هل تعرفت إلى إنسان عاش على يقين من أنه مصطفى وهو إبراهيم؟! أنا تعرفت إلى أشخاص من هذا النوع، موهوبين، وعاشوا من غير أن يعلموا أن الطبيعة اختصتهم بعنصر نادر مشع، وانقضت حياتهم من دون أن يكتشفوا جوهرهم، مثل أرض لا تدري أن في بطنها عروقا من الذهب، أو مثل شخص عاش على أنه مصطفى وهو إبراهيم. وكنت أشعر بالأسى حين ألقاهم وألمس مواهبهم في أشياء صغيرة، وهم يواصلون حياتهم في ممرات مجاورة لحقيقتهم. يحدث ذلك لأن الموهبة تحتاج إلى ضربة فأس تكشف عنها، إما بالمصادفة، أو أن يكون في الظروف المحيطة ما يساعد على اكتشاف الموهبة. لكن ما هي هذه الموهبة التي يدور الحديث عنها؟ وكيف حاول العلم أن يعرفها؟. بهذا الصدد يشير فرانسيس جالتون في كتابه”العبقرية الوراثية” إلي أن الموهبة ” عرق وراثي يتم تناقله”. لكن العلم نحى تقريبا تلك النظرة استنادا إلى أن أحدا من أبناء الموهوبين العظام شكسبير وتولستوي وغيرهم لم يرث موهبة والده. وحاول البعض أن يربطوا بين الموهبة والخلل النفسي والجنون، لكن طبيب النفس البريطاني”هافيلوك آليس” أجرى دراسة شملت ألف حالة من المبدعين وتبين منها أن نسبة من يوصف بالمرضى بينهم لم تصل حتى إلى خمسة بالمئة( أربعة وأربعون شخصا فقط)، بل وأكدت دراسته أن الموهوبين قد أبدعوا برغم المرض وليس بفضله! العلم لم يستطع أن يفسر بالدقة مصدر الموهبة التي تشتبك على مساحة مترامية بعناصر نفسية ومادية مجهولة. ولذلك علينا أن نحدد – ليس مصدر الموهبة – لكن طبيعتها، حكما بنشاطها الابداعي. وفي تعريف الموهبة أجدني قريبا إلى ما قاله الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو : ” المبدع هو الذي يرى في الأشياء المعروفة تماما أشياء غير معروفة”، أي أن تكون للموهوب طريقته الخاصة التي يرى بها البشر والأحداث بشكل مختلف عما هو ظاهر. وعلى سبيل المثال كان من المألوف في شوارع القاهرة أن تمر صبية خادمة صغيرة السن، تحمل على رأسها صينية بطاطس أو كعك العيد متجهة بها إلي الفرن. لم يكن ذلك المشهد يستوقف أحدا، كان مشهدا مستقرا في الوجدان لا يدعو للتفكير بشكل مغاير، لكن يوسف إدريس رأى في المنظر شيئا لم يتوقف عنده الآخرون، رأى شوق طفلة تشاهد الأطفال يلعبون وهي محرومة من اللعب، فكتب لنا قصته الشهيرة ” نظرة” في مجموعته” أرخص ليالي”. و في عام 1960 كانت القاهرة كلها تتابع أنباء لص شهير روع الجميع يدعى محمود سليمان، وكان وفق الرؤية العامة مجرد لص. لكن نجيب محفوظ رأى اللص بطريقة أخرى، فكتب رواية” اللص والكلاب” التي أعادت خلق الحادثة والشخص في نسق آخر ليصبح محمود سليمان ضحية الغدر والثقافة المخادعة. الموهبة أن ترى العالم بطريقة أخرى غير الطريقة السائدة. وقد كتبت آلاف القصص عما يحدث حينما يقع اثنان في غرام بعضهما البعض، لكن أنطون تشيخوف كتب – ليس عما يحدث – بل عما لا يحدث حين لا يحب اثنان بعضهما! كان ذلك في قصته المدهشة” المعلمة”. لقد رأى الموضوع بطريقة أخرى على غير ما جرت العادة، وقدمه في نسق جديد. تلك هي الموهبة التي لا نعرف مصدرها، لكن نحكم عليها بثمارها. والمؤكد أن الطبيعة ليست سخية في منح تلك القدرة الخاصة، لهذا يثير الأسى أن تلقى شخصا موهوبا لكنه لا يعلم ذلك، ولا يدري بقيمة ما اختصته به الحياة من عنصر مشع نادر. وفي كل الأحوال فإن أدباء من العظماء لم يراهنوا على الموهبة، وبذلك الصدد قال نجيب محفوظ في لقاء معه بجامعة القاهرة عام 1989:” لم أُتوِّه نفسي في اصطلاحات غامضة قد تكون وقد لا تكون مثل العبقرية.. الموهبة.. الإلهام.. الشيء المحسوس الذي أثق منه وفي يدي، هو العمل..وأقصد هنا العمل بإصرار وقوة”. ويبقى السؤال الذي طرحه في كتابه ” العبقرية ” أندرو روبنسون قائما : ” مم تتكون الموهبة إذن؟ هل هي قدرة متوارثة؟ أم أنها شغف؟ أم عزم وتصميم؟ أم قدرة على المثابرة و الممارسة؟ أم سرعة استجابة للتوجيه؟ أم أنها مزيج من كل ماسبق؟”. وتظل القضية التي تهمني أن يكتشف الإنسان نفسه فلا يقضي حياته بموهبة دفينة، يعيش بجوارها، ولا يدري بها.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري