنان قطار الحرية عابرا مسافات الأزرق نحو استكشاف عريه الداخلي.

* * * * *

يطيب لي عزيزي القارئ أن أنقل إليكم ارتسامات الفنان يوسف سعدون حول هذه القراءة التي لامست، بشكل متواضع، أعماله الفنية والإبداعية.
سعيد بهذا الاهتمام الراقي والسخي..
استمتعت بقراءة هذه الورقة..أعدت قراءتها مرارا..وعند كل قراءة تجدني أنسلخ من ذاتي لأقرأها وكأنها كتبت عن فنان آخر لا أعرفه.. فنان أعدت اكتشافه من خلال عمق هذه القراءة التي نجحت في الكشف عن دور المكان في تطور التجربة..أو بالأحرى طرح تلك القطيعة بين مؤثرات القصر الكبير بقيوده والتزاماته !!!!.ورحابة تطوان بآفاقها الزرقاء المتعددة…وأما عن صفحات كتاب اللوحات الأربع..اعترف أنك قبضت عن مكامن عمق دلالاتها بشكل بليغ…
سعيد والله بهذه القراءة الباذخة ..
لك من إمكانيات الكتابة عن الجماليات أخي عزيز ما يؤهلك لفرض اسمك المبهر..
ومن الفلسفة يأتي دائما الإبهار..
محبتي وشكري..
يوسف سعدون

 

د. عزيز الهلالي
باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة وفلسفة الجمال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *