** “الحقيقة” التي يبحث عنها الصحفي، خلال ممارسته المهنية وأدائه لعمله، قصد تنوير الرأي العام بها؛ لا تمثل “الحقيقة” ذاتها. إذ ليست “الحقيقة” فيما يكتبه الصحفي وينشره بالجرائد والمواقع الإلكترونية والإذاعة والتلفزيون واحدة، أو أنها حالة واحدة يقع حولها الاتفاق والاجماع. قد يكون الصحفيون شهود عيان في حادثة أو حدث ما، لكن تحريرهم كتابة أو شفاهة لهذا الحادث / الحدث سيختلف بينهم؛ لغةً وأسلوباً وتقريراً، نظراً لاختلاف انتماءاتهم الأيدولوجية والمهنية، واختلاف زوايا معالجتهم له. لذلك يصعب على أي صحفي الادعاء بأن ما كتبه أو نشره هو “الحقيقة” عينها.
إن الكتابة الإعلامية (الساخنة والطرية) التي تستقي مادتها الصحفية من موقع الحدث أو الخبر، ينبغي أن تَفترِضَ في نفسها حسن النية إزاء المتلقي، حيث يجب على صاحبها أن يكون حريصا على بذل الجهد والدقة والحياد في جمع المعلومات، والتأكد من الوقائع، والتزام الضبط والعدالة في إعادة ترتيب مكونات الحدث / الخبر، والأمانة في صياغته وتحريره كتابةً أو شفاهة. لأن الإعلام / الصحافة رسالة نبيلة وأخلاقية لكونها تسعى إلى الدفاع وتكريس القيم التي تحيا بها المجتمعات الفاضلة أو التي تطمح أن تكون فاضلة.
إن المعلومات الصحيحة، والمعالجة الإعلامية المحايدة لها، تساعد الجمهور المتلقي على فهم الحدث أو الخبر واستشعاره بأنه إزاء أجزاء من “الحقيقة”، وليس أمام “الحقيقة” بعينها. وقد يكون مطلوبا منه أن يجتهد بفراسته وحدسه الإعلامي لتركيب هذه الأجزاء، مرة أخرى؛ لاستخلاص نتيجة مغايرة أو قريبة من “الحقيقة” أو النتيجة نفسها التي بلورها الصحفي أول مرة خلال معالجته للحدث.
والصحفي ليس آلة صماء، أو كائنا مجردا من الأحاسيس والمشاعر والعواطف والرغبات، لذلك لا ينبغي أن يُلام في كثير من الأحيان على انحيازه إلى هذا الخبر أو هذه القضية التي انبرى لمعالجتها وتقريب تفاصيلها الصغيرة والكبيرة إلى الرأي العام. بل إن الصحفي هو عصارة تربوية وفكرية وسياسية وثقافية واجتماعية لمجتمعه.. إنه ابن بيئته كما يقال عن الإنسان عموما، والبيئة؛ هنا، قد يضيق سياجها لتقتصر في آخر المطاف على المدرسة السياسية أو المهنية التي تلقى فيها الصحفي منهج تعامله مع الأحداث والواقع، واكتسب – بالتالي – جل أدوات اشتغاله.
لكن لا ينبغي أن يلام الصحفي على امتناعه عن طرح بعض القضايا أو تغطية بعض الأحداث التي رأى، من وجهة نظره وتقديره، أن لا فائدة من ورائها؛ للرأي العام. وإن كانت أخلاقيات المهنة تقتضي من الممارسين الإعلاميين عدم التمييز أو المفاضلة بين القضايا العادلة وتلك المحرجة في التناول والرصد والتحليل، مادام المجتمع قد أعرب عن انشغاله بها وبتطوراتها. إذ عليه أن يجمع المعطيات والمعلومات الكافية التي يستدعيها الخبر في صياغة متنه، ثم يترك للجمهور المتلقي، العادي والذكي، فرصة كاملة للتمييز بين مكونات الخبر وبين آراء الصحفي، إِنْ وُجِدت، حول الحدث الذي تضمنه الخبر. بل يجب أن يترك لهذا الجمهور حقه في أن يصدر حكمه أو انطباعه حول ما كتبه الصحفي ونشره، لأن انطباع المتلقي ورأيه يكون في بعض المرات صائبا، في تأكيد أو نفي وجود عناصر الإنصاف والدقة والنزاهة وحس المسؤولية بمقال الصحفي وبما نشره من أخبار أو تحقيقات أو استطلاعات آراء.
ونعتقد أن استمرار الجمهور المتلقي في التفاعل وقراءة ما يكتبه الصحفي من مقالات وما يعبر عنه من آراء ومواقف، وفي إصدار أحكامه وانطباعاته بشأن ذلك، هو عمل جيّْد يساهم، ولاشك، في تخليق الممارسة الصحفية، باعتبار أن الصحفي سيضطر، في ظل مراقبة الجمهور المتلقي له، إلى استحضار قيم العدالة والدقة والتجرد في ما يكتبه أو يغطيه من أحداث، وسواء انتقد الصحفي ظاهرة ما أو حدثا معينا في كتابته أو نوَّه بذلك وأشاد، فإن المطلوب منه هو أن يكون عادلا ونزيها في عمله لعله يقترب من “الحقيقة”، بحيث لو اقتضى منه الحال المهني الإمعان في تعرية الفساد ونقد المجتمع الذي يرعى هذا الفساد ويوفر شروط استفحاله؛ فيجب عليه أن يضطلع بدوره الموكول إليه من خلال رسالة الصحافة النبيلة دون خوف أو ارتباك. وإِنْ استدعاه حالٌ مهنيٌّ آخر إلى أن يُزَكِّي أعمالا سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تفيد المجتمع وتزيد من رقيِّه؛ فعليه ألا يتردد في القيام بذلك وإِنْ كانت الجهات التي أنجزت هذه الأعمال معادية له أيديولوجيا أو فكريا. ف”الحقيقة” التي يعمل الصحفي النزيه من أجل إظهارها وحمايتها بمعلومات صحيحة ووثائق مؤكدة ووقائع صادقة غير مكذوبة، تجعل من هذا الصحفي فاعلا مجتمعيا جديرا بالإشادة والاحترام، وترشحه لأن يكون عامل تغيير نحو الأفضل بمجتمعه. غير أن “الحقيقة” التي يدَّعيها الصحفيون فيما يكتبونه وينشرونه بالصحف والإذاعة والتلفزيون، يجب أن تتفادى الخلط بين عناصرها وبين تعليقهم وآرائهم وقراءاتهم لها. لأن هذا الخلط يحمل الجمهور المتلقي في بعض الأحيان على أن يتصور الحدث والتعليق شيء واحدٌ. بينما التعليق والاستنتاج والتخمين الذي يرفقه الصحفي بعمله في صورة خبر أو تحقيق أو غيره، قد يؤدي، في غياب التوازن والتجرد والامتثال للضمير المهني، إلى التضليل والتحريف وقلب الحقائق وتشويهها.
لقد أضحى العمل الصحفي اليوم عرضة لخروقات جمة لا تمت بصلة لأخلاقيات المهنة، ومن أبرز صورها هذا الكم الهائل من الأخبار الكاذبة والملفقة والشائعات التي يصنعها بعض القائمين على الإعلام والاتصال بشكل يومي في سياق حرب دينية أو سياسية أو انتخابية أو حضارية. والمحزن أن هذه الأخبار الزائفة يتم صناعتها بدقة متناهية لتناسب ميولات فئة من الجمهور المتلقي وتطلعاته التي قد تكون وهمية. والأخطر من ذلك هو أن هذه الفئة تُصفِّق لهذه الأخبار الزائفة بحماس وعاطفة، وتعمل بعد ذلك على إعادة نشرها على أساس أنها “الحقيقة”.
والطريف أن الصحافة موكول لها، بحكم تاريخ نشأتها ووظيفتها، البحث عن “الحقيقة” لتنوير الرأي العام وإرشاد الجمهور إلى قيم الحرية والحق والعدل والكرامة، لأن الصحافة مهنة نبيلة ذات سلطة رقابية، وهي أداة لمحاربة الكذب والتزوير والتلفيق وإطلاق الشائعات. غير أنها في الواقع شيء آخر.. هي مهنة يتجرأ فيها بعض العاملين على إنتاج ممارسات غير أخلاقية لا تحترم جمهور المتلقي ولا تخاف محاكمات الضمير المهني وأحكامه. ولعل السبب في ذلك يعود، بالدرجة الأولى، إلى أن أغلب هؤلاء لم يدرسوا أدبيات الصحافة ولا أخلاقياتها، وأن عددا منهم جاؤوا من ميادين غير إعلامية وبأرصدة معرفية وثقافية متوسطة أو هزيلة.
كما أن الصحافة معنية بتعزيز المصلحة العامة من خلال قول “الحقيقة” والعمل على تقديمها، في سياق خدمة عمومية طوعية، إلى الرأي العام، بهدف بناء المجتمع والدولة على أسس الحقوق والحريات. لذلك فإن الصحفي قد يكون قادرا على نقل الصورة / الحادثة أو الواقعة بموضوعية ودقة ومصداقية؛ ولكنها تبقى مجرد صورة وليست “حقيقة” ! وقد تساعد الجمهور المتلقي، إِنْ كان واعيا وراشدا، على أن يميّز بين الصواب والخطأ، وبين الصادق والكاذب، وبين المطلوب منه من قول أو فعل أو ترك.
يونس إمغران
عمود أوراق ممنوعة