لم تكن أمسية يوم الأحد الموافق 31 مارس/آذار 2019 مثل غيرها بالنسبة لعشاق الموسيقى التقليدية والتراثية، إذ كانت هذه الأمسية مناسبة فريدة، ربما تكون الأولى من نوعها، للاحتفاء بالموسيقى التقليدية والتراثية في العالم، حيث اجتمع في لشبونة البرتغالية عدد كبير من الفنانين والموسيقيين والمطربين المشاركين بالدورة الأولى من جوائز الآغا خان للموسيقى، إلى جانب العديد من الشخصيات الدولية الهامة يتقدمهم رئيس جمهورية البرتغال البروفيسور مارسيلو ريبيلو دي سوزا، وصاحب السمو الأمير كريم آغا خان (رئيس ومؤسس شبكة الآغا خان للتنمية)، والأمير أمين آغا خان، للاحتفال بإسدال الستارة على الدورة الأولى من جوائز الآغا خان للموسيقى 2019.
حفل الختام الذي كان مميزاً وحافلاً بالنشاطات شهد الإعلان عن الفائز بجائزة الآغا خان للموسيقى عن فئة الآداء من بين 14 مرشحاً للجائزة، ومنح جوائز مالية بقيمة 500,000 دولار أمريكي للفائزين، وتنظيم حفل ختامي جمع 10 فائزين ضمن ست فئات مختلفة، بمشاركة 13 دولة من جميع أنحاء آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية، في مشهد فريد يعكس روعة الموسيقى وأهميتها في تعزيز الانتماء وتحقيق التواصل بين الشعوب، كما يرسل في الوقت نفسه رسالة واضحة إلى العالم بأسره حول أهمية التنوع والتعددية في العالم.
هذه الرسالة بدت أكثر وضوحاً في كلمات الرئيس البرتغالي الختامية، عندما تحدث قائلاً: “هذه الجائزة تمثل بدايةً لرحلة طويلة معاً”، وأضاف: “حيث إننا نفكر جميعاً بالسلام في العالم، وبالتعددية، والحوار، والكفاح المشترك ضد التعصب، تعتبر الموسيقى أفضل طريقة للقيام بذلك”. ولايختلف الأمر بالنسبة لسمو الآغا خان الذي أكد في كلمته الختامية على أهمية التواصل والانفتاح على الآخر من خلال الموسيقى. وقال في كلمته: “إن القوى التكنولوجية التي تعيد تشكيل عالمنا الآن، تعني أن الجيران الذين يعيشون على الجانب الآخر من الكوكب باتوا قريبين منّا مثل جيراننا الذين يعيشون في الشارع”. وأكد: “في مثل هذا العالم، يتطلب السلام والتقدم أن نعزز أجندة تعددية، وأن نستثمر في أخلاقيات عالمية. تهدف جوائز الموسيقى هذه إلى أن تكون استثماراً وترويجاً في هذا المجال”.
وكان الآغا خان قد قام بتأسيس جوائز الموسيقى في شهر مارس/ آذار من العام الماضي (2018) بهدف الاعتراف بالإبداع الاستثنائي، والأعمال المبشّرة بالنجاح، ومشاريع الأداء الموسيقي الإبداعي والتعليمي، الذي يحفظ وينشر التراث الموسيقي في المجتمعات التي يتواجد فيها المسلمون على نحو كبير حول العالم. واستضافت مؤسسة “كالوست كولبنكيان” في لشبونة، البرتغال، حفل توزيع جوائز الآغا خان للموسيقى في دورتها الأولى الذي أقيم على مدى ثلاثة أيام خلال الفترة الممتدة من 29 إلى 31 مارس/آذار، حيث قام المرشحون النهائيون للجائزة بتقديم عروض مباشرة أمام الجمهور ولجنة التحكيم العليا، أعقب ذلك الإعلان عن الفائز في جائزة الأداء ضمن حفل توزيع الجوائز في مساء اليوم الأخير من المسابقة.
أما حفل الافتتاح فكان ساحراً ويرتقي بالتأكيد إلى حجم وأهمية هذه المسابقة، حيث عزفت فيه أوركسترا كولبنكيان مجموعة رائعة من المقطوعات الموسيقية بقيادة المايسترو بدو نافيس ومشاركة كوكبة من الفنانين والموسيقيين المروقين في العالم، من بينهم الفنان والملحن وعازف الساكسفون السوري باسل رجوب، الذي قدم مقطوعة موسيقية رائعة بعنوان “الأمواج الذهبية”، تستلهم ايقاعاتها وألحانها من الموسيقى التقليدية في الشرق الأوسط بالإضافة إلى موسيقى الجاز.
