حضنت حقيبتي المليئة بالذكريات، بعد أن شعرتُ بنسمة برد قارس قد اخترقت عظامي، آه.. لو أني كنت قد جلبت معي معطفي “الفرو !”، ذاك الذي كان قد أهداني إياه عمي عند عودته من سفرته الأخيرة عندنا. كم كنت سعيدة به يومها، وما زلت أتذكر تلك الليلة الدافئة، أني قد نمت وأنا ملتفة بفروه الناعم الجميل.
عدت إلى الواقع من جديد، ثم وضعت يدي على خدي متأملة سكة “الترامواي” الحديدية القديمة الممتدة أمامي، وقد علاها الغبار وكساها الصدأ من شدة تعاقب الزمن الذي يمر غير عابئ بشيء أو أحد. نعم زمن يبيد كل شيء ولا يباد.. وناجيت نفسي متسائلة.. يا ترى.. كم من الأشخاص الذين عبروا هذا الطريق وهذه السكك؟ وهل عبروا برغبتهم حاملين معهم أمنياتهم، أم عبروا رغماً عنهم متجهين نحو حياةً أفضل؟
أجل، حياة ينعم بها المرء ولا يهان. لأنه برأيي، إن المجتمع الذي نتواجد به، هو من يصقل حياتنا ويصهر طبيعتها، ويؤثر فينا وعلى أنفسنا، وتقدمنا وإنجازاتنا في مختبره الاجتماعي.
فليس من السهل ولا من الممكن، أن يكون ثمة تطور أو إنجاز أو عطاء في بلد تسلطت عليه لعنت الحرب، فخربت دوره وشردت أبناءه ، وأذاقت الويلات لشعبه البريء الذي راح ضحية هذه اللعنة ودفع ثمنا باهضا لها. والعالم أين كان العالم يا ترى ! لقد كان بأجمعه، بمنابره وشاشاته الملونة، وأقماره الاصطناعية، ومؤسساته الدولية كما محافله العالمية حاضرا يتفرج على مسلسل المجزرة.
لابد إنها هذه، هي الحافلة القادمة التي سوف تنقلني إلى “السّنتر”، إني أراها قادمة من بعيد. وللحين نهضت من على ذلك المقعد الخشبي العتيق، وقد نقشت بخواطري عليه وأنا أغادره مودعة، كل كلماتي وحروفي المثقلة بها روحي، وبكل الأوجاع النابعة من نفس متألمة.. ورحت متجهة إلى رصيف الموقف لانتظار وصول الحافلة.
صعدت بعد أن تأكدت من رقمها، بأنها هي بالذات التي سوف توصلني إلى محطة وجهتي. ومن حسن حظي أني وجدت مقعداً فارغا بقرب رجل كبير في السن. كان جالساً بمحاذاة النافذة، وقد ثبت جريدته بين عينيه، غارقاً في صفحاتها وحروفها. التفت إلي فجأة من خلف نظارته الطبية مبتسماً ابتسامة عفوية، وراح مغادرا، حاملاً أغراضه التي كانت محطوطة على المقعد الذي بجانبه.
وبدوري جلست منتظرة عبور ما تبقى من مسافة الطريق، وأنا أعد الثواني والدقائق التي تفصلني عن المكان المنشود. وحين اقتربت الحافلة، وأوشكت على الوصول، بدأ قلبي يخفق بسرعة، حين صدرت عني فجأة وبعفوية تامة، عبارة “وأخيرا ها قد وصلنا!”.
نزلت من الحافلة متجهة بخطواتي إلى البوابة الكبيرة.. وقفت قليلاً أمام الباب وقد سرحت متأملة في هذه البداية التي تنتظرني.. هذه التي تشير إلى بداية حياة جديدة.. حياة أصبحت تحمل في طياتها بالنسبة لي، كل الآمال ومظاهر التفاؤل. أخذت ما تبقى لي من نفس ودخلت لمواجهة المجهول..
بقلم بتول الموسى 05-12-2019 بروكسيل – بلجيكا
( من روايتي السير ذاتية قيد الإنجاز ” لطالما سألت نفسي مراراً أين أنا؟)