ليست كل معركة جديرة بأن تُخاض، وليست كل سلطة دليل كفاءة، كما أن ليس كل انسحاب هزيمة. في واقعٍ تُمنح فيه المناصب والمسؤوليات أحيانًا لأشخاص يفتقرون إلى الرؤية والعمق والنزاهة، يصبح السؤال الجوهري: ماذا ننتظر ممن أُعطي كل أدوات الاشتغال — من منصب، ولوجيستيك، وميزانية، ونفوذ — وهو لا يملك سوى التفاهة من زادٍ فكري وأخلاقي؟
الجواب، للأسف، نعرفه جميعًا :
عندما تُسلَّم السلطة للتفاهة، لا تُنتَج سياسات عمومية، بل تُدار نزوات….لا تُخدم المصلحة العامة، بل تُدار شبكات الولاء…. لا تُفتح آفاق الإصلاح، بل تُغلق نوافذ الأمل…. وهكذا، بدل أن تقود المسؤولية إلى البناء، تقود الوطن — قطاعًا بعد قطاع — إلى الحائط.
في المغرب، حيث استشرى الفساد حتى طال الثقافة والاتصال والتعليم والصحة، لم يعد الأمر مقتصرًا على اختلالات ظرفية أو أخطاء أفراد، بل صار بنية متكاملة تحمي نفسها بنفسها. بنية تُكافئ الرداءة، وتقصي الكفاءة، وتعتبر الاستقلالية خطرًا، والنزاهة تهديدًا، والضمير عبئًا غير مرغوب فيه.
في هذا السياق، يجد الإنسان الراغب في خدمة وطنه نفسه محاصرًا:
محاصرًا بضغط مسؤول يفتقر للكفاءة لكنه يمتلك السلطة،
محاصرًا بقرارات عبثية محمية بالامتيازات،
محاصرًا بآليات إدارية ومالية تُستعمل لا للإصلاح بل للتنكيل والتصفية.
عند هذه النقطة، يصبح الاستمرار نوعًا من الاستنزاف البطيء. استنزاف للطاقة، وللإرادة، وللأمل. ويصبح الانسحاب — paradoxalement — فعل وعي لا فعل ضعف.
الانسحاب هنا لا يعني التخلي عن الوطن، بل حماية القدرة على خدمته.
لا يعني الهروب، بل إعادة التموضع.
لا يعني الاستسلام، بل رفض أن تكون أداة في يد التفاهة. فالسلطة، حين تُفرغ من القيم، تتحول إلى معاول ظلم. ومن يُصرّ على الوقوف تحتها، بدافع “الصمود”، قد يُسحق دون أن يغيّر شيئًا. أما من ينسحب بذكاء، فإنه يحتفظ بقوته الأخلاقية، ويبحث عن سبل أخرى للنضال: بالكلمة، بالفكر، بالمبادرة، بالتأطير، وبالحق… والحق، وإن طال الزمن، آتٍ لا محالة.
لقد علّمتنا تجارب كثيرة أن الأنظمة التي تقوم على الرداءة لا تنتصر دائمًا، لكنها تُرهق خصومها أولًا. ولهذا، فإن الشجاعة الحقيقية ليست دائمًا في المواجهة المباشرة، بل أحيانًا في رفض لعبة فاسدة، وفي الانتصار للنفس كي تبقى قادرة على العطاء.
إن أخطر ما يهدد المغرب اليوم ليس نقص الموارد، ولا ضعف الكفاءات، بل استمرار منطق منح المسؤولية “على طبق من ذهب” لمن لا يستحقها، ثم تسليحه بكل وسائل البطش الإداري والمعنوي. في ظل هذا الواقع، يصبح السؤال الحقيقي ليس: لماذا انسحب النزيه؟
بل: لماذا ما زالت التفاهة في موقع القرار؟
إلى أن يُطرح هذا السؤال بجرأة، ويُحاسَب من يجب أن يُحاسَب، سيظل الانسحاب الواعي أحيانًا… آخر أشكال المقاومة.
الدكتورة نزهة الماموني

