أحيت دار الشعر بتطوان نهاية الأسبوع الماضي فعاليات الدورة السابعة من ملتقى “بحور الشعر”، على مدى يومين شعريين، في مغارة هرقل بمدينة طنجة، حيث يلتقي البحران الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وحيث يطل المغرب من هذه المغارة على العالم.
ومن هذه النافذة الأثرية والأسطورية أطلت الدار على بحور الشعر، وهي تستضيف شعراء من مدينة طنجة العالية، مثلما كرمت شاعرا من مغاربة العالم هو الشاعر والإعلامي جمال بودومة، حيث شهد اللقاء تقديم أمسية “بحور الشعر” في اليوم الأول، ولقاء “شاعر في المهجر”، وأمسية “الأطلال.. قراءات شعرية في اليوم الثاني، حيث كان الملتقى فرصة لعقد دورة جديدة من أمسيات الأطلال، التي تقيمها دار الشعر في الموقع الأثرية المغربية منذ سنوات.
وانطلق الملتقى هذه المرة من قلب مغارة هرقل بكلمة زهور أمهاوش، المديرة الجهوية للثقافة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، ألقاها المحافظ الجهوي للتراث أحمد أشرقي، حيث أكدت الكلمة “حرص المديرية الجهوية للثقافة على تثمين المواقع الأثرية في عاصمة البوغاز، وتأهيلها وصيانتها والعناية بها، وفي صدارتها موقع هرقل التاريخي، الذي يحتفظ بأكبر وأول معلمة تراثية دالة على عالمية طنجة، وموقعها الاستراتيجي والحضاري العريق منذ فترة ما قبل التاريخ”. واعتبرت الكلمة أن “حضور دار الشعر، بما هي مؤسسة ثقافية دولية يوجد مقرها في تطوان واشتغالها في مدينة طنجة، دليل على العمق الجهوي والأفق الوطني والمتوسطي الذي نحرص على إشاعته في المديرية الإقليمية لجهة طنجة تطوان الحسيمة. لذلك، نثمن هنا اختيار دار الشعر إقامة تظاهرات في مختلف مدن الجهة ونواحيها، بتنسيق مع المديرية الجهوية، في طنجة كما في العرائش والحسيمة والمضيق والفنيدق ووزان ووادي لو، مثلما تحرص الدار على إقامة فعالياتها في باقي جهات المملكة”.
أما مدير دار الشعر، الشاعر مخلص الصغير، فاختار في هذا المقام الشعري والأسطوري لمغارة هرقل أن يتحدث شعرا، وهو يردد: هنا يلتقي البحران عند المغارهْ/ ويعلن موج الأغنيات انكسارهْ. هنا تكتب الآثار ألف حكايةٍ/ ويختلف الرواة حول العبارهْ. هنا ينحت الماء القوي صخورهُ/ ويترك في الجدران وشم الإشاره/ هنا يغرق البحران في بعضيهما معا/ ويرخي ظلام الليل سرا خماره. سيخلع أسرى البحر كل قيودهم/ كما يكسر الفن الجديد إطاره. أنا عاشق لا يكتم الصبرُ شوقَه العتيقَ/ ولا الأمواج تطفئ ناره. أطل على الدنيا أعانق أهلها/ وأختزل التاريخ في الاستعاره. يحاصرني العدوان من كل طعنة/ ولكن إصراري سَيُلغي حِصاره”.
