ضمير متكلم أنثوي ، أراد من خلاله الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج استهلال نصه الأخير الموسوم ب “ساعي البريد لا يعرف العنوان” الصادر عن دار اكورا بالمغرب في نوفمبر 2022 .
هي اعترافات، أو بوح أنثوي، يترائ لنا كهذيان في أحلام اليقظة، إنها لعبة الذاكرة التي لا تعي ما تستذكره حين يصبح الأمر مرتبطا بمحاضرالإعترافات بمكتب للتحقيقات لتغدو الذاكرة مجرد ثقب محشو بالأوهام والأكاذيب. البطلة لا تملك مفتاحا لذاكرتها ولكنها مع ذلك تواصل لعبة التذكر/ النسيان. هكذا يغدو السرد أنثويا متشظيا، ما يشي بأن هناك مزجا بين المؤلف والسارد أو الساردة هنا، لا نتبين بالتحديد صوت من يأتينا عبر صفحات الرواية، مرة تشعر بأن المؤلف يتدخل لتقويم ما يمكن أن يتجه نحو الجنوح. وهذه تقنية متعمدة معتمدة في روايات ما بعد الحداثة حيث يصبح غياب أو تغييب المؤلف وحضوره سيان أو في مرات عديدة تنقلب ادوارهما عبر زمن الحكي. لفتة ذكية إذن أن يستعين الكاتب بصوت نسائي لمقاربة قضية الجاسوسية والمخابرات، وهو أمر معتاد خاصة في مسألة استغلال النساء جنسيا وسياسيا أيضا. فالمرأة هي الحلقة الأضعف وهي في نفس الآن السلاح الحاد.
حاول الروائي محمد سعيد احجيوج استعارة صوت نسائي لنصه الأخير” ساعي البريد لا يعرف العنوان“، حيث نجح إلى حد بعيد في استعارة هذا الصوت بل والدفع به بعيدا في التعبيرعن معاناة أنثوية نفسية أونطلوجية، رغم أن القارئ قد يشعر في بعض الأحيان بأن الكاتب لم يصل لحد الحلول بتعبير المتصوفة مكتفيا بالتقمص، وهو أمر قد يبدو مستهجنا ولكن حين نقارب نصا روائيا ينتمي لرواية التجريب والمابعد حداثة تسقط المعايير التقليدية للتقمص. ألا يعني هذا أن الكاتب استقصد التقابل بين نص المابعد حداثي والنسوية؟ أم أن نصه هذا اذ يعطي للصوت النسائي مجالا واسعا للتعبير كان مجرد صدفة؟ وهو أمر أشك فيه إلى أبعد الحدود ذلك أن الكاتب وهو يبني نصه كان يستشرف التقنيات المابعد حداثية باحترافية واضحة. بتعبير أدق لم يكن صدفة أن يوازي بين تعدد الأصوات وتشظي التراكيب المتعارف عليها والتي صكتها المجتمعات الأبوية، وتحديد موقع النساء وتحررهن من القيود تماما مثلما تهدف إليها نظرية ما بعد الحداثة. يمكن القول إذن أن الصوت النسائي المهيمن في “ساعي البريد لا يعرف العنوان” يشي بأن الرواية تتجه نحو النهاية المفتوحة وتبتعد إلى حد كبيرعن النهاية المغلقة وذلك من خلال اعتماد تقنية عدم الترتيب والحكي الدائري.
“ساعي البريد لا يعرف العنوان” هي أيضا رواية نسائية وليست فقط سياسية ( من خلال الإشارة للموساد وللتعايش بين اليهود والمغاربة وأيضا العمليات الارهابية بالمغرب…)، ذلك ان الكاتب غاص في تضاريس المعاناة النسائية من خلال مقاربته لحوادث ومشاكل عديدة تعبر عن جانب هام من معاناة النساء ليس فقط من الإستغلال الجنسي مدفوعا بمصالح سياسية استخباراتية ولكن أيضا المعاناة النفسية في مجتمع ذكوري يتصيد هفوات النساء، ليتركهن عرضة لكل أنواع الهزائم النفسية والإجتماعية تصل في أحايين كثيرة لحد الموت بالقوة وليس بالفعل في مجتمع لا يعترف سوى بالقوي وبالطبيعي تبعا لمقاييس ذكورية، وفي مرات عديدة تكتفي الضحية بمحاولة المغادرة انتحارا.
