هناك حقيقة أصبح من الضروري قولها بصوت عالٍ:
لقد تمّ تضليل الرأي العام لسنوات بمصطلح “تشبيب المؤسسات”، وكأن ضخ وجوه في العشرينات والثلاثينات كافٍ ليقلب موازين الفساد ويعيد هيكلة الدولة. النتيجة؟ لم نجنِ إلا واجهات معدّة للعرض… ومؤسسات تتهاوى من الداخل.
إن خطاب العرش 2025 لم يكن مجرد تقييم، بل كان صفعة ناعمة للتجارب الفاشلة التي ارتبطت بتشبيب بلا معنى، وتشبيب بلا كفاءة، وتشبيب بلا مشروع:
- 1. الماكياج السياسي: شباب بملامح جديدة… وذهنية قديمة
ما جرى ليس “تشبيباً”، بل هو ماكياج سياسي رخيص:
ــ استبدال الوجوه دون استبدال العقليات.
ـــ تغيير المظهر مع ترك البنية العميقة كما هي.
ــــ رفع شعار “العصرنة” بينما تُدار المؤسسات بالعقلية نفسها التي كانت تُدار بها قبل ربع قرن ، أوأكثر . بل إن بعض المسؤولين وجدوا في الشباب وسيلة لتلميع صورتهم:
ــ شباب للمشهد، والتقاط الصور المثيرة … لا شباب للمهمة.
ـــ ملء الواجهة، ثم ترك الخلفية لمن يملك مفاتيح اللعبة الحقيقية.
- 2. فيترينات بشرية… ومؤسسات تسقط بصمت :
أُقحِم شباب بلا تجربة، بلا تدريب، بلا عمق معرفي، مباشرة في مواقع حساسة ، والنتيجة كانت كارثية:
ــ قطاعات توقفت عن التطور،ان لم نقل ماتت .
ــ مؤسسات أصبحت أكثر هشاشة من ذي قبل، وأصبحت ضرورة ترميمها تفرض العودة الى مكتسبات سابقة قبل الدفع بها نحو مكتسبات الألفينات أو مابعد قرار مجلس الامن بالنسبة لمغربنا المتميز بسرعتين ، تؤكد على استغلال الشباب بيولوجيا وما قدمه من قرارات تديرها “شجاعة عمرية” لا “نضج المسؤولية”.
تلك الوجوه التي قُدّمت على أنها مستقبل البلاد، أصبحت في الواقع حواجز زجاجية لا تمنح رؤية ولا حماية. شباب يشبه القشرة اللامعة التي تخفي تحتها خواءً مزعجاً.
- 3. الفساد يعود… لأنه وجد الطريق سالكاً :
عندما تضع في المؤسسات شباباً بلا مناعة، فأنت تفتح الباب على مصراعيه للفساد كي يعود من النافذة. وهذا ما حدث بالضبط.
لوبيات الفساد لم تجد أفضل من هذه المرحلة لتتنفس، لأن الموجود أمامها ليس شباباً قوياً، بل شباباً سهلاً
ـــ شباب يفتقر إلى الجرأة الحقيقية، لكنه يملك جرأة التظاهر بها.
ـــ يُجاهر بالحداثة… لكنه يفاوض في الظل.
ـــ يتحدث عن الشفافية… ثم يغرق في الصفقات بدءا من الصغيرة ،وانتهاء بالكبرى .
- 4. استنساخ التجربة الأخطر: استدراج جيل كامل عبر أقرانه :
ما كان يحدث في الثانويات والجامعات ــ عندما كان “تلميذ واحد” يكفي لاستدراج قسم كامل نحو الانحراف ــ عاد اليوم في مؤسسات الدولة.
الفرق الوحيد هو أن الأدوات أصبحت “راقية”:
ـــ بدل المخدرات… امتيازات.
ـــ بدل العصابات… شبكات مصالح.
ـــ بدل الانحراف السلوكي… الانحراف القيمي.
المبدأ واحد: استدراج الفئة العمرية الأصغر، عبر أبناء جيلها أنفسهم.