وبعد ثلاثة أيام من الحفلات الموسيقية الرائعة والعروض المباشرة التي قدمها المرشحون للجائزة، تم منح الجائزة لفئة الآداء إلى عازف العود المصري والمطرب مصطفى سعيد، وهو أيضًا ملحن وعالم موسيقى ومعلم في مجال الموسيقى.
وكان مصطفى سعيد قد قدّم في المسابقة النهائية مقطوعة موسيقية قام بتأليفها بشكل خاص وهي مستوحاة من قصيدة صوفية يزيد عمرها عن 3000 عام، تلتها قصيدة أخرى تحتفي بالعديد من الشعراء العرب بمن فيهم عمر الخيام وخليل جبران. ويؤلف مصطفى سعيد أغلب أعماله بالاعتماد على القصائد والأشعار التي يستمد منها مفرداته وأنغامه الموسيقية، وهذا مايؤكد عليه بالقول: “أنا أقرأ باستمرار، وعندما يلفت انتباهي شيء ما، أبدأ في تحويله إلى موسيقى”.
ولد الفنان مصطفى سعيد وترعرع في القاهرة، وتعلم قراءة وكتابة الموسيقى بطريقة برايل منذ نعومة أظفاره. بعد ذلك، درس في دار العود العربية في القاهرة ، وتعلم الموسيقى الغربية من خلال المراسلة مع مدرسة هالدي للمكفوفين وضعاف البصر. في وقت لاحق، حصل الفنان الفائز بجائزة الآغا خان للموسيقى على شهادة في اللغويات والأدب الإنجليزي من جامعة عين شمس، وشهادتي ماجستير في علم الموسيقى من المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونية في لبنان. من خلال أداءه الغني، سجل مصطفى سعيد العديد من الألبومات وشارك في المهرجانات الموسيقية الدولية كعازف منفرد وعضو في فرقة “أصيل” للموسيقى العربية الكلاسيكية المعاصرة، التي أسسها في عام 2003.
وبصفته باحثًا، نشر مصطفى سعيد العديد من المقالات الأكاديمية كما ألقى العديد من المحاضرات حول مجموعة من الموضوعات التي تتعلق بالموسيقى في الشرق الأوسط والعالم العربي، وقام بجمع أكثر من 500 أغنية مصرية وعربية قديمة. كما شغل منصب المدير الفني والمحفوظات في مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية في لبنان خلال الفترة من عام 2008 إلى 2010، وعمل كمدير لها منذ عام 2010. وبصفته ملحناً، قدم العديد من المؤلفات الموسيقية لمجموعة “أصيل”، والمسرحيات، والعروض الراقصة والأفلام.
وكانت التصفيات النهائية لجائزة الأداء قد شهدت مشاركة 14 فنانا وعازفا مختلفاً من بينهم عدد من الفنانين العرب من سورية والأردن وفلسطين ولبنان. وضمت قائمة الفنانين المرشحين كل من: أحمد الخطيب (عازف عود ـ فلسطين)، وشاهو عندليبي (عازف ناي فارسي ــ إيران)، وناي البرغوثي (مغنية وعازفة على آلة الفلوت ــ فلسطين)، وهدى عصفور (عازفة عود وقانون ــ فلسطين)، وسوغاتا روي تشودري (عازف سارود ــ الهند)، وبوراك كيناركا (عازف عود ــ تركيا)، وأسين خان لانغا (مغني وعازف سارانجي ــ الهند)، وإيجاز شير علي خان (مغني وعازف آلة هارمونيَم ــ باكستان)، وأراش محافظ (عازف سانتور ــ إيران)، وعبير نعمة (مغنية ــ لبنان)، ورضا بارفيزاده (عازف كمانجه ــ إيران)، ومحمد عثمان (عازف عود وبزق ــ سوريا)، ونسيم سيابيشاهريفار (مغنية ــ إيران)، إضافة إلى الفنان الفائز بالجائزة الفنان مصطفى سعيد من مصر.
وإضافةً إلى فئة الأداء، شملت مجالات الجوائز: التأليف الموسيقي، التعليم، الحفظ والإحياء والنشر، الاندماج الاجتماعي والمساهمات المتميزة والدائمة في الموسيقى، إضافةً إلى منح جائزة الراعي الخاصة. ففي فئة الإبداع فازت بالجائزة الملحنة وعازفة البيانو الأذربيجانية فرانغيز علي زادة، التي أنتجت مجموعة غنية من الحفلات الموسيقية الكلاسيكية المستوحاة من تقاليد أذربيجان الموسيقية والأدبية.
