لأن التأصيل ضرب من المستحيل المتخيل.فمنذ بداياته المفترضة، ظل الفن التشكيلي رهين تقلب صراعات متجددة: تارة مع السلطة، وتارة مع المجتمع، وتارة مع التقنية، وتارة حتى مع الفنان ذاته. لكن في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، حيث تتغير الوسائط ويظهر الذكاء الاصطناعي والشاشات الرقمية كمنافس قوي للخيال البشري، تطرح أسئلة ملحة: هل ما زال للفن معنى في زمن إنتاج الصور الفورية؟ هل يمكن للذكاء الإصطناعي أن “يبدع” فعلا؟ وهل تغيرت وظيفة الفنان من كونه خالقا للمعنى إلى مجرد مستخدم لأدوات جديدة؟ بداية يمكن القول أن الفن التشكيلي والبصري لم يكن يوما فعلا معزولا عن السلطة، بل كان دائما رد فعل إبداعي على قوى تحاول تدجينه.وعليه فإن دخول التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي إلى المجال الفني لا يعني نهاية الفن التشكيلي، بل بداية تحول جديد في تمثلاته ووظائفه. لذلك يمكن اختزال الموضوع والجزم أن القيمة الجوهرية للفن التشكيلي ستظل مرتبطة بقدرته على التعبير عن الهم الإنساني، لا بمدى تطابقه مع الواقع أو تفوقه التقني. ولكن هل الموضوع بهاته البساطة؟ حين تصبح الريشة مريبة والإزميل عبئ على حامله. الفن في حضرة الدين والسلطة: لم تكن العلاقة بين الفن والدين علاقة عدائية دائمًا، لكنها كانت غالبًا مشروطة.ولأن الحديث عن الأصل والتأصيل تغيب عنه مجموعة من التفاصيل فربما كان الفن التشكيلي عبر بداياته تجسيدا لكل ماهو ديني وعقائدي بحسب كل منطقة وجد فيها الكائن البشري العاقل. فمن رسوم التاميرا ونقوش الصخور ونحث الآلهة المرأة وتطورها إلى تعدد الآلهة والطقوس والعمران ودهاليز وسراديب الأهرام والبنايات في القارات الخمس وغيرها من أثينا إلى الهجار مرورا عبر ليبيا وكينيا وتمودا وشالة وكل مكان وصلت إليه رحلات الإنسان ،بحكم أن الفن التشكيلي والبصري هو فعل إنساني.وبعد الحقبة الرومانية، المؤرخة عبر البحر الابيض المتوسط، شهد الفن التشكيلي فترة التأريخ وخروجه من تشكيل الالهةإلى تمجيد الإنسان. إلا أنه في القرون الوسطى الأوروبية، لم يكن الفنان يرسم ما يريد، بل ما يملى عليه من الكنيسة. وكانت اللوحات وسيلة للوعظ، لا مساحة للتعبير. ومع ذلك،ولدت الثورة من داخل الجدران. فرسم مايكل أنجلو في “يوم القيامة” مشاهد عارية للمقدس أحرجت السلطة الكنسية، لكنها لم تستطع محوها، لأن ما كتب بالريشة كان أبلغ من كل فتوى.ورحلة التجسيد كانت أقوى من المتخيل.فعلى غرار تماثيل مصر العملاقة وبلاد فارس والهند وأثينا وروما جسد فنانوا العصر الوسيط الإنسان كمركز للفن وغايته. وكما في كل مكان شهد العالم الإسلامي تطورا لفنونه البصرية ليخلق تميزه الخاص المستمد من خلاصة أفكار حكامه. فقد اختار الفن لغة أخرى، فازدهر الخط والزخرفة وتحولت المساجد إلى قصائد حجرية. وكان ذلك نوعا من المقاومة الهادئة: وكأن لسان حال الفنانين يقول إن لم نستطع تصوير الأجساد و الوجوه، سنصوّر الروح من خلال الضوء والنقش والتكرار والرمز والحروفية. وفي أماكن عدة من المعمور جنوب المتوسط كانت الوشوم على الأجساد والزرابي والبرنوس واسقف لقصور وركاب أسراج الخيل وأصباغ الملابس شكلا من أشكال المقاومة والحفاظ على الهوية بل وحتى اللغة. الواقعية في الفن التشكيلي: من الإعجاب إلى الإختناق. في القرن التاسع عشر، بدا أن الفن اقترب من الكمال، بفضل الواقعية المفرطة وظهور النقاد البصريين وصالات العروض الخاصة،كانت اللوحات تنبض بالحياة: وجه امرأة، تجاعيد فلاح، خيل تركض… كل شيء يرسم كأنه حي.لكن شيئًا ما كان ينقص. قال أحد النقاد الفرنسيين: “الواقعية هي اللحظة التي يفقد فيها الفن خياله.” وهكذا، لم يلبث الفن أن تمرد على نفسه. و خرج الإنطباعيون المرفوضون إلى الطبيعة، وتحت شمس المساء، قال مونيه: “لن أرسم الأشجار، بل الضوء الذي يخترقها.” وهكذا عاد الفن إلى قلبه: الإحساس لا النسخ. حين وصلت الكاميرا: هل مات الرسم؟ مع ظهور التصوير الفوتوغرافي، بدا وكأن الفن قد انتهى. فالصورة تلتقط اللحظة بدقة تفوق أعظم رسام.لكن الكاميرا، بدل أن تقتل الرسم، حررته. تحرر الفنان من محاكاة الواقع، وبدأ يبحث عن ما وراءه فظهرت مفاهيم فرضت نفسها كالحلم، الكابوس، اللاوعي وغيرها فتحت أبواب جديدة لتكعيبية براك، وسوريالية دالي، وتعبيرية مانيه، وكلها رفضت أن تكون “مرآة”، وفضلت أن تكون “نافذة” على الداخل. ظهور الحداثة ومابعدها: الثورة التي كسرت الإطار. مع بداية القرن العشرين والحروب الشمولية الساحقة، وسيطرة الماكينة على الإنسان،تغيرت مفاهيم الفن التشكيلي بشكل جذري. لم تعد اللوحة مقدسة، ولم يعد الفنان مخلصًا للمعايير. قال دوشان المفاهيمي: “كل ما يضعه الفنان في سياق فني، يصبح فنا.” فوضع مبولة في معرض، وأربك الجميع. لكن ذلك لم يكن عبثا، بل محاولة لإعادة تعريف الفن، في زمن فقد فيه الناس ثقتهم بالمعنى الجاهز. وهكذا أصبح الفن سؤالًا فلسفيا قبل أن يكون منتجا بصريا. الشاشة بدل الجدار: التكنولوجيا تغير المعرض. منذ الكتابة وآلة كوتمبرك لم يشهد العالم تطورا سريعا كالذي شهده العالم مع ظهور العالم الرقمي في العقود الأخيرة، بدأ الفن التشكيلي يتحول من الجدران إلى الشاشات. لوحات رقمية، فنون تفاعلية، تجارب بصرية في الواقع المعزز. في المغرب، بدأت تجارب جديدة تستخدم الوسائط الرقمية والفيديو لتوثيق الذاكرة والهوية والهجرة. لم يعد الفنان يحمل فرشاة، بل أحيانًا برمجيات. لكن رغم انبهار البعض، هناك من تساءل: هل تفقد اللوحة معناها حين تفقد ملمسها؟ ربما لم يعد السؤال عن “شكل” العمل، بل عن “تجربته”. صراع الإنسان الذكاء الاصطناعي: الفن من دون فنان؟ اليوم، نعيش مفارقة حقيقة تتجاوز حدود الخيال.بحيث ترسم لوحات مذهلة في ثوان. يكفي أن تعطيها وصفا شفويا، فتنتج عملا قد يفوز بجائزة، كما حدث فعلا في إحدى مسابقات الفن في كولورادو سنة 2022. فهل هذا يعني أن الفنان البشري أصبح زائدة تقنية؟ يقول الفنان الألماني بوريس إلداغسن الذي رفض جائزة فاز بها لأن العمل تم إنجازه عبر الذكاء الاصطناعي: “الذكاء الاصطناعي أداة، لا فنان. لا يمكن لشيء لا يشعر أن يبدع عن الألم.” ربما تكون الآلة قد اقتربت من شكل الجمال، لكنها لم تقترب بعد من نفس التجربة، ولا من خوف الخطأ، ولا من رعشة اليد الأولى أمام القماشة البيضاء. ويبقى الصراع بين الفن التشكيلي وتمثلات الإنسان السؤال الذي لا يزول… عموما الفن لا يقاس بجماله فقط، بل بطاقته على التعبير، على الإرباك، على طرح الأسئلة التي يخاف الجميع من نطقها. قد تتغير وسائطه، وتختلف أساليبه، لكن يبقى سؤاله الأكبر قائمًا: هل يمكن للفن أن يولد دون تجربة إنسانية، دون شك، دون حب، دون جرح؟ وهل نحن على أبواب فن جديد… أم على حافة نهاية الفنان؟

فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