- 5. الريع كمخدّر محتمل لجيل Z :
الخطر الأكبر اليوم ليس الفساد…بل الريع المغلّف على شكل فرصة: حين يتذوق شاب أول امتياز غير مستحق، تتحول الحرية إلى إدمان، والإدمان إلى تبعية، والتبعية إلى قابلية للاستعمال.
وهكذا يتحول جيل كامل إلى رهائن، يستصعبون التخلي عن الريع أكثر مما يستصعب المدمنُ التخلي عن جرعته.
ان جيل Z ــ بتكوينه الرقمي السريع ــ من المحتمل أن يصبح لقمة سائغة للأسباب التالية :
ـــ يغريه الإيقاع السريع.
ـــ يغريه الوعد الفوري .
ـــ ويغريه “الطريق المختصر”. كاقباله على شورتات أكثر من الفيديوهات العميقة .
وهنا يولد أخطر أنواع الفساد: فساد يبتسم… ولا يخجل.
- 6. مؤسسات شابة شكلاً… عجوزة روحاً:
ما نراه اليوم أو غدا ، هو خليط غريب:
ـــ مؤسسات بواجهة شابة، لكنها أكثر شيخوخة من أي وقت مضى.
ـــ شباب يحمل آخر هواتف العالم… لكنه يفكر بمنطق يسبق 2010.
ـــ جيل يتحدث عن “التغيير” لكنه لا يجرؤ على دفع ثمنه، كما صمد في النضال من سبقه من محبي التغيير الحقيقي ،الذين لا يفشلون أمام أول حاجز .لأن التغيير الحقيقي يبدأ بالقيم، لا بالمظاهر، وبالمعنى، لا بالشعارات، وبالاستقلالية، لا بالتبعية.
- خطاب العرش: إعلان نهاية مرحلة وبداية أخرى:
الرسالة كانت واضحة: لن تُبنى الدولة بشباب تم وضعهم في الواجهة لتجميل الأعطاب. ولن يتم الإصلاح بشباب مستعد لبيع استقلاليته مقابل امتياز. وبالتالي لا يمكن أن تكون المؤسسات قوية إذا كان شبابها ضعيفاً أمام أول حاجز ، ويسقط بسرعة امام اول إغراء. ويتخلى عن مبادئه أسرع مما بناها .
ما نحتاجه اليوم :
ـــ ليس شباباً “يبدو حديثاً” ، بل شباباً يصنع الحداثة.
ـــ ولا شباباً “يمثل المستقبل”…بل شباباً يكتب المستقبل.
- 8. المعركة: ليست معركة الشباب… بل معركة معنى الشباب :
معركتنا الحقيقية ليست معركة أعمار، بل معركة قيم ،وهي معركة يجب أن تقول بوضوح:
ـــ لا لواجهة بلا مضمون.
ــ لا لشباب بلا مشروع.
ـــ لا للتشبيب الذي يخلق فراغاً أخطر من الفراغ السابق.
ـــ لا لقيم بلا جذور.
ـــ لا لمؤسسات تُبنى على الزينة بدل القوة.
والخلاصة: هي قطيعة لا تجميل ، لأن مستقبل المغرب لن يُكتب بأيدٍ ترتجف أمام الريع، ولا بعقول تبحث عن الامتياز قبل المسؤولية، ولا بوجوه تفضّل الضوء على الأداء. وإذا كان لا بد من تشبيب، فليكن تشبيباً في المعنى… لا في المظهر، تشبيباً بالقيم… لا بالصور، تشبيباً يصنع مؤسسات أقوى… لا مؤسسات أضعف بواجهات أجمل.
هذه هي معركتنا الحقيقية ضد الفساد ملكا وشعبا وهي ليست معركة تشبيب…إنها معركة استعادة الجوهر.

الدكتورة نزهة الماموني


التشبيب ليس في العمر، التشبيب في العقل والقيم. الواجهة الشابة لا تنفع إذا الجوهر لم يتغير.