وكتب الشاعر المغربي مصطفى الزين شهادة ميلاد جديدة للشعر المغربي في مغارة هرقل، وهو يفتتح الأمسية الأولى، مبتدئا بقصيدته “ميلاد”، وفيها ينشد:
“… وَكَطِفْلٍ يَتَلمَّسُ لِلثَّدْيِ طَرِيقاً/ مَدَّ أَصَابِعَهُ الْبَحْرُ/ فَقُدَّ عُرْيُنَا/ مِنْ صَخْرٍ وَنَارْ. هَا قَدْ عُدْنَا
صُورَةً لِلْمَاءِ كُنَّا/ ثُمَّ صِرنا سُورَةً لِلنِّدَاءْ. يَا صَوْتاً/ يَا صَمْتاً/ يَا تَرْنِيمَةَ الْأَلَقِ الْمُعَمَّدْ. هَا إِنِّي، إِذْ تَسْكُنُ الظِّلاَلُ وَجْهِي/ أَسْتَعِيرُكَ شَمْسَا لِتَيْهِي../ أَشْتَهِي فِيكَ الْبُكَاءْ. وَكَطِفلٍ يَتَلمَّسُ طَرِيقاً لِلطَّرِيقْ/ مَدَّ الْبَحْرُ يَدَيْنِ لِلْحَرِيقْ/ أَشْعَلَ مَوْجَتيْنِ/ فَقُدَّ عُرْيُنَا مِنْ صَخْرٍ وَنَارْ/ وَعَلَى رَاحَتَيْنَا/ أَزْهَرَ الجُلَّنَارْ”. وفي قصيدة أخرى يردد الشاعر: “
الشاعرة المغربية لطيفة العمارتي، والتي تكتب الشعر بالإسبانية، ألقت عددا من القصائد الجديدة، ومنها قصيدة “طنجة تنادي”، وترجمتها: “فأجتاز الصحارى والوادي، وأكسر الصمت والحدود/ وأعود/ طنجة لها همسات حنون/ تزيل عنا وجع القلوب/ كما تزيح الرياح عن السماء ستار الغيوم/ فتمضي بيضاء زرقاء ناعمة/ طنجة لها همسات صامتة/ تسلمنا للتيه/ وتغري بالعبور/ فنعبر غير مبالين/ ونتيه في غربة الدروب/ ونذوب في الهوى/ كما ينبغي لنا أن نذوب… طنجة تنادي/ انتظري/ سأجمع فورا حقائبي/ وأخوض رحلة الخلود/ هي أنت لحظة حياة قد تدوم أو لا تدوم/ سيان عندي بعد أن حضر معنى الوجود/ وأنا معك أنا/ وفي حضنك أكون/ حَدَّ الجنون/ طنجة تنادي/ ومن لوعتي لا أدري/ أهي الحياة إلي تعود/ أم أنا من شوقي لوتر العود/ أتخلى… كي أعود”.
واختتم الشاعر بلال الدواس اليوم الأول من هذه التظاهرة، على الإيقاعات الخاصة التي أبدعها عازف العود المقيم في هولندا محمد أحداف، مستحضرا قريته البحرية “فَرْدِيوَة”، وهي تنتمي إلى سواحل طنجة الكبرى: “في فرديوة قبل قدوم الشمس عروسا من خلف الهضبات/ هناك ذات صباحْ/ الفأس يشق الأرض/ وأشجار الكرموس تهدهدها ريح الشرقي/ تعبٌ تعبْ/ لا أملك إلا رشف الشاي وركنا كي أرتاح/ النار اشتعلت بعد عناء/ رائحة الشاي الحبلى بالشيبة والنعناع/ تطرد كل نوارس مرسى الماعز/ والأمواج عصافير تروي تاريخا من أقراح/ يحكي البحر حكايات ويعيدْ/ يضحك تارهْ/ يبكي تارهْ ما ملت شفتاه من الترديدْ/ هل يرجع ما قد راح/ هل يرجع ما قد راح”، إلى آخر هذه القصيدة التي ينتصر فيها الشعر على السرد، رغم توالي حكايات لا تنتهي، نجح الشاعر في تقديمها شعريا في شاطئ فرديوة، وفي مغارة هرقل.
