الرئيسيةأخبارقراءة في ديوان “كي لا تبكي” للشاعر عدنان مشهي

قراءة في ديوان “كي لا تبكي” للشاعر عدنان مشهي

ديوان "كي لا تبكي" للشاعر عدنان مشهي
قراءة في ديوان ” كي لا تبكي” للشاعر عدنان مشهي

لكل إنسان نظرته للحياة، وطبيعة تدبيره للأمور، لكن، مهما بلغت خبرته فيها وسطوته وجبروته سيبكي لا محالة جراء حدث ما، إحساس ما…
لا يمكننا أن نجزم أو نحدد طبيعة تلك العبرات المنهمرة من عيون كانت لتبدو لنا في الوهلة الأولى جافة، وكان صاحب العينين يبدو كصخرة صماء، إلا أنه انهار وأرخى العنان لدموعه ونحن أمامه نقف مشدوهين نتساءل: ما الذي أبكى هذا الجبل الشامخ؟!
بعد أن يُمعن الفرد النظر في “تاريخ البكاء” لتوم لوتز، سيجد أنه تتبع تاريخ الدمع انطلاقا من أسباب البكاء مرورا بالبكاء نفسه وصولا إلى نهايته، إلا أن هذا لا يجعل لوتز إنسانا محيطا بالبكاء وتاريخه. كيف له أن يحيط بتلك المشاعر التي تدفع الفرد إلى البكاء والعلم عاجز عن تحليل مكونات الدموع باختلاف الأسباب والمشاعر؟ أظن أن صاحب ديوان “كي لا تبكي” يعرف أسباب بكاء مخاطبه، ويعرف كيف يجعله يضحك بعد بكائه.
من هو مخاطبه؟ أيقصد الشاعر شخصا بعينه أم أنه يخاطب أعماق ذاته “كي لا تبكي”؟
لا يمكن للفرد أن يجد الحلول للبكاة إلا إذا كان يعرف مكونات دمعهم وأسبابه حق المعرفة. كي لا أبكي وكي لا يبكي وكي لا نبكي… سيكتب الشاعر قصيدة، وبعد قراءتها مباشرة سنبكي لا محالة! إما فرحا وإما أن القصيدة ستنتشلنا من براثين الخيال والمثالية لتضعنا وتدعنا فرادى أمام واقعنا المظلم…
إضافة إلى ذلك، ففي الماضي، منذ العصر الجاهلي، كان البكاء في مطالع القصائد يدخل ضمن الأنظمة الصارمة لنظم الشعر، والوقوف من أجل البكاء لزاما على كل شاعر:
قفــــــــــا نـــبك من ذكرى حــــــبيب ومـــــنزل
بـــــــسقط اللــــــــوى بين الـــــــدخول فحومـــــــــــــل

إنْ مر طبعا بمكان له وقع على فؤاده، أو أنه سيقود ناقته نحو المكان الذي أبصره من بعيد ليقف ويبكيه شعرا:
عوجـــــــــا على الطلل المحيــــــــل لأننـــــــــا
نـــــــــــــــــــبك الديار كمـــــــــــا بكى ابن خـــــــــذام