وفي فئة التعليم، فازت بالجائزة فرقة “أومنيبس إينسيمبل”، ومقرها طشقند، أوزبكستان، حيث تعمل على خلق تقارب فني بين تقاليد “المقام” الكلاسيكي المحلي ولغات الموسيقى المعاصرة. بينما فازت الفنانة التونسية الرائعة بديعة بوحريزي، والمعروفة أيضاً باسمها المسرحي “نيساتو بفئة، الاندماج الإجتماعي، وهي مغنية وكاتبة أغاني وملحنة من تونس، قامت بتوظيف موهبتها الموسيقية لتعزيز العدالة الاجتماعية وقيم التعددية والديمقراطية.
أما في فئة الحفظ والإحياء والنشر، فقد فاز بالجائزة الفنان فرهود حليموف، وهو مغني وملحن ويعزف على عدة آلات موسيقية من سمرقند، أوزبكستان، ويحتفظ بمخزون من الأغاني الكلاسيكية التقليدية الخاصة بسمرقند، فضلاً عن متحف غورمينج للآلات الموسيقية في دوشانبي، طاجيكستان.
كما فازت المطربة وكاتبة الأغاني المشهورة أمو سانغاري من مالي بالجائزة عن فئة المساهمات المتميزة والدائمة في الموسيقى، إلى جانب بالاك سيسوكو، العازف على آلة “الكورا” من مالي وهو ملحن قام بتطوير فن “الكورا” بأساليب مبدعة ومبتكرة مع الحفاظ على التقاليد، وداريوش تالاي، العازف على آلة “تار” من إيران، وهو أستاذ في الموسيقى وملحن ومعلم، ويُعرف بالتزامه الاستثنائي بنقل تقاليد العزف الموسيقية الكلاسيكية على آلة “تار” عبر أنشطته المتنوعة كفنان ومعلم وباحث.
بينما تم منح جائزة الراعي الخاصة إلى محمد رضا شجاريان تقديراً لإسهاماته الدائمة في التراث الموسيقي للإنسانية، فضلاً عن تميّزه الموسيقي الذي لا نظير له، وتأثيره الاجتماعي المستمر باعتباره مغني ومعلم، داخل إيران وخارجها على حد سواء.
وبالإضافة للجائزة المالية القيمة، يحظى الفائزون بفرصٍ للتطور من الناحية المهنية يتم ترتيبها بالتعاون مع جوائز الموسيقى وذلك في كل دورة من دورات الجوائز التي يتم تنظيمها كلّ ثلاث سنوات. وتتضمن هذه الفرص اللجان المتخصصة بإنشاء الأعمال الجديدة، وعقود التسجيلات وإدارة أعمال الفنانين، ودعم المبادرات التعليمية الرائدة، والاستشارات الفنية أو التنظيمية المتعلقة بمشاريع أرشفة الموسيقى والحفاظ عليها ونشرها.
أشرف على اختيار المرشحين للجائزة في دورتها الأولى لجنة تحكيم مستقلة مؤلفة من خمسة شخصيات بارزة في مجال الموسيقى والفنون، وضمت هذا العام كل من: جان ديورينغ (أستاذ في الموسيقى الإثنية وزميل أبحاث فخري بارز في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية)، وديفيد هارينغتون (عضو مؤسس وعازف الكمان الأول في فرقة “كرونوس الرباعية”)، وسليمة هاشمي (رسامة ومديرة فنية سابقة للكلية الوطنية للفنون في لاهور)، ونوري اسكندر (ملحن وأستاذ موسيقى ومدير سابق في المعهد العربي للموسيقى في حلب)، وأكرم خان (مصمم رقص ومدير فني في شركة أكرم خان).
الجدير بالذكر أن مبادرة الآغا خان للموسيقى تعتبر من البرامج التعليمية الإقليمية والدولية المخصصة لتعليم الموسيقى والفنون، حيث تحظى هذه المبادرة بحضورٍ عالميٍ واسع بالتزامن مع تقديم العروض ونشاطات الإرشاد والإنتاج الفني في جميع أنحاء العالم. وتم إطلاق المبادرة بهدف مساعدة المواهب الموسيقية ومعلمي الموسيقى الذين يعملون للحفاظ على تراثهم الموسيقي ونقله وتطويره بأشكال معاصرة. وبدأت مبادرة الموسيقى أعمالها في منطقة آسيا الوسطى، لتقوم بعد ذلك بتوسيع أنشطتها المتخصصة في مجال التنمية الثقافية لتتضمن المجتمعات الفنية والجماهير الموجودة في مناطق الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وجنوب آسيا.
طنجة الأدبية