مرة أخرى يستفيض ولو بشكل أقل عن نصه السابق “ليل طنجة” في وصف العملية الجنسية او الأحاسيس الجنسية ولكن هذه المرة مستغرقا في مجال مسكوت عنه الى حد ما وهو المثلية،(بالرغم من صدور أعمال عربية ومغربية تقارب هذا الموضوع أغلبها بصوت نسائي) حيث قارب هذا الموضوع بشكل محتشم ذلك أنه لم يترك للبطلة مجال الإسترسال او الغوص في أحساسيسها المثلية لدرجة الفعل والانتشاء.
وإذا كان التجريب هو سمة الرواية المابعد حداثية فإن الروائي محمد سعيد احجيوج يتخذ من اللغة مجالا خصبا للتجريب، ذلك أن تقنية الإعادة والتشطييب تحضر مرة أخرى مثلما كانت حاضرة ولو بشكل أقل عن عمله السابق ” ليل طنجة“. التجريب يحضر أيضا من خلال تقنية “عجائبية السرد” الذي تزخر به روايات التجريب، ويبدو لي أن نص احجيوج يتخذ هذا المنحى المعادي للسرد التقليدي أي المارواء السردية Metafictionوالذي يتخذ في نص “ساعي البريد لا يعرف العنوان” منحا متشظيا حيث تدور الحكاية حول نفسها إن صح التعبير. إضافة الى غياب الزمان الواقعي والإفتراضي في النص، باستثناء ما تحكيه الرواية عن أحداث إرهابية حدثت في الزمن المغربي الواقعي، أو في ميونيخ الزمن العالمي الواقعي كذلك. وهي محاولة من الكاتب لوضعنا في صميم موضوع الرواية، السياسي، الإستخباراتي والنسائي أيضا إن صح التعبير. ولكن الأهم أن يطلعنا على حقيقة مفادها أنه حين يتعلق الأمر بالذاكرة والتذكر فلا تنتظر سوى لعبة مراوغة يصعب القبض على مفاتيحها وفهمها أو حتى تصنيف ما تحكيه في هذيان شخصيات الرواية. هي تقنية تنتمي للتجريب في روايات ما بعد الحداثة، ما يضع القارئ في حرية التنبؤ بالزمن الأفقي والخطي للنص، وكذلك تعبيرا عن أبدية المعاناة ولازمانية الذاكرة التي تفقد بوصلتها تائهة بين التذكر والنسيان، بين الإستعادة والضياع. يغيب منطق الربط بين الأحداث تعبيرا عن غياب منطق الواقائع المعاشة للبطلتين.
هل يمكن القول أننا نعيش فعليا عصر العجلة، الرواية تشعرك منذ الصفحات الأولى أن الكاتب على لسان الراوية تريد ان تقول كل شئ دفعة واحدة، الكاتب أيضا على عجلة من أمره ككل روائيي ما بعد الحداثة، التكثيف ، التسرع، والإقتضاب، إنه بحق عصر الرواية التي تفتقد لهوية عميقة ولكنها في نفس الآن تبوح بكل شيء دفعة واحدة. غير أن أفضل ما توصل إليه الكاتب محمد سعيد احجيوج هو تمكنه من وصف الشخصيات الروائية خاصة خلود وايزل بشكل عميق والغوص في مكنونات نفسيتيهما وهو أمر يحسب للرواية المابعد حداثية على اعتبار أن الشخصيات في الرواية التقليدية او الرواية الحداثية كانت الى حد ما تقف عند ظواهر الشخصية وتفكيرها بشكل أساسي. ما يعني مرة اخرى أن رواية التجريب تتجه إلى الكفر بكل ما هو فكري عقلي ايديولوجي في وصف الشخصية الروائية.
في نصه هذا وكباقي نصوصه السابقة تحضر طنجة المكان والزمان، وهو أمر قد يبدو جيدا باعتبار استلهام الكاتب لأجواء طنجة في جل أعماله، غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن طنجة ملهمة العديد من الكتاب والروائيين عبر فترات من تاريخ المدينة لا يعني أن على الكاتب حتى وإن كان طنجاويا أن يظل حبيس مكانه الواقعي، قد يصبح المكان التخييلي أكثر رحابة وأعمق تعبيرا في النص الروائي. ربما لهذا نراه في نصه هذا ينزاح بعيدا عن طنجة في بعض فترات من أحداث الرواية. طنجة إذن لم تعد مجرد مدينة الكاتب، بل غذت مسرحا لذاكرة منهكة بالحكايا والأمكنة، طنجة وهي نفسها طنجة الفضائح الدعارة الجاسوسية ولكن وبالأساس ملاذ المنفى الأنثوي بامتياز لنساء وفتيات باحثات عن المستقبل، الذي يتحول مع الأيام إلى سراب تنسج من خلاله حكايات تشبه حكايات الف ليلة وليلة.. في طنجة يصبح كل شي مباح، استغلال النساء سياسيا، او حتى لمجرد نزوات عابرة، حيث عبر بعمق الكاتب عن معاناة الفتيات مع قصص الحب غير المكتملة وهو أمر يمكن اعتباره ظاهرة اجتماعية وليس فقط مشكلة عاطفية بفعل تكرار هكذا قصص.