أو ليبكي ذكرى محبوبته الغائبة الحاضرة. بل أكثر من ذلك، فالشاهد أعلاه شهادة حية تخبرنا بأن البكاء سابق قديم قدم النظم الشعري (..كما بكى ابن خذام).
غير أن المكان الآن غير ذاك المكان، والزمان غير ذاك الزمان؛ حيث إن الشاعر عدنان مشهي في ديوانه “كي لا تبكي” يظهر من الوعي الشعري ما لا يملكه آخرون من معاصريه؛ فواقع الحال يفرض عليه شكلا جديدا ومضمونا حديثا يتناسب وطبيعة حياته الاجتماعية وأوضاعه النفسية. ليؤكد من خلاله على دائرية الزمن والمكان حتى بدا غير منته:
ريح الأحلام
البيضاء
تجر جوادي
إلى حيث..
لا أدري.
حيث
لا مكان
وحيث..
لا زمان. (ص17)
في الماضي كانت الصحراء شاسعة، وللعين حق هتك ستر الأفق حتى يبدو الزمان والمكان مستقيمين متوازيين، عكس شاعر اليوم، الذي لا يجد متنفسا يروح به عن نفسه من ضيق المدينة وضجيجها غير كتابة شعر يتماشى وواقع الحال وظلمته، والسرعة التي تجعل كل شيء دائري لا ينتهي، بل إن دورة الحياة دائرية؛ حتى في الدراسات الأنثروبولوجية تبرز تلك الدوائر ومراكزها في كل الثقافات. يشير إلى ذلك ميرسيا إلياذ في “المقدس والمدنس” أكثر من مرة ؛ في حديثه عن كسموس المعبد والكون، ومعتقدات الناس التي تظن أن منازلها وقُراها بمركز دائرة الكون. وهذا يرتبط أيضا بعنوان الديوان وليس فقط بمضمونه، فالعنوان أيضا يبرز تلك الدائرية: سأفعل كذا كي لا تبكي/ كي لا تبكي سأفعل كذا… سأكتب شعرا كي لا تبكي/ كي لا تبكي سأكتب شعرا…
لا مناص من أن الشاعر عدنان مشهي سيُرمى بمتاهة تلك الدائرة، وستبعثر أوراق حياته داخلها، وكلما تحركت عاصفة وجدانها المحطمة، كلما زادت حياته تبعثرا:
حياتي
أوراق مبعثرة
والعاصفة الهوجاء
تزيد
في تبعثرها. (ص 18)
لقد عاش شعراء كثر في المتاه قبل الشاعر عدنان؛ حيث يقول أدونيس تعبيرا منه عن غربته في الكون واستسلامه:
يكفيك أن تعيش
في المتاه
منهزما، أخرس،
كالمسمار.
وهذأ ما عبر عنه صاحب ديوان ” كي لا تبكي ” في الصفحة الثانية والعشرين حيث أظهر تيهه في الحياة ومعاناته في صراعه مع الغموض وكأنه طفل لم يجد مخرجا بلعبة المتاهة:
ولا أرى..
في صفحات عمري سوى..
متاهات..
غامضة..
ومعاناة..
فاضحة..
من شدة الحزن والتيه… وصل الشاعر إلى حد أضر بجوانب الرقة لديه، بمكامن النظم، بمخارج الحروف، صار الشاعر غريبا في كل شيء، فاتجه إلى القصيدة كعزائه الوحيد من هذا العالم الموحش، فخانته الحروف وأبت إلا أن تغيب عن ماء قصيدته، فتشتت كما تشتت روحه:
كيف ألم
شتات
الحروف
كي أغطس
في ماء القصيدة؟ (ص 37)
وهذا المقطع فيه من التناص ما فيه مع غربة أدونيس في الكلمة، حين بكت لغته وأضحت غريبة وإياه، وبات ضائعا ليقول:
لغتي تنوء وكأن فوق حروفها،
حجر وطين.
بعد هذا التيه في الزمان، المكان، الكلمة… والحرف، اختار الشاعر عدنان مشهي البكاء كحل، والكلمات كعزاء، فكان منبع كلمته القلب، فكانت كلمته كما قال عامر بن قيس: ” الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.”
سبق وأن طرح رولان بارت سؤالا ضمنيا عمن يستطيع الاضطلاع بهذه المهمة، والمهمة هنا قصد بها بارت الدموع وتاريخاها، فكانت إجابة عدنان شافية.
أ كتب “كي لا تبكي” بعد وجد الحلول لتاريخ البكاء، أم أنه في لحظة تطهير، أم أن نظمه لا يتجاوز قول صامويل بيكيت: “كلماتي هي دموعي”؟
إن الدموع كما يروي مارتن لوتز “تتطلب رد فعل”، وهل تحتاج ذات الشاعر هنا إلى رد فعل؟ لا أظن ذلك، فشاعرنا لا يفسح المجال أمام المتطفلين والمتدخلين، لا يريد شفقة من أحدهم، بل أكثر من ذلك، إنه يحذرنا من اقتحام دواخله:
لا تسافر
داخلي
في عمق..
طويل (ص28)
ويضيف قائلا في الصفحة بعدها:
تنهيدتي
ساحقة
تحمل حزمة
من الأحزان.

ولا يجرنا الحديث عن الدمع والبكاة فقط إلى من يواسينا، ومن يمسح وابل العبرات المنسابة من أعيننا، بل إنه يفرض علينا غض الطرف عن أسبابها والتعريج على من يحتويها؛ أ لا تحتاج تلك القطرات الغزيرة المالحة التي تنساب من العين إلى وعاء.

عدنان مشهي
عدنان مشهي
يجمع شتاتها؟ بلى، هي بحاجة إلى ذاك الوعاء، ولن يكون الوعاء سوى قصيدة، ديوان “كي لا تبكي”.
هذا الوعاء يبرز من خلال تكرار حرف الجر “في” الوعائي أكثر من ثمانية عشرة مرة على طول الديوان، مذ البداية حتى آخر قصيدة، حيث تجده مرة دما (في دمي) ومرة شريانا (في شراييني)، وثالثة ماء قصيدة ورابعة بيت الشاعر…
إن تكرار هذا الحرف الوعائي على طول القصيدة ليس عيبا بل مزية، عكس النثر الذي نجتنب فيه التكرار قدر الإمكان. يقول صاحب “الأدب والغرابة” في ذلك: “عندما تتكلم أو تكتب فإنك تتجنب التكرار جهد الإمكان… لكن التكرار يصير فضيلة في الشعر…”. وهنا نخص بالذكر فقط ما يتناسب ووعاء الدمع (في) ولا نتناول بالدراسة ما تم تكراره على طول “كي لا تبكي”.
إن البكاء حسب داروين ” أحد التعابير الخاصة بالإنسان”، أي أنه ليس صفة عرضية بل هو فصل نوعي يميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، وواه من يعتبر العيثوم “سادي” قد بكت.
سيبقى البكاء نشاطا علاجيا، ويظل ديوان ” كي لا تبكي” للشاعر عدنان مشهي وعاء يحتوي مدامع كل بكاة العالم، كل من مسه ضر الحياة وسطوتها، وطاله سلطان المعاناة وجورها.
أيها الليل!
دعني ألتمس منك عذرا، فقد سهرتك دون جدوى. (ص 50)
في ختام هذه الورقة، التي لا يمكنها أن تحيط بكل ما دسه الشاعر عدنان من معان داخل ديوانه ” كي لا تبكي ” يمكننا أن نستفهم قائلين: أ أخبرنا الشاعر بكل شيء أم أن النسيانات تداخلت، واللغة ناءت، والحروف تشتت لتجهز نفسها لديوان آخر؟!

زكرياء البشاري
زكرياء البشاري

زكرياء البشاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *