الرئيسيةأخبارطنجة والسياحة الثقافية الجديدة: المهرجانات كآلية لإعادة إنتاج الهوية الحضرية وتعزيز الجاذبية السياحية

طنجة والسياحة الثقافية الجديدة: المهرجانات كآلية لإعادة إنتاج الهوية الحضرية وتعزيز الجاذبية السياحية

تمثل طنجة حالة فريدة في المشهد الحضري المغربي والمتوسطي على حد سواء. فهي ليست مجرد مدينة ساحلية ذات موقع استراتيجي عند التقاء البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، بل هي فضاء ثقافي متعدد الطبقات يختزن ذاكرة تاريخية غنية امتزجت فيها التأثيرات الأمازيغية المورية الأندلسية والعربية والإفريقية والأوروبية. هذا التنوع الثقافي جعل منها نقطة جذب سياحي منذ عقود، إلا أن طبيعة هذه السياحة شهدت في السنوات الأخيرة تحولًا نوعيًا بات يُعرف بـ”السياحة الثقافية الجديدة”. لم تعد السياحة في طنجة اليوم مقتصرة على زيارة المتاحف والمعالم التاريخية، بل أصبحت تقوم على التفاعل المباشر مع الثقافة المحلية عبر المهرجانات والأنشطة الفنية والإبداعية التي تحوّل المدينة إلى مختبر مفتوح للعيش المشترك بين السكان والزوار. ومن هنا يطرح سؤال جوهري: كيف تساهم المهرجانات الثقافية في إعادة صياغة هوية طنجة السياحية؟ وهل يمكن لهذا النموذج أن يتحول إلى رافعة تنموية حقيقية تتجاوز البعد الإحتفالي؟ عرفت السياحة الثقافية تحولات جذرية على الصعيد العالمي، إذ انتقلت من نموذج يعتمد على الاستهلاك السريع للمشاهد الثقافية إلى نموذج يقوم على التفاعل والمشاركة. يشير الباحث جريج ريتشاردز (2018) إلى أن السياح الجدد يبحثون عن تجربة ثقافية حية تتيح لهم الانغماس في تفاصيل الحياة اليومية للمدن التي يزورونها. وهذا ما يتجسد بوضوح في طنجة، حيث لم يعد الزائر يكتفي بمشاهدة القصبة أو التجول في الأسواق والبازارات والمقاهي القديمة، بل أصبح يرغب في الاندماج داخل النسيج الثقافي والاجتماعي للمدينة. وقد ظهرت في هذا السياق مبادرات محلية تسعى إلى إشراك السياح في تجارب أصيلة، مثل ورشات الطهي الشعبي، وزيارات لمراسم الفنانين، وجولات في الأحياء التاريخية يقودها مرشدون من أبناء المدينة وفاعلون جمعويون ومتطوعون جامعيين.وانتشرت أنشطة الحرف اليدوية التي تسمح للزائر بخوض تجارب المشاركة في الطهي المحلي وصناعة الزرابي أو الفخار أو النقش على الخشب والرسم والشعر وصناعة الزليج وغيرها كثير. هذه الأنشطة لا تقدم فقط صورة حية عن التراث المحلي، بل تعزز أيضًا الحوار بين الثقافات، وتجعل السياحة الثقافية جسرًا للتبادل المعرفي والاجتماعي. تُعد المهرجانات الثقافية والفنية بطنجة عنصرًا مركزيًا في التحول السياحي الذي تعرفه المدينة. فهي لم تعد مجرد أحداث احتفالية موسمية، بل صارت منصات لإنتاج المعنى الثقافي وإعادة تقديم المدينة كوجهة حضارية. تعتبر المهرجانات الفنية الموسيقية أبرز مثال على ذلك، إذ تتحوّل المدينة إلى فضاء موسيقي عالمي تتلاقى فيه إيقاعات العالم مع الموسيقى المغربية التقليدية تجمع بين المحلي الوطني والدولي تعيد وصل المدينة بجدورها التاريخية القديمة. ولا تقتصر المهرجانات على العروض الفنية فقط، بل تشمل أيضًا ورشات تكوينية وجلسات نقاش تجمع الفنانين بالجمهور، ما يعزز التفاعل الثقافي ويخلق دينامية حضرية تتجاوز حدود المهرجان نفسه. أما مهرجانات السينما والمسرح فتساهم في ترسيخ صورة طنجة كعاصمة للفنون البصرية الجمالية المسرحية والسينمائية، حيث تستضيف المدينة صناع الأفلام وكتاب وتخرجي وممثلي المسرح والنقاد والباحثين من مختلف أنحاء العالم، مما يمنحها إشعاعًا ثقافيًا يتجاوز السياحة التقليدية نحو بناء شبكة تواصل إبداعية. كما تبرز مهرجانات تعنى بالشعر العالمي والأدب والفكر كحدث ثقافي تعبر عن روح النقد والسخرية الاجتماعية، وجمال عذب الكلام تجذب جمهورًا متنوعًا من داخل المغرب وخارجه.، وتقدم للزوار تجربة غنية بالرموز والدلالات التي تجسد استمرارية الذاكرة الثقافية لطنجة. فوفقًا لتقرير اليونسكو (2023)، فإن المهرجانات الثقافية أصبحت تشكل أدوات للدبلوماسية المهرجانات الثقافية ودورها في إعادة تشكيل المشهد السياحي، إذ تساهم في تعزيز مكانة المدن على الصعيد الدولي، وتفتح المجال أمام شراكات ثقافية وسياحية عابرة للحدود، وهو ما انعكس إيجابًا على طنجة التي باتت تستقطب فئات جديدة من السياح الباحثين عن التجربة الثقافية الأصيلة. لم يقتصر تأثير السياحة الثقافية الجديدة على المهرجانات وحدها، بل امتد إلى الفضاء الحضري للمدينة.وبالإظافة إلى فضاءات المراكز الثقافية فقد تحولت أماكن عمومية مثل ساحة السوق الكبير وحدائق المندوبية وباب المرسى ومقاهي القصبة إلى فضاءات ثقافية مفتوحة تحتضن عروضًا موسيقية، معارض تشكيلية، ولقاءات أدبية. هذه الحيوية جعلت من المدينة مختبرًا حيًا للتجربة الثقافية المشتركة، حيث يلتقي الزوار والسكان المحليون في فضاء مشترك يتيح لهم التفاعل المباشر بعيدًا عن الحواجز السياحية التقليدية. كما ساهمت هذه الدينامية في إعادة إحياء أحياء كانت مهمشة سابقًا. فقد تحولت بعض المباني التاريخية المهجورة إلى فضاءات للفن والإبداع بفضل شراكات بين السلطات المحلية وجمعيات المجتمع المدني. هذا التوجه جعل السياحة الثقافية أداةً لإعادة الاعتبار للتراث المادي واللامادي للمدينة، وربطها بمشروع التنمية الحضرية الشاملة. رغم هذه المؤشرات الإيجابية، تواجه السياحة الثقافية بطنجة تحديات معقدة. يتمثل أولها في خطر التسليع المفرط للثقافة، حيث قد تتحول بعض الممارسات الفنية والتراثية إلى مجرد منتجات سياحية تفقد قيمتها الرمزية. كما يمثل غياب التنسيق بين الفاعلين الثقافيين والمؤسسات السياحية تحديًا أمام بناء رؤية شمولية قادرة على ضمان استدامة هذا النموذج الجديد. إضافة إلى ذلك، تبقى موسمية المهرجانات عائقًا أمام تحويل طنجة إلى وجهة ثقافية دائمة على مدار العام. لذلك، بات من الضروري التفكير في استراتيجيات جديدة تجعل الثقافة جزءًا مدمجًا في الحياة اليومية للمدينة، بدلًا من حصرها في مواعيد محددة. إن تجربة طنجة في مجال السياحة الثقافية الجديدة تكشف عن إمكانات هائلة يمكن أن تحول المدينة إلى مختبر حضري للتجديد الثقافي والتلاقي الحضاري. فقد أثبتت المهرجانات والأنشطة الفنية أن الثقافة ليست عنصرًا تكميليًا في السياحة، بل هي محرك أساسي لإعادة تشكيل الهوية الحضرية وتعزيز جاذبية المدينة على المستوى العالمي. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا حول كيفية تطوير هذا النموذج ليصبح مشروعًا تنمويًا متكاملًا يدمج بين حماية التراث وتحفيز الإبداع وضمان استفادة الساكنة المحلية. فهل تستطيع طنجة أن تواصل هذا المسار دون أن تقع في فخ التسليع المفرط للثقافة؟ وكيف يمكن جعل السياحة الثقافية وسيلة لإعادة توزيع القيمة الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف مكونات المدينة؟

منير بنرقي فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *