لا يعرف ما يحدث له، فقد كان لا يختار الأشياء بنفسه ويريد أن يكون مثلما قال بوذا: “نحن ما نفكر فيه”. يشعر بأحاسيس قد تلاشت، أو كأن العالم قد فقد إنسيته.
كان هو و”زهرة” اثنين متحابين تجمع بينهما “سيامية التناص”. لكنها غادرت مدينتهما في اتجاه غرناطة، ولم تخبره بوصلته أين تخبئ محطتها الأخيرة. خاب حدسه، إحساسه متيم بهيام مفقود، تسترد أنفاسُه عبقَ عطرها، ومخيلتُه تقاسيمَ وجهها، ونظرتُه سحرَ غنجها. فقد كانت فاتنته، لأنها ليست ككل النساء. تذكر عندما رآها أول مرة كيف تشكلت لديه دوافع الانبهار والافتتان: وجهها، عيناها، شفتاها، نهداها، قوامها…، وكيف أنها كانت تحدد له خصائص الرغبة في المرأة. بل هي رائعة، وهو كان منصهرا فيها.
استمر في استعادة ورسم صور مرتبطة بعوالم لطالما أبهرته برفقتها، تخالجه رغبة في استعادة الماضي القريب، محاولا الدخول في الزمن، وكأنه يريد تطويع الذكرى وما ينبغي أن يستعاد في الذاكرة، كإشراقة أوغلت في الهجر.
وفي عمق تأملاته اكتشف أن الزمن يستطيع أن يمحو الذكرى في التلاشي، لكنه لا يستطيع إغراق الذاكرة في النسيان. يحاول جاهدا تفكيك شفرات زمانهما عبر أزمنة كانت بالنسبة إليه ميسما نحو أمكنة يمتح منها حلاوة المعيش اليومي، ويرحق من زهرة عسلَ جنته الشهي. ظل يتذكرها باستمرار…
ضغط على زر الأباجورة، أخذ ورقة وقلما، وأم كلثوم تغني على مسمعه أغنية “سيرة الحب”. خمّن فكتب:
وأنت بعيدة، حيث يفصل بيننا بعد المدائن والأوطان. كنت بداخلي، وكنت أنا الغريب في الزمان وفي المكان. كان علي أن أحترق لأضيء فراقنا بنور من شموس أخريات، كي لا ينطفئ كلانا في الآخر، ويظل مدارك في الكون يدور حولي.
الكاتب المغربي
نزار القريشي

