جيل مغربي جديد صعد إلى المنصات العالمية، رفع راية الوطن في المونديال، وغمر القلوب بالفخر والدهشة.
لكن هذا الجيل نفسه، حين يعود إلى حياته اليومية، يصطدم بواقع مختلف: بطالة، تعليم متدهور، صحة منهكة، وإدارة بلا روح.
فكيف لجيل واحد أن يصنع المجد في ميدان ويعيش الفشل في آخر؟
هل هو عجز القدرات أم فشل السياسات؟ أم أن الوطن يملك من الطاقات ما يكفي للنهوض، لكنه ما يزال رهينة سوء التدبير؟!!!
نحن نعيش اليوم إنجازا كشف العطب !!…حين تألّق المنتخب المغربي في كأس العالم، لم يكن ذلك من قبيل الصدفة؛ بل كان ثمرة رؤية استراتيجية واضحة وحكامة رشيدة واستثمار فعلي في الإنسان، تحت قيادة ملكية مؤمنة بأن بناء المستقبل يبدأ من تكوين الشباب. أليست المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي المشروع الملكي الذي وجهه ملك البلاد نحو الجهات؟ ظل هذا المشروع بمراحله الثلاث هو المصدر الوحيد المعتمد لترقيع ما يمكن ترقيعه من فتق، واعطاب في التسيير لدرجة هناك أقاليم لم يقم المسؤولون عنها باية مبادرة إضافية تذكر غير اجتماعات صرف ميزانية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ؛التي ركزت على مشاريع دون غيرها. جعلت المنطقة تمشي عرجاء ،لا قوة اقتراح في تنمية المنطقة بخلق مؤسسات للتشغيل ، ولا في توفير مواصلات للمنطقة تساعد أهلها على التنقل وبالتالي على الرواج الاقتصادي . غياب قوة اقتراحية لحل تهجير السكان وهم يقهرون بين توفير السكن لابنائهم بعد الباكلوريا وبين قدرتهم الشرائية المتهالكة يوما بعد يوم بالغلاء المتزايد ،وانعدام فرص تقوية الدخل. ماذا أضاف المسؤولون عن تسيير الأقاليم للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية كمشروع ملكي؟؟؟
الجواب على هذا السؤال هو الذي التقطه جيل Z وقام صارخا في وجه حكومة رأى عدميتها في المشهد التنموي ،واختباءها وراء إنجازات المؤسسة الملكية .وفي المقابل هذا الجيل نفسه عندما توفرت له عناصر الاشتغال ،قدم لوطنه عربون المحبة والوطنية الصادقة برفع الراية المغربية عالميا.
لكن هذا النجاح نفسه كان كاشفًا لخلل بنيوي في مؤسسات أخرى، حيث تُبدد الموارد وتُهدر الطاقات بين سوء التسيير، والبيروقراطية، وغياب الضمير المهني.
لقد أثبت قطاع الرياضة أن المغربي يبدع حين يُمنح الثقة، وأن الكفاءة الوطنية ليست في الخارج بل في داخل الوطن، تنتظر فقط من يؤمن بها ويمنحها الفرصة.
لكن لماذا لا نرى نفس النتائج في التعليم، في الصحة، في الإدارة؟
الجواب واضح: لأننا لم نمنح هذه القطاعات نفس روح الجدية والانضباط والمحاسبة. بل بداخل الإدارة المغربية سادت المحسوبية والمحاباة وحوربت الكفاءات التي ممكن ان تزيد بالبلاد نحو إدارة صالحة تستجيب للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ،سادت البيروقراطية التي حاربتها الجهوية الموسعة لنجد البيروقراطية تنتعش من جديد وتتغول وهي التي تحارب الجهوية بكل عناصرها القيمة من حكامة جيدة ،وترشيد النفقات ،وتقريب الإدارة من المواطن .انظروا الآن ماذا يحدث داخل قطاع الثقافة انه أكبر نموذج لانحدار الجهوية وتراجع عن كل مكتسبات التقدم ،وكيف تتم محاربة الكفاءات واستبدالها بمن يقتل التنمية الثقافية .فكيف يجد جيل Z مؤطرين سواء في التعليم أو في الثقافة ؟؟؟
انه جيل يرى كل شيء… ولا يقبل التلاعب !!! فان تمت محاربة الكفاءات واستبدالها بمن يعبث بالقطاعات ،فان المحاسبة لابد قادمة ،رغم حلم الفاسدين باستمرار العبثية.
