الرئيسيةأخبارمقالة: “لعبة الحبار”… من صرخة كورية إلى مرآة كونية

مقالة: “لعبة الحبار”… من صرخة كورية إلى مرآة كونية

لعبة الحبار وتحليلها الرمزي

بداية الانفجار: عندما تحوّلت الطفولة إلى فخ وجودي في زمن أصبحت فيه الحياة مجرّد سباقٍ للبقاء، تنهض “لعبة الحبار” كأكثر من مجرّد مسلسل تلفزيوني؛ إنها مرآة دامغة تضع المشاهد وجهًا لوجه مع هشاشته، وتغوص به في عمق الأنظمة الاقتصادية التي تجعل من الفقر لعبة، ومن النجاة امتيازًا نادرًا. منذ لحظة الانطلاق، لا يكتفي هذا العمل الكوري بنسج حبكة مشوّقة، بل يفتك بالوعي في صمت، عبر قسوةٍ رمزيةٍ تتخفّى في ألوان الطفولة، وتَعرِض العنف لا بوصفه انحرافًا فرديًا، بل قاعدةً مؤسّسة يتواطأ فيها الجميع: الضحية، الجلاد، والمُشاهد. ليست اللعبة هنا مجرد لعبة، بل تعبير فني عن واقع إنساني مأزوم، حيث يُدفع الفرد إلى أقصى درجات التشييء، ويُجرَّد من قيمته الأخلاقية والوجدانية في سبيل “البقاء”، وكأن البقاء هو الحقيقة السياسية الوحيدة الممكنة في عالم مُفرغ من التضامن والرحمة. الولادة المتأخرة لعمل سبَقَ زمانه منذ عام 2009، راودت هوانغ دونغ هيوك فكرة النص، لكنها وُئدت مبكرًا تحت ذريعة سوداويتها وخروجها عن مألوف “الترفيه الجماهيري”. ومع ذلك، حين أُنجز الجزء الأول في 2021، تهيّأ له العالم كأنّه انتظره: جائحة، انهيار اقتصادي، تصاعد الديون، بطالة جماعية، وفردانية مفرطة. بدا العمل في وقته أكثر من واقعي، بل نبوءة مُتحققة. لكن في هذا التماهي مع الواقع، سقط المسلسل أحيانًا في فخ المباشرة، خاصةً في حواراته. كثير من الحوارات جاءت تقريرية، تُصرّح بما يمكن تصويره، وتشرح بدل أن تفتح أفق التأويل. كما أن بعض الشخصيات الجانبية، رغم رمزيتها، كُتبت بسطحية سردية، ولم تُطوّر بما يكفي، فظهرت كأدوات لخدمة الحبكة لا ككائنات إنسانية مكتملة. قلب الرمز: اللعبة كأداة لفضح النظام تحويل ألعاب الطفولة إلى طقوس قتل هو العمود الفقري الرمزي للعمل. تحت قناع البراءة، تُنصَب مسرحيات إبادة مُحكَمة، وتُعاد كتابة شروط اللعبة: ليست الطيبة هي المنجية، بل التوحّش والتكتيك والانصياع. بيد أن هذا الإبداع الرمزي تعرّض أحيانًا للتكرار والتطويل، خصوصًا في الجزء الثاني، حيث طغت بعض الألعاب على السياق الدرامي، وبات التركيز عليها يميل إلى الاستعراض البصري أكثر من التوظيف الرمزي العميق. كما لاحظ بعض النقّاد أن الإيقاع السردي فقد شيئًا من تماسكه في بعض الحلقات، مُكرِّرًا الثيمات دون تعميق جديد. المجتمع كحلبة: طبقات تحت مجهر السرد يمثّل المسلسل رحلة طبقية قاسية، تُعرّي الإنسان المعاصر وتكشف كم أنّ علاقاته الاجتماعية باتت تُحدَّد بشروط السوق. شخصيات مثل جي‑هون وسونغ‑وو وسي‑بيوك تمثّل شرائح متنافرة اجتمعت تحت شرط القهر المشترك. لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل استطاع العمل أن يتجاوز الطرح الرمزي ليقدّم تأملًا سوسيولوجيًا مركّبًا؟ في كثير من اللحظات، بدا وكأن المسلسل يُبسّط الصراع الاجتماعي ضمن ثنائية “الضحية/الجلاد”، دون التوغل في البنى الاجتماعية العميقة التي تُنتج تلك المواقع الرمزية، كما لو أن اللعبة هي السبب وليست النتيجة. هنا تحديدًا يظهر نقص في الفهم البنيوي، وهو ما حال دون تحوّل العمل إلى عمل ماركسي راديكالي كما طمح كثير من متابعيه. خارج الأسوار: حين يصبح الواقع أكثر رعبًا من اللعبة في الجزء الثاني، يعود البطل إلى “الخارج”، ليكتشف أنه لا يختلف عن الداخل إلا في كونه أقل صدقًا. فالعنف في اللعبة معلن، بينما عنف الشارع مموّه. لكنه، في مفارقة مؤلمة، يُجبر على العودة طوعًا إلى الجحيم، بحثًا عن شيء من الكرامة، أو حتى الانتقام. ورغم عبقرية هذه الفكرة، إلا أن بعض المراحل بدت مركّبة صناعيًا. التحقيقات، والشخصية المتسللة بين الحراس، ونظام الـVIPs، كلها ظهرت مشوّهة، وافتقرت إلى العمق والتبرير. بدا الأمر كما لو أن العمل يحاول التوسّع خارج حدوده الطبيعية، دون قدرة على إحكام الإخراج الرمزي والسياسي لذلك التوسّع. الفصل الأخير: لا أحد ينتصر بلغت السلسلة في جزئها الثالث ذروة الرمزية والمأساة مع لعبة “الغمّيضة”، حيث تم تدمير كل أوهام “النبل الأخلاقي” و”الانتصار الإنساني”. الجميع خسر، حتى من نجا. فالبطل لم يعد بطلاً، بل مجرّد ناجٍ فاقد للمعنى، والطفل الرضيع لم يكن انتصارًا للبراءة، بل دليلاً على أن العالم يورِّث لعنته حتى لحديثي الولادة. رغم قوة هذا الختام، إلا أن العمل واجه انتقادات لكونه لم يقدّم طرحًا يتجاوز المأساة. بعض الأصوات رأت أن النهاية افتقرت إلى اقتراح بديل، إلى شكل من المقاومة الرمزية أو الجمالية. لقد فضح النظام، نعم، لكنه استسلم له دراميًا، وكأن لا مفرّ سوى التأمل في الجرح. هنا تبرز الهفوة الكبرى: هل يكفي أن نُظهر الخراب؟ أم يجب أن نُلمّح إلى إمكانية شفاء أو رفض؟ مرايا نقدية: ماذا يقول المسلسل عنّا؟ قد يكون “لعبة الحبار” في جوهره صرخة لا في وجه الرأسمالية وحدها، بل في وجه الإنسان الذي اعتاد على التفرّج. المسلسل لا يدين الأثرياء فقط، بل يُدين الثقافة البصرية التي حولت الألم إلى متعة، والضحية إلى استعراض. وهو حين يفعل ذلك، يجرّنا نحن أيضًا إلى المقصلة الرمزية: نحن نرى، نحن نُشاهد، ونحن بذلك نشارك. ومع ذلك، فإن من أكبر التحديات الأخلاقية في المسلسل أنه – من حيث لا يدري – أعاد إنتاج جزء من ما ينتقده. فهل المسلسل، وقد صار هو نفسه منتجًا رأسماليًا عالميًا مدرًا للأرباح، لم يقع في فخّ الاستغلال الرمزي للمعاناة؟ أليس ما نتابعه اليوم من سلعته هو نسخة معقّمة من الألم – مصمّمة بعناية – ليُعاد إنتاجها ضمن منظومة الترفيه التي يدّعي رفضها؟ كأننا نكتب أسطورة عصرنا الجديد بهذه الثلاثية، نجح “لعبة الحبار” في توسيع حدود السرد التلفزيوني ليبلغ حدود الميثولوجيا المعاصرة. لا لأنه قدّم قصة محبوكة فحسب، بل لأنه أنشأ من نفسه سؤالًا أخلاقيًا معلّقًا: من نصير إنسانًا في عالم صار البقاء فيه امتيازًا محظوظًا لا حقًا مشروعًا؟ ومن يصنع اللعبة الحقيقية: الأثرياء الذين يديرونها… أم نحن الذين نقبل قواعدها ونُصفّق للفائز؟ ولأن الكمال مقصد لا يدرك فلقد قال العمل الكثير… لكنه لم يقل كل شيء. ولعلّ هذا هو أجمل ما فيه.

منير بنرقي فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

منير بنرقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *