الرئيسيةالأولىحوار مع الأستاذ عزيز بوستا أستاذ التعليم العالي مؤهل، بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

حوار مع الأستاذ عزيز بوستا أستاذ التعليم العالي مؤهل، بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة

س1- لنبدأ بسؤال يتعلق بدوافع اختيار شعبة الفلسفة؟
ارتبط اختياري لشعبة الفلسفة بقصة طريفة عشتها في بداية السنة الجامعية 1981/1982، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بظهر المهراز بفاس، بعد حصولي على شهادة الباكالوريا من ثانوية المحمدية بالقصر الكبير، حيث نصحني الكثير من الأقارب والأصدقاء بتجنب التسجيل بشعبة الفلسفة، بسبب انسداد آفاقها الوظيفية، نظرا للحصار الذي ضُرب عليها في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لكون هذه الشعبة كانت من أهم روافد الفكر السياسي المعارض آنذاك… وتحت تأثير هذه النصائح المنذرة بمستقبل مظلم، أقنعت نفسي في بداية الأمر بأن دراسة الفلسفة يمكن أن تتم بشكل عصامي، خارج المؤسسة، فانضممت لشعبة اللغة الإنجليزية وآدابها، بسبب تفوقي فيها بالثانوي. اقتنيت كل الكتب المقررة بالسنة الأولى إنجليزية، وبدأت الدراسة فيها… وكنت في بدايات الحصص الأولى وأنا أمر أمام مدرج لشعبة الفلسفة، أقف لفترات زمنية أسترق السمع لمحاضرات الفلسفة، أستمتع بها، وشيئا فشيئا أخذت أتسلل للصفوف الخلفية بتلك المدرجات، إلى أن وصل بي الأمر إلى المواظبة على حضور دروس الفلسفة رغم أنني مسجل بشعبة الإنجليزية لأزيد من شهر… ولما علم أخي الأكبر الذي سبقني للجامعة ببضع سنين، وكان يدرس بشعبة الفلسفة، وتخصص في علم النفس، لما علم بأمري، ناقش معي أسباب هذا السلوك، فلما رآني مصرا على الاستمرار في دراسة الفلسفة، رافقني لمكتب شؤون الطلبة بإدارة الكلية لتغيير تسجيلي إلى شعبة الفلسفة بشكل رسمي. وقد كنت أجد متعة في التحصيل الدراسي بهذه الشعبة، مما جعلني أتفوق فيها، حيث حصلت على أفضل الميزات التي نالها فوجي خلال الأربع سنوات الجامعية لنيل الإجازة في الفلسفة…
ويعود اهتمامي بالفلسفة، في حقيقة الأمر، إلى مراحل سابقة بنهاية الإعدادي والثانوي، حيث كانت تستهويني كتب الفلسفة التي كانت بحوزة أختي وأخي اللذين سبقاني في الدراسة ببضع سنين، كما كانت أهم التيارات الفلسفية التي أثرت في وفي ثلة من رفاقي بثانوية المحمدية آنذاك، تتجلى في ما التقطناه من آراء تنتمي للفلسفة الحديثة والمعاصرة، كالفلسفة الوجودية والمادية الجدلية وغيرهما، وبوصولنا لمستوى الباكالوريا قرأنا بنهم كتابات الطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري وحسين مروة وأدونيس… وكان يصل بنا الاندفاع في النقاشات داخل جل الحصص الدراسية – وخاصة بدرس الفلسفة- إلى تجاوز كل الخطوط الحمراء والطابوهات، مما كان يثير زوابع من الجدل الحاد، وتبادل الاتهامات … وقد وصل إلى أسماعنا، أننا صرنا موضوع حديث بعض أئمة المساجد في خطب الجمعة فيما اعتبروه تمردا على التقاليد والقيم السائدة في مجتمعنا آنذاك…
س2 – هل ساهم قرار الهجرة إلى الديار الليبية في إغناء الدرس الفلسفي؟
قرار الهجرة إلى ليبيا في صيف سنة 1985، كان بسبب توقف توظيف الخريجين من الجامعة فيما كان يسمى بالخدمة المدنية، وعدم تمكين خريجي شعبة الفلسفة خلال تلك السنة من الولوج للمدرسة العليا لتكوين الأساتذة في تخصصهم، وحرماني من منحة مستحقة للسلك الثالث بفرنسا سلمت – كما أبلغني بذلك أحد أساتذتي آنذاك- لمن لم يكن مؤهلا لها… كما صادفًتْ تلك الفترة توقيع الاتحاد المغربي الإفريقي بين المغرب وليبيا، ففكرت في السفر إلى ليبيا، مدفوعا بالأصداء التي كانت تصلنا من الإعلام القومي بإذاعة صوت الوطن العربي التي احتضنت خيرة المذيعين الناصريين اللاجئين بالجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية… وقد راودتني آنذاك وأنا أستقل الطيارة من مطار الدار البيضاء في التجاه طرابلس أحلام بمعانقة الفكر التحرري المناهض للإمبريالية، والمضي في مسيرة البحث العلمي في المجال الفلسفي، لأنتقل فيما بعد إلى فرنسا لمتابعة رحلتي الدراسية هناك قبل العودة لبلدي… لكن كل هذه الأحلام تبخرت بمجرد خوضي لتجربة العمل والحياة في ليبيا، فبقدر ما لمست لدى الإخوة الليبيين طيبوبة منقطعة النظير، بقدر ما صدمت من قسوة النظام الشمولي الذي كان يسيطر على ليبيا آنذاك… أما في الجانب الثقافي فلا تكاد تجد في المكتبات مثلا غير الكتاب الأخضر وتفاسيره وما يدور في فلكه، وكتب التراث القديمة ، أما الفلسفة فلم يكن مرحبا بها هناك، وقد منع القذافي تداول اسمها، حيث غيرها باسم “علم التفسير”، وكانت تقتصر في الثانوي التأهيلي على دروس جافة في المنطق الصوري الأرسطي وبعض التيارات الفكرية ، من أجل الوصول للنظرية العالمية الثالثة التي تحدث عنها القدافي في كتابه الأخضر… وبعد ازدياد حدة التوثر بين ليبيا القذافي من جهة وأمريكا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، أصبح كل من يلج ليبيا ممنوعا من السفر لكافة الدول الغربية، مما أغلق في وجهي حلم السفر من هناك إلى فرنسا لاستكمال دراستي العليا في الفلسفة هناك…
عموما أعتبر هذه التجربة التي دامت أربع سنوات في التدريس بأحد معاهد تكوين المدرسين ،أعتبرها إغناء للدرس الفلسفي الواقعي والحياتي، وليس النظري، مما جعلني أراجع الكثير من قناعاتي السابقة التي بنيت على الانبهار بشعارات وتيارات إيديولوجية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، كما عاينت أوضاع كثير من البلدان العربية عن كثب كالجزائر، وتونس المجاورة التي كنت أقضي فيها أغلب العطل، أو بشكل غير مباشر كمصر وسوريا والسودان ولبنان بحكم احتكاكي بأساتذة من هذه البلدان اشتغلوا وأقاموا معي بنفس الإقامة…
س3: علمنا أنك خضت تجارب هامة في ليبيا آنذاك خارج مجال التدريس والتكوين، هلا حدثتنا عنها؟
سافرت إلى هناك في بدايات شهر غشت من سنة 1985، حيث كانت مصالح وزارة التعليم (الأمانة العامة للتربية والتعليم) في عطلة، مما اضطرني للبحث عن عمل في هاته الفترة… لم يكن إيجاد عمل لائق في تلك الفترة أمرا صعبا بسبب الخصاص في الوظائف الذي تسبب فيه الخلاف الناشب بين النظامين الليبي والتونسي في أواخر سنوات حكم بورقيبة، حيث تم ترحيل الموظفين والعمال التونسيين بمختلف وسائل النقل، إلى بلادهم، دون تمكينهم من مهلة كافية لجمع أغراضهم وتحصيل مستحقاتهم… عملت موظفا بقسم الاستقبال في أكبر فنادق طرابلس (بفندق باب البحر)، لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، تعرفت فيها على الكثير الوجوه الفكرية والسياسية العربية والعالمية التي كان نظام القذافي يستضيفها بهذا الفندق، كما كان البهو الفخم المقابل لقسم الاستقبال مكانا للاجتماعات الدورية لقيادات اللجان الثورية المقربة من العقيد القذافي، كما شهد الفندق انعقاد العديد من المؤتمرات القطرية والعربية والدولية، مما مكنني من اكتشاف الكثير من الأسرار والقضايا المرتبطة بالنخب المسيطرة على زمام الأمر بليبيا في تلك الفترة…
وبعد مضي قرابة ثلاثة أشهر بهذه الوظيفة، تم الإعلان عن مناصب شاغرة في التدريس بمعاهد تكوين المدرسين، فتقدمت لها، رغم محاولة رئيس قسم الاستقبال بالفندق الذي اشتغلت به ثنيي عن ذلك، حيث أكد لي أنه هو نفسه، وأغلب المسؤولين بالفندق، أساتذة سابقين، فضلوا الابتعاد عن التدريس لقلة اهتمام الدولة به مقارنة بباقي القطاعات، لكن شغفي بمهنة التدريس دفعتني لخوض غمار تجربة جديدة في تكوين الأساتذة لمدة ناهزت أربع سنوات، بمدينة صغيرة قرب طرابس تسمى العزيزية.
وخلال السنة الموالية لقيامي بهذه المهمة الجديدة، اتصل بي بعض الأصدقاء ليزفوا لي خبر الإعلان عن مباراة لولوج مهنة الصحافة بإذاعة صوت الوطن العربي بليبيا، فتحت في وجه كل الإخوة العرب الحاصلين على الشواهد الجامعية، وبشروط مغرية جدا (تشمل فترة تكوين لنيل بطاقة الصحفي، والحصول على سكن وظيفي، والسفر لمختلف أنحاء العالم للتغطية الصحفية لما يقع بها…). كان ذلك مباشرة بعد الغارة الأمريكية التي شنت على ليبيا سنة 1986 بكل من طرابلس وبنغازي؛ اجتزت هذه المباراة رفقة العشرات من الشباب من مختلف الأقطار العربية. نجحت في الاختبار الكتابي، فتقدمت للمقابلة الشفوية، حيث وجدت نفسي محاطا بأكبر المذيعين المصريين الناصريين،إضافة لبعض القياديين في اللجان الثورية الليبية؛ وسط قاعة فخمة، استمر النقاش قرابة ساعة ونصف، تطرقنا فيه لقضايا سياسية وفكرية مختلفة؛ لكن الأمر الذي استفزني في آخر النقاش هو ترديد أغلب المتدخلين لعبارات (العدوان الصليبي الغاشم على الأمة العربية) في وصفهم لما يقع آنذاك. … مما جعلني أتدخل للتعبير عن موقفي المخالف لهذا الطرح ، مبينا أن الغرب الأمبريالي لم يعد يخوض حروبا دينية ولأهداف دينية صرفة، وذلك منذ الثورات الحديثة المتتالية في أوروبا ، وإلا ما مبرر محاربة الأمبريالية للشعوب التي تدين بالمسيحية بأمريكا اللاتينية، ومحاربة ذوي الديانات الأخرى كما تحارب الحركات اللامتدينة أيضا !!! إنها حرب مصالح وهيمنة…. وبعد إتمام فكرتي، فاجأني رئيس اللجنة قائلا: (نحن نعرف ذلك حق المعرفة، لكننا في حاجة للتأثير العاطفي على الجماهير، بالضرب على الوتر الديني الحساس!) أجبت آنذاك:(أعتقد أن الاعتماد على الخطاب العاطفي لن يضمن صمود شعوبنا أمام الهيمنة الإمبريالية التي تستعمل العلم، فإن نحن زرعنا التفكير العلمي الواقعي لدى شعوبنا سنجعلها محصنة من أي استغلال قد تتعرض له…) وفي نهاية المقابلة نبهني أحد الأعضاء الليبيين إلى أنهم يسيرون على خطى الكتاب الأخضر الذي حسم النقاش في هذه المسألة باعتبارنا مستهدفين في ديننا وقوميتنا…. وانتهت المقابلة. .. وبمجرد خروجي من القاعة قررت أن لا أعود لهذه المؤسسة كيفما كانت النتيجة… وبعد بضعة أسابيع أخبرني مدير معهد تكوين المدرسين بالعزيزية التي كنت أشغل بها بصفتي أستاذا في علوم التربية، بأن إدارة إذاعة صوت الوطن العربي بطرابلس تنتظر الاتحاق بها عاجلا، لأنني نجحت… اعتذرت لهم عن الالتحاق بهم، وفضلت الاستمرار في مهنتي الأصلية رغم بؤسها هناك، كما هو شأنها في كافة الدول العربية مقارنة بمهن أخرى ومواقع أخرى…
س4 – نعلم أنه بعد وفاة الأستاذ جمال الدين العلوي أصبح الأستاذ محمد المصباحي مشرفا جديدا على اطروحتكم، ما تأثيرات هذا الحدث على مجريات عملكم؟
إن كنتم تقصدون أطروحة السلك الثالث في الفلسفة، حول جوانب من الفلسفة الطبيعية لدى ابن رشد، فقد كان الإشراف عليها مزدوجا من الأساذين معا من الناحية الإدارية الشكلية فقط، أما المشرف الفعلي عليها فهو أستاذي الدكتور محمد المصباحي ، الذي سبق وأن أشرف على بحثي لنيل الإجازة في الفلسفة في موضوع: (مفهوم الخيال عند الفارابي) خلال السنة الجامعية 1984/1985… أما وفاة الأستاذ جمال الدين العلوي الذي عانى آنذاك من مرض عضال، فقد كانت صدمة كبيرة لتلاميذه وزملائه وأهله، لأنه كان رحمه الله يتصف بأخلاق العلماء في عطائه وسلوكه ونزاهته، كما أن المنية اختطفته وهو في بدايات تألقه وإبداعه…

س5 – بعد التحاقكم بمركز تكوين المعلمين بطنجة، حدث منعطف في مساركم العلمي، بحيث انخرطتم في اهتمام معرفي آخر يتعلق بعلوم التربية، هل وجدتم في هذه النقلة انفصال ام اتصال متجدد بالفلسفة؟
كان التحاقي للتدريس بمركز تكوين المعلمين والمعلمات بطنجة سنة 2001 وانتقالي للمركز التربوي الجهوي بطنجة منذ سنة 2005 إلى الآن، فيما أصبح يسمى منذ 2012 بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، كأستاذ لعلوم التربية؛ جعلني أنتقل – بحسب التصنيف الفلسفي القديم- من العقل النظري إلى العقل العملي، وهو انتقال من “علم” عام إلى أحد الحقول العملية الذي كان يصنف قديما ضمن السياسة والأخلاق، وقد أصبح في عصرنا الحالي أشد ارتباطا بعلوم إنسانية متطورة كعلم النفس وعلم الاجتماع واللسانيات والأنتربولوجيا وعلوم دقيقة كالفيزيولوجيا والنورولوجيا وغيرها، ومع ذلك لم يستطع الاستغناء عن الفلسفة، إذ تعتبر فلسفة التربية روحه النابضة والموجهة له نحو الغايات والمقاصد البعيدة التي نستهدفها من أي فعل تربوي … هذا ما جعلني أزاوج بين اهتمامي بالفلسفة والتربية باعتبارهما حقلان متكاملان، ولن أجازف إن قلت بأن درجة الاهتمام بهما معا، يعد مقياسا لتقدم الشعوب أو تأخرها…ولعل هذا ما جعلني دوما في مناقشاتي للنظريات البيداغوجية والديداكتيكية أركز أكثر على جذورها الفلسفية والإيبستيمولوجية، لا باعتبارها أفكارا مجردة عن أبعادها التاريخية كما جرت عادة تدريسها بمراكز تكوين الأساتذة بمختلف الدول العربية.
س6 – أنتم الآن تشتغلون في مختبر التداوليات بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمرتيل، هل وجدتم من خلال هذا الاشتغال ما أشبع نهمكم المعرفي؟
مؤسستي الأصلية المسماة بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة، تعتبر – بحسب المرسوم المؤسس لها- مؤسسة للتعليم العالي غير الجامعي، حيث تظل تابعة لقطاع التعليم المدرسي بوزارة التربية الوطنية؛ وهي بصدد إرساء هياكلها العلمية إسوة بالمؤسسات الجامعية؛ وبسبب هذه الوضعية الانتقالية يقوم الكثير من أساتذتها الباحثين بالتعاون العلمي مع المؤسسات الجامعية التي تلبي حاجياتهم البحثية والعلمية، وتمكنهم من الترقي في مسارهم الأكاديمي… وفي هذا السياق كان لي شرف الانتماء لمختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية ، أثناء وضع لبناته الأولى منذ حوالي ثلاث سنوات، حيث دعاني زميلي الدكتور محمد الحيرش رئيس المختبر إلى الانضمام لفريق من الباحثين الجادين بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمارتيل التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، والأستاذ الحيرش بالمناسبة من الأساتذة الذين ترعرعوا بمدينة القصر الكبير وتخرجوا – رفقتي- من الثانوية المحمدية، ويكن لهذه المدينة ولأهلها كل المحبة والتقدير…
وقد انبثق عن هذا المختبر ماستر التأويليات والدراسات النصية واللسانية ، وصل خلال هذا الموسم لسنته الثالثة، وأهم ماراقني فيه هو انسجام فريقه، وتنوع اهتمامه، بحيث جمع بين الشق اللساني والنقد الثقافي والفلسفي والإبيستيمولوجي وغيرها من المجالات التي انفتحت عليها الدراسات الهيرمينوطيقية الحديثة والمعاصرة، كما أن طلبته الباحثون يأتون إليه من شعب الفلسفة والآداب واللسانيات دون أي تمييز… ولا أنكر أن انضمامي لهذا الفريق المتميز، الذي يضم أعضاء من مؤسسات مختلفة من كلية الآداب بمارتيل وكلية أصول الدين والمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين والمدرسة العليا للأساتذة بمارتيل وغيرها؛ جعلني أستأنف النظر في كثير من القضايا الفكرية والفلسفية بفعل إعادة ترتيبي لها ضمن أولويات اهتماماتي…
س7 – ما الفرق بين التدريس بالجامعة ومركز تكوين الأساتذة؟ وأين تجدون أنفسكم؟
سؤالكم هذا مركب وله عدة أبعاد وامتدادات، لنقتصر في جوابنا على أهمها في نظري، لازالت منظومتنا التربية المغربية في عمومها لم تعالج بشكل جيد العلاقة بين الشق الأكاديمي من التكوينات التي يستفيذ منها طلبتنا الجامعيون، والشق البيداغوجي/المهني الذي تتولاه مراكز تكوين الأساتذة بمختلف أصنافها وفي مختلف مراحلها (السابقة والحالية)، بحيث يدرسون علوما تخصصية طيلة سنوات الإجازة، لنْ يحتاجوا منها في حالة اختيارهم مهنة التدريس سوى جزءا يسيرا، وفي بعض التخصصات يدرس الطالب مثلا الجغرافيا فقط ليجد نفسه في مركز تكوين الأساتذة مضطرا للاستعداد لتدريس التاريخ والجغرافيا والتربية على المواطنة، ونفس الأمر بالنسبة للمجازين في علم النفس حينما يلجون لتخصص الفلسفة بمراكز تكوين الأساتذة، وكذلك المجازون في الكيمياء بالنسبة لتخصص الفيزياء والكيمياء بالثانوي… هذا ما جعل منظومات تربوية في بعض الدول العربية وغيرها، يحددون لطلبتهم الجامعيين مسارين مختلفين: مسار علمي أكاديمي محض شبيه بما يدرس في مختلف كلياتنا في العلوم الدقيقة والتقنية والعلوم الإنسانية والعلوم القانونية والاقتصادية… ومسار آخر ضمن التكوين الجامعي يتمثل في كليات التربية التي تعنى بتكوين الطلبة الذين يهيأون ليصبحوا مدرسين، بعد تكوين يزاوج بين الشق الأكاديمي الضروري لتدريس مادة معينة والشق البيداغوجي والديداكتيكي، من أجل بناء كفايات مهنية متوازنة، وذلك تفاديا لهدر الكثير من الجهود والطاقات في تكوينات لن تنفعهم لاحقا في مجال التدريس…
ومن المفارقات الصارخة التي كانت وما تزال تعاني منها منظومتنا التربوية، بهذا الخصوص، هو أن خيرة من يتخرجون من كليات الآداب والعلوم بمختلف التخصصات، هم الذين يلجون مراكز تكوين الأساتذة، لذلك يفترض أن تكون هذه المراكز في نفس مستوى المؤسسات الجامعية من جميع الجوانب الهيكلية والتنظيمية والعلمية، ولعل هذا ما قصده المشرع عندما صنفها في مسروم 2011 المحدث لها، في صيغتها الجديدة، (CRMEF) باعتبارها مؤسسات للتعليم العالي غير الجامعي، لكن تفعيل مقتضيات هذا المرسوم لازال متعثرا بفعل ضغط لوبيات عديدة تستفيذ من إبقاء وضعية هذه المراكز كما كانت عليه سابقا… هذا على الرغم من احتواء هذه المراكز على طاقات علمية ذات كفايات مهنية عالية وأساتذة للتعليم العالي لهم إسهامات هامة في أنشطة علمية وثقافية غزيرة خارج مؤسستهم الأصلية، أكثر بكثير من تلك التي يزاولونها داخلها…
لذا أعتقد أن من واجبنا جميعا أن ندفع في اتجاه تصحيح الاختلالات المشار إليها أعلاه باعتبار المؤسستين (الجامعة ومركز تكوين الأساتذة) معا، هامتين وأساسيتين في تكوين الأجيال المتوالية علميا وبيداغوجيا، ويمثل أي خلل في أي جانب منهما نقطة ضعف مؤثرة سلبا في شخصية طلبتنا بكلتي المؤسستين، وله انعكاسات وخيمة على أطفالنا وتلامذتنا بقطاع التعليم المدرسي…
أما من جهتي فأحاول إقامة توازن بين مساهماتي الثقافية والعلمية المتواضعة في المجالين الفلسفي والتربوي، داخل مركز التكوين الذي أعمل به ومع زملائي الجامعيين بكلية الآداب بمارتيل… كما أجد نفس المتعة في أنشطتي بالمؤسستين معا…
س 8- وما دمنا بصدد تكوين الأساتذة، ما رأيك في النظام الجديد للتكوين المبني على التعاقد، والذي أطلق عليه مؤخرا اسم “تكوين أطر الأكاديميات”؟
عبرت عن موقفي الشخصي من هذا النظام الجديد منذ انطلاقته، في مناسبات عديدة، وهو نفس الموقف الذي تتبناه النقابة التي أنتمي لها (النقابة الوطنية للتعليم العالي) باعتبار هذا النظام الجديد يكرس الهشاشة بمنظومتنا التربوية، ويضعف مدرستنا العمومية، ويدفع نحو تدني جودة مخرجاتها، ويكرس تراجعات كثيرة سأكتفي بذكر مثال واحد ملموس عنها، وهو أننا بعدما كنا نكون أساتذة في مستويات ثلاث منفصلة في مناهجها، هي التعليم الابتدائي، والتعليم الثانوي الإعدادي، والتعليم الثانوي التأهيلي، أصبحنا الآن أمام صنفين فقط: تكوين موجه لأساتذة التعليم الابتدائي ، وتكوين موجه لأساتذة التعليم الثانوي، دون أي تمييز على مستوى المنهاج بين الإعدادي والتأهيلي، ودون عُدّة منهاجية بديلة توزع الحصص بتناسب بين المستويين… مما جعل التكوين في المستوى الثانوي تسوده العشوائية والمزاجية، ويبقى لكل أستاذ اختياراته بخصوص المستوى الذي يفضله مع متدربيه…. فحسابات واضعي هذا النظام الجديد رجحت الجانب المادي والاقتصادي المحض على جانب الجودة، فما يهمها في المثال الذي سقناه أعلاه، هو أن “نُنتج” أستاذا “جوكيرا” للثانوي، يملأ الفراغ أيا كان، سواء بالإعدادي أو الثانوي، وفوق ذلك نحرمه من الوصول لخارج السلم الذي كان يتيحه إطار أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي سابقا… ولنا من الأمثلة الشبيهة بهذا الكثير مما لا يتسع به المجال هنا.
س9 – هل من جديد لديكم في مجال البحث الفلسفي؟
آخر ما أنهيت الاشتغال عليه منذ حوالي أسبوع، رفقة أحد زملائي بجامعة عبد المالك السعدي، يتمثل في قراءة للمنجز الفكري لأستاذي محمد المصباحي، المفكر الرشدي العالمي، ابن مدينة القصر الكبير، وهي دراسة معمقة ستصدر باللغة الإنجليزية بدورية أكاديمية بإحدى جامعات موسكو بروسيا. وقد سعدت واستمتعت كثيرا بهذا العمل الذي جعلنا، أنا وزميلي، نغوص في فكر رجل فكر فلسفيا قبل أن يفكر في الفلسفة ومذاهبها، وأبدع فيها … لكنه، رغم مكانته العالمية المحترمة، لايزال يستحق منا – نحن أبناء بلده- مزيدا من الاهتمام بفكره وعطائه العميق والغزير.

س10- كلمة أخيرة
لا بد لي في نهاية هذه الكلمة من التعبير عن السعادة التي تغمرني وأنا أحاوركم، وأتبادل معكم الآراء حول مختلف القضايا الهامة التي أثرتم في أسئلتكم، كما لا يسعني إلا أن أشيد وأنوه بالجهود الجبارة التي تقومون بها، بموقعكم الإعلاميالذي يقدم نموذجا يحتذى به، في العمل الإبداعي والثقافي والفني، شكلا ومضمونا، تعجز عن القيام به مؤسسات لها موارد مالية وافرة وطاقات بشرية متخصصة!! . كما راقني اهتمامكم بقضايانا الأساسية، قضايا المرأة والتنمية المستدامة لمدينتنا العريقة، وإبراز عطاءات وإبداعات وإنجازات نسائها ورجالها، الذين قضوا نحبهم والذين لازالوا يواصلوم مسيرتهم الابداعية؛ فكم يزداد سروري حينما أرى بصفحتكم المشعة هاته، قامات إبداعية وثقافية كبيرة أمثال الشاعر مصطفى الطريبق أو الأستاذ الكبير إدريس حيدر إلى جانب مبدعات ومبدعين شبابا ، وآخرين في منتصف العمر… مما يؤكد وعيكم بأهمية تشجيع جميع الفئات ليستفيذ اللاحق منهم بالسابق، ضمانا لاستمرارية الإنتاج الفكري والثقافي والإبداعي بمدينتنا الغالية، لنساهم بما استطعنا من أجل إبعاد شبح التهميش والإقصاء الذي لازال يتربص بها…

 

أمينة بنونة
أمينة بنونة

حاورته أمينة بنونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *