كل كتابة عن طنجة هي مجازفة، لأن كل الذين كتبوا عن هذه المدينة سواء من الكتاب الأجانب أو المغاربة يدعون أنهم امتلكوا زمامها واستجلوا أسرارها ورصدوا دقائقها وتفاصيلها، كتبوها وحولوها ساحاتها وشوارعها التي تضج بالحياة إلى كلمات وحكايات خلدوها بين دفتي كتبهم.
فما الذي يحمل كاتبا ما على هذه المجازفة ؟ من يجرؤ على أن يزحزح عن سماء طنجة أسماء ارتبطت بالمدينة بصفة شبه أسطورية مثل محمد شكري ومحمد المرابط بالنسبة للعديد من المغاربة وبول بولز عملاق طنجة كما يسميه الغربيون…
في طنجة نتداول بفخر وبيقين شبه مطلق مقولة “طنجة تبكي على من لم يزرها بعد، أما من زارها فهو الذي يبكي عليها “. طنجة تجذب الكتاب من كل صوب، فيقعون في حبها او بالأحرى في أسرها. لكنهم قليلون فقط من يحضون بقربها وتبادلهم حبا بحب وتخلد حكايتهم وتكتب مصيرهم مقرونا باسمها. وأعتقد صادقا أن خالد سهولي الكاتب باللغة الألمانية حضي بهذا الشرف.
ينجح خالد سهولي في مغامرة الكتابة عن طنجة بفضل حكمته ومقاربته الرصينة لعوالم طنجة. فهو من جهة أولى يدرك جسامة هذه المسؤولية، ومن جهة ثانية يخوض هذه المغامرة عن وعي وتبصر وبإرادة حرة:
” طنجة، أنت اختباري واختياري. إنني أقترب منك سيئا فشيئا” ص 109
ولفظة الاقتراب في هذا المقام ليست عشوائية، إنها ممارسة ومقاربة ثقافية واعية ومؤسسة داخل الثقافة الغربية التي ينتمي إليها الكاتب أيضا[1]… فالذي يرغب في التعرف إلى الآخر، يجب عليه أن يستعد وأن يصبر ويقترب سيئا فشيئا من خلال فرص عديدة:
” وكما هو الحال مع البشر يحتاج المرء أيضا بالنسبة للمدن يحتاج إلى فرص عديدة من أجل الخوض في تجارب عميقة معها، وإدراك جوهرها وما يميزها، وعندما يستعد المرء ويجرؤ على اقتحام ثقافة الغير وفضائه وجوهره، حينذاك فقط يستطيع أن يصل إلى جوهر المعاني التي يتوق إليها.” ص 52.
تتميز المقاربة الثقافية التي يتبناها سهولي بالتركيز على المشترك والجامع، وتؤمن بالاختلاف والتعدد وترفض المقاربات الحدية التي تركز على الحدود والتباينات فقط ولا تنظر إلى التداخل والتواشج:
” يأسرني سحر كلا المكانين طنجة وبرلين، ربما لهذا السبب تجدني أبحث بكل جوارحي عن نقاط التشابه بينهما لأحس بالأمان والاطمئنان ولا أبحث عن نقاط الاختلاف لكي لا أضطر أن أفضل إحداهما على الأخرى” ص 32.
اقتراب خالد سهولي من طنجة كما أسلفنا اقتراب واع، نابع من إرادة حقيقية لازمت الكاتب سنوات عديدة. وليس فعل اجتراح الكتابة لديه إلا استجابة واضحة لهذه الرغبة الدفينة، فالأشياء لا توجد حقا إلا إذا عبرنا عنها بكلمات. وسفر خالد نحو عوالم طنجة وقبلها نحو عوالم مراكش ، عوالم الوطن بصفة عامة، غوص في أعماق الذات لاستجلاء خفاياها وأسرارها.
” لقد أتاحت لي كتابة هذا الكتاب فرصة تبدو وكأنها ضرب من ضروب الخيال، ولكنها في واقع الأمر فرصة نابعة من رغبة حقيقية، ألا وهي الرغبة في البحث عن ذلك الطفل الذي يقبع في أعماق نفسي”. ص 248
لكن ما الذي يتسلح به الكاتب للقيام بهذه الرحلة الشاقة والممتعة في آن، رحلة العودة إلى الوطن، رحلة تشبه عودة الأسرة كل صيف من برلين إلى طنجة في سيارة المرسيدس 207 كما يصفها الكاتب بإبداع كبير في متن هذا الكتاب.
يتسلح خالد سهولي وهو يقترب من موطنه طنجة بزاد معرفي قيم حول تاريخ المدينة وكتابها وعلاقاتها مع باقي العالم ، فمن يطالع كتابه لا بد وأن يندهش للاقتباسات التي ينثرها الكاتب هنا وهناك داخل متن حكاياته، والغريب أن معظمها تنتمي إلى مصادر المعرفة العربية الإسلامية والثقافة المغربية قديمها وحديثها، حيث نجد أسماء من قبيل ابن بطوطة وابن طفيل، وجبران خليل جبران، ومحمد شكري والطاهر بنجلون… إضافة إلى معلومات قيمة عن تاريخ هجرة اليد العاملة المغربية إلى ألمانيا، وهجرات لاعبي السيرك إلى مختلف البلدان الأوروبية.
“ومن ينظر فقط إلى السطح يصعب عليه استجلاء الجوهر” ص 52.
زيادة على الاستعداد المعرفي يتحلى خالد سولي في رحلة اكتشاف الذات بالشجاعة التي بمكنتها هزم الخوف المقيم داخل كل مهاجر فارق أرض وطنه. فما يميز المهاجرين جميعهم في رحلة البحث عن وطن هو الخوف من دوام الإحساس بالتيه والغربة، حيث يكتب سهولي:
” ولكن في رحلة بحثهم هذه لا يفارقهم أبدا شبح خوف عميق، إنه الخوف ألا تطأ أقدامهم هذا الوطن الجديد الرائع أبدا، أو أن تخيب فيه آمالهم وتنكسر على جدرانه أحلامهم.” ص 5
يذكرنا شغور الغربة هذا بغربة المتصوف وتوقه الدائم إلى بلوغ نور الحق. وكما المتصوف يتزود خالد سهولي في سعيه إلى القرب بالمحبة والتفاؤل والأمل والسعادة:
” ما هي قيمة الوطن من غير أحبتنا؟ فالوطن من غير محبة ليس بالوطن. هو فقط مكان بارد يعرف المرء تفاصيله بشكل أفضل من الآخرين” ص 161
تظهر المحبة جلية في رابطة الكتب القوية بموطن آبائه وأجداده وفي حبه لخالته، ونظرته الحنونة المفعمة بالحب والمشاركة إلى مختلف التجارب ، حتى تلك التي قد تسبب ضيقا أو سوء فهم ليس فقط للأجنبي أو المهاجر الذي لم ينشأ ويترعرع داخل المجتمع المغربي، وإنما أيضا لبعض المغاربة أنفسهم، مثل زيارة الحمام المغربي : فرغم غرائبية الطقوس وضعف التواصل اللغوي مع الكسال مثلا ، لا يشعر الكاتب بالاغتراب أو الضيق ، بل يحس بالانتماء والانتصار على “ذلك الشك الذي اكتسبه وترعرع معه في الثقافة الألمانية”. ص 221
يبلغ إحساسه بالانتماء أوجه عندما يقوم شاب بشراء البرتقال وتوزيعه على المستحمين في قاعة ارتداء الملابس: ” فلقد كنت مرارا وتكرارا في عديد من حمامات البخار في برلين، ولم أذكر قط أنني رأيت شابا أو أحدا يدخل على الزبائن الذين استحموا لتوهم ويوزع عليهم فاكهة طازجة، لأشخاص غرباء لا يعرفه أو لم يتعرف عليهم بعد…أشعر بعد الحمام بالراحة وكأن الحياة دبت في مجددا… فقد شعرت بنفسي جزءا من هذا المجتمع المصغر وتنفست بعمق.” ص 223.
عندما يتأمل الكاتب خالد سهولي الكيفية التي أفلح من خلالها أبويه في تنشئة أبنائهم على قيم التسامح والمحبة واحترام الأديان والثقافات، يخلص إلى أن ذلك نابع في الأساس من حبهما وثقتهما وإيمانهما العميق بأن الخير ينتصر في النهاية.
” وما أرغب في نقله لأبنائي هو هذا الشعور بالثقة والثبات، فينبغي عليهم أيضا أن يثقوا في أنفسهم وفي قدراتهم وأن يتيقنوا بقوة الخير وانتصاره، فالإيمان بهذه الأمور يأتي في المقام الأول قبل معرفتها عن طريق العلم.” ص254
للإشارة، صدر الكتاب عن دار النشر سليكي أخوين بطنجة في ترجمة أنيقة إلى اللغة العربية تضاهي في أناقتها وسلاسة لغتها وسحرها النص الأصلي، أعدتها الأكاديمية والمترجمة الدكتورة فدوى الشعرة.
عبداللطيف بوستة
الهامش
[1] تحيل Emperie على لفظة أرسطو Empeiria والتي تعني ان الأشياء يصبح لها هيئة عند التعامل المتكرر معها