جيل Z المغربي ليس جيلاً ساذجاً أو كسولاً كما يتهمه البعض. انه جيل يعيش في زمن الشفافية المطلقة، يرى الأرقام، يقرأ الوثائق، ويقارن بين الخطاب والواقع.
يعرف أن المشكل ليس في حجم الميزانيات، بل في من يصرّفها وكيف. فعندما يجد المركز الثقافي بحومته مشلولا ومديره لا يملك ميزانية بل لا يملك حتى سلطته على تسيير مركزه .والفعاليات اليتيمة التي تنعم عليه بها الإدارة المركزية ، تأتيه مستوردة جاهزة للاستهلاك لا للتشارك مسبقا ؛ ليكون هو فقط ذاك الجمهور الذي يكمل ديكور الحضور امام كاميرات تتاجر بالحقيقة ،وليست كاميرا ت انتقادية تمثل اعلاما حرا يحاور الواقع المرير ويساهم في إصلاحه، كما دعى الى ذلك ملك البلاد في خطابه الأخير .من يستطيع ان يقنع جيل Z بأن مركز حومته الثقافي شل بسبب ميزانية مرصودة ضعيفة وهو يرى بعضا من شباب جيله المدللين وغير المغضوب عليهم يحصلون على ملايين الدعم لمهرجانات لم يتم سؤال حاجته اليها او على الأقل لم يتم توجيهها من طرف من يثق في حسن تدبيره بمركزه ، ويعتمد المقاربة والمشاركة في الإنتاج الثقافي ،وصناعة الفعل الثقافي التنموي . يرى المليارات تُعلن في البرلمان، لكنه يلمس واقعاً بائساً في المدرسة والمستشفى والإدارة.
جيل لا يمكن خداعه بشعارات “الإصلاح” ما دامت النتائج هي ذاتها منذ عقود. هذا الجيل لا يبحث عن أعداء خارجيين ليلومهم، بل يسأل ببساطة: أين تذهب ثرواتنا؟ اليس نفس السؤال الذي طرحه ملك البلاد في احد خطاباته!!! اين الثروة؟؟؟؟
أين اختفت ميزانيات التنمية؟
وأين ذهبت وعود المحاسبة التي لم تُفعل إلا في الخطب الرسمية؟؟؟؟؟
حين تغيب المحاسبة، يحكم اللاّضمير، وهذا هو التناقض الذي تعيش على وقعه بلادنا :الفساد لا يحتاج إلى عباقرة كي يزدهر، بل إلى صمت فقط، وصمت المؤسسات أخطر من فساد الأفراد.
فعندما يُختزل المنصب في الغنيمة، وتتحول المسؤولية إلى حصانة، تصبح الدولة رهينة شبكة مصالح تحكمها الولاءات بدل الكفاءات. وهذا اعلان رسمي على أخذ وطن بأكمله نحو المجهول ؟؟؟؟؟
كم من ملف فُتح ثم أُغلق دون مساءلة حقيقية؟؟؟ …كم من تقرير صادر عن المجلس الأعلى للحسابات انتهى في رفوف الأرشيف؟ ان لم يجهض في التبليغ عن الفساد بشكل سابق ؟
وكم من مسؤول متورّط وجد نفسه بعد أشهر في منصب آخر “لإعادة التدوير السياسي”؟ هل كذب المسؤولون وصدقوا كذبتهم ؟؟ هل شبه لهم بانهم استطاعوا ان يغيبوا شباب المغرب بأكمله بمهرجانات فارغة المحتوى ، وتراندات نجوم تافهين ملؤوا بهم السوشل ميديا ،ومخدرات غضوا الطرف عنها بأشكالها المهلوسة ؟؟؟؟
هكذا يُقتل الإيمان بالوطن في نفوس الشباب. وحين يموت الإيمان، لا تبقى سوى الهجرة أو السخرية أو الغضب. لكن جيل Z لا يهاجر من كره الوطن، بل من خذلان المؤسسات له.
وها هي الرياضة مرآة لما يمكن أن نكون في باقي القطاعات . هاهي الرياضة تقدم اعترافا لجيل المغرب أو أجياله بمختلف الاعمار أنهم مبدعون وقادرون على خدمة وطنهم ، والابداع فيهم هو الأصل ،أما التخريب فهو فرع ، وفرع ضعيف جدا بالنسبة للجذور المغروسة في تربة الوطن الطيبة التي تم سقيها بدماء المقاومين الاحرار في ثورة الملك والشعب ،الثورة الاستثنائية التي كانت ضد المستعمر ،والآن هي قائمة بعون الله ضد الفساد .