تغدو إذن طنجة ذات حمولة دلالية إبداعية انطلوجية وسحرية على اعتبار ما لعبته هذه المدينة من دور بارز في الإبداعات المغربية والعالمية تاثيرا وتأثرا، فهي ليست فقط مكانا للعيش بالنسبة للكاتب بل هي مسرحا للأحداث وعلاقات مرتبطة ومرتبكة حد التشابك في نفس الآن، بالرغم من أن نصه هذا قلص من الإحتفاء بطنجة خاصة في عنوان الرواية كنصوصه السابقة وهو أمر يحسب للكاتب، بعدما لفتت الانتباه للمسألة بعض الكتابات النقدية أو ربما أيضا لكي لا تصبح طنجة مادة تسويقية كما نقرأ ضمنا في روايته “ليل طنجة”.
اللافت أيضا في “ساعي البريد لا يعرف العنوان” هو ما يمكن ان نسميه وانطلاقا من تعريف جاستون باشلار “المتخيل والذاكرة ” ذلك أن ما تختزنه الذاكرة في لاوعيها يصبح هي القيم السائدة. وهو أمر تمكن الكاتب من جعله واقعا سرديا من خلال توظيف الذاكرة والمفاهيم المرتبطة بها وتطويعها خدمة لضرورات الحكي أو السرد: ( “هل أخبرتك من قبل أن هشاما كان يكتب رواية بدأها قبل أن ننشغل بصدمة الحمل؟“. حركت رأسي نافية. اعتدلت إيزيل في جلستها . “لا أعرف كيف اختفى كل ذلك من ذاكرتي وكيف عاد الآن فجأة” إيزيل المسكينة لا تعرف شيئا عن ألاعيب الذاكرة)[1]. هي أيضا ألاعيب السرد حين يكون النص سردا تجريبيا يكسر الحواجز بين المؤلف والمتلقي، يفكرالكاتب بصوت مسموع حيث يتشارك المتلقي والشخوص في عملية السرد والحكي بل لنقل هنا بوحا خاصا قارب خبايا النفس الأنثوية.
يمكن القول كذلك بأن الفضاء أو المكان في النص يأخذ أبعادا مغرقة في الخيال، وكما تذهب الباحثة المصرية سيزا قاسم في تحليلها لرواية مابعد الحداثة، فالمكان هنا او الفضاء هو خلفية لأحداث مروية في النص، وهي أحداث يشعر القارئ بأنها لا تشكل الرواية مسرحا لها بل هي سلسلة أحداث مروية تنفلت من ثقب الذاكرة المثقلة بالجراح والإخفاقات. هكذا يمتح النص الأخير للكاتب محمد سعيد احجيوج مرة أخرى من قاموس الرواية التجريبية او المتاسردية، حيث التشطيب والحذف معلنا أن الشكل لا يمكن أن ينفصل عن المضمون، ما يدفعني للجزم مرة اخرى بأن محمد سعيد احجيوج سيظل كاتبا عصي على التصنيف، فهو دائم التجريب حيث ينفلت بسهولة من القوالب الجاهزة للسرد، ما يشكل أرضية خصبة للمزيد من التطور في قادم الأعمال.
اخيرا” أين اختفت ايزيل؟” سؤال البداية يتردد في آخر النص، لتعود الحكاية إلى نقطة الصفر وبنفس السؤال، وكأن السارد اراد لها نهاية مفتوحة على كل الإحتمالات، ما يتيح للقارئ إمكانية تجميع حلقاتها المبعثرة بغية سردها وفق مزاجه وتبعا لما أحدثته الحكاية فيه من ألق المعرفة ممزوجة بيقين متردد يحذوه الشك والريبة. ذلك أنه بالنهاية سيجد نفسه يمارس لعبة الذاكرة المستعادة التي لا يمكن ان تفعل به غيرما فعلته بخلود التي سيظل سؤالها: ” أين اختفت إيزل؟” معلقا. فالذاكرة غير مؤتمنة ولا يمكن الوثوق بها.
بقلم د.فاطمة واياو-ادنبرة
[1] ساعي البريد لا يعرف العنوان، ص 59