وانطلق اليوم الثاني بلقاء “شاعر في المهجر”، من خلال لقاء مفتوح مع الشاعر المكرم جمال بودومة، الذي تحدث للحضور عن طفولته وعلاقته بالشعر ثم الصحافة، متوقفا عند حياة شاعر مغربي مقيم في المهجر، من خلال العاصمة باريس، وكيف يعيش تفاصيلها، دون أن يبتعد عما يجري ويعتمل في وطنه المغرب، وفي كل العالم العربي، من خلال قصيدته الشعرية، أو من خلال تجربته في الإعلام الثقافي. ثم كانت أمسية الشاعر جمال بودومة، حين قدم قصائد شعرية تغطي مراحل من تجربته الزاخرة، ومنها قصيدة “الباب”، حيث “الباب ليس إلا بابا/ تدخل منه/ تخرج منه/ تنسى أحلامك في الداخل/ تنسى أقدامك في الخارج/ ترسم أنجما فوق الباب/ تسرق من السماء غيمة/ تضع قبعات الريح كي تنير الباب/ والباب ليس إلا بابا/ في البداية باب وفي النهاية باب”.
وفي قصيدة “الكمنجات”، يستحضر الشاعر غربته حين يقول: “بلا بلاد/ ولا أولاد ولا أصحاب/ أمشي خفيفا كغبار/ والليل يجري ورائي/ أكلم الأشجار والسيارات/ وأعمدة الكهرباء/ أشتم الصعاليك/ أصفع وجهي كي يصحو: ماذا صنعت بالأجنحة؟ ماذا فعلت بالوردة والأغاني؟ ضحكَتْ عليكَ الغربة/ وقهقهت من تشردكَ الكمنجات”.
وألقت الشاعرة زكية الحداد “ٌقصيدة طنجة”، وهي تناجي مدينتها العالية: “طنجة… آه من طنجة/ طنجة، كيف لا أكتب عنها، وهي مشنقتي في العشق؟ على أرصفتها / يحطّ الضوءُ ورذاذُ البحر، وفي أزقّتها/ يتسلّقني الحنينُ كعناقيد الريح. طنجة، أنا أحلو حين أغفو على صدرها سرًّا، أتنفسُّ ملحَ أنوثتها/ فيضيعُ وجهي بين سراديبها، كظلّ مسافرٍ أضاعَ ملامحَه”
ثم اختتم الشاعر أحمد فرج الروماني هذه الأمسية الشعرية الختامية، رفقة عازف العود الفنان يونس الفخار، مستحضرا مدينته طنجة هو الآخر: “فِي طَنْجَةَ، لِكُلِّ الْأَزِقَّةِ حَكَايَاهَا وَأُغْنِيَةٌ.. غَجَرٌ يَحْلُمُونَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا.. مَوَاعِيدُ تُرَتِّبُهَا الصُّدْفَةُ.. بَوْصَلَةُ الْجِهَاتِ مُعَطَّلَةٌ.. زِحَامٌ لَا يُشْبِهُ الصَّبَاحَ.. وَحْدَهَا طَاوِلَاتُ الْمَقَاهِي -عَلَى طُولِ الرَّصِيفِ– شَاهِدَةٌ عَلَى كُهُولَةِ هَذَا الْكَرْنَڤَالِ الْيَوْمِيِّ. فِي طَنْجَةَ، كُلُّ الشَّوَارِعِ تُغَنِّي، تَرْقُصُ، طُبُولُ الْجَنُوبِ، وَتَرُ “الْبِيرِينْبَاوْ”، هَجَاهِيجُ الْمُصَلَّى، وقِيثَارَاتُ الْفَلَامِنْكُو تُغَازِلُ شَطَحَاتِ النَّوَارِسِ -بِمَقْهَى الْحَافَةِ– أَهَازِيجُ الْأَهَالِي “طَنْجَاوِي رَاسِي عَالِي”، وَبُرْجٌ، كُلَّمَا انْحَنَى لتَرانِيمِ الْمَوْجِ، رَفَعَتْ هَامَتَهُ أَوْتَارُ الكْنَاوِيِّ الْأَخِيرِ.“.