ان المنتخب المغربي ليس فقط فريقاً كروياً، بل تجربة رمزية أثبتت أن النجاح المغربي ممكن حين تتوفر الإرادة.
فلو تمّ تدبير باقي القطاعات بنفس الروح التي دُبّرت بها كرة القدم، لكان المغرب اليوم نموذجاً في التنمية كما هو نموذج في الملاعب. لأن المعادلة بسيطة يسهل فهمها وليست معقدة تتطلب خبراء ومحللين وصرف ميزانيات في ثرثرة لا جدوى منها : حكامة + محاسبة = نجاح. وغياب أيّ منهما = فشل دائم مهما تضخمت الميزانيات وتعددت الشعارات.
انه جيل لا يريد الثورة… بل العدالة …جيل Z لا يطلب المستحيل. ولا يبحث عن إسقاط مؤسسات ، بل عن تفعيلها بالمحاسبة والحكامة الجيدة ، فلا تحوروا طلباته ولا تؤولوا صرخاته ،لأنها صرخة وطن يئن تحت وطأة فساد عمر طويلا لدرجة صدق نفسه انه له حياة أبدية ،وليس من الممكن زحزحته !!!
يريد جيل Z أن يرى القوانين تُطبّق، لا أن تُستعمل كسلاح انتقائي. يريد دولة تحترم ذكاءه، لا إعلاماً يستهين بوعيه. يريد أن يعمل، يتعلم، يُعالج، ويعيش بكرامة في وطنه، لا أن يُدفع نحو اليأس.
هذا الجيل لن يقبل أن يُستعمل كصوت انتخابي أو كواجهة شبابية في حملات التواصل. كما هو الأمر بالنسبة للتجارب السابقة التي استغلت الشباب أكثر من احترامها له . لم تستخدمه كطاقة إنتاجية تحب الخير للوطن ككل ، بل قدمت صورة مشوهة كانت نموذجا لجمعيات معينة تم تدليلها على حساب مؤسسات رسمية . بدل ان تلقن الشباب معنى احترامها ،وليس تجاوزها كما الحال بالنسبة للمراكز الثقافية المشلولة.
هو جيل يسأل: من يحاسب من؟
ولماذا تتحول الأخطاء الكبرى إلى فرص جديدة لأصحابها؟
ولماذا يظل من يملك الكفاءة خارج دائرة القرار، ومن يملك الولاء داخلها؟
لذا يجب الانتقال المنطقي من تنظيف الواجهات إلى تنظيف مراكز القرار…
ما نحتاجه اليوم ليس “إعادة تلميع” الصورة، بل إعادة بناء الثقة.
لن يتحقق ذلك إلا بتطهير مراكز القرار من الانتهازيين، ومراجعة عميقة لآليات توزيع الميزانيات.
فحين تُصرف الأموال “على نظافة”، تنجح الخطط. وحين يُحاسَب المسؤول بجدية، تصبح الأخطاء دروساً لا سوابق تزيد أصحابها تغولا لافلاتهم من العقاب .حينها فقط، سيتحوّل العمل العمومي من عبء على الدولة إلى قوة دافعة لها.
نحن امام مغرب يستحق جيله… وجيله يستحق حكومة أفضل…
المغاربة لا يكرهون وطنهم، بل يكرهون من يسيء إليه باسم الوطنية. وجيل Z ليس متمردًا على الدولة، بل على الفشل.
لقد أثبت أنه قادر على رفع راية المغرب في المحافل الكبرى، وسيكون قادرًا على رفعها في ميادين التنمية والعدالة، إن وُجدت الحكامة التي تؤمن بقدراته. والمطلوب اليوم ليس خطابًا جديدًا، بل ضميرًا جديدًا. ضمير يدرك أن حب الوطن لا يُقاس بالتصفيق، بل بالفعل، وأن الكرامة الوطنية لا تُبنى بالشعارات، بل بالمحاسبة والعدل والشفافية. حين يحدث ذلك، سيصبح كل قطاع كمنتخب وطني له هدف واحد: أن ينتصر المغرب… لا بالأقدام فقط، بل بالضمير أيضًا.

الدكتورة نزهة الماموني


جيل Z بين انجاز كشف العطب، وضمير ينتظر الولادة.