في عالمٍ يتسارع فيه الإيقاع ويتداخل فيه التقنيّ بالمادّيّ، بينما يُهيمن منطق الإنتاج والاستهلاك على مناحي الحياة كافة، ينبثق سؤالٌ وجوديٌّ حارق، طالما أرق المفكّرين على مرّ العصور: هل نحتاج حقًّا إلى الفنّ؟ هل هو مجرّد زخرفةٍ جماليّةٍ نثري بها أوقات فراغنا، أم أنّه فعلٌ أنطولوجيٌّ جوهريٌّ يمنحنا سبلَ التواصل مع أعمق ما فينا ومع العالم من حولنا؟ ذلك التساؤل يدعونا إلى رحلةٍ أبعد من ظاهر الأشياء، إلى رحلة فلسفيّةٍ تستكشف قلب الإبداع الإنسانيّ.
منذ أن رسم الإنسان الأول على جدران الكهوف صيده وأحلامه ومخاوفه، كان يدرك – وإن على نحوٍ بدائيّ – أنّ الفنّ حاجةٌ أنطولوجيّة، لا تقلّ أهميّةً عن حاجاته الجسديّة. تلك الحاجة التي تكشف عن انفتاح الإنسان على ما يتجاوز واقعه المادّيّ الضيّق، وتمنحه أفقًا للسموّ، كما أشار مارتن هايدغر حين تحدّث عن الشعر والفنّ بوصفهما “انفتاحًا على الكينونة”. فهو لم ينظر إلى الفنّ كممارسة ترفيهيّة، بل كمكاشفةٍ فلسفيّة تضعنا أمام سؤال الكينونة، وتجعلنا نتذوّق أسرار الوجود ومفارقات الزمن.
أما أرسطو فقد رأى في التراجيديا أداةً تربويّةً تُهذّب المشاعر، إذ يُفضي المشاهد إلى تجربة التطهير (Catharsis) التي تعيد ترتيب وجدانه. وفي ذلك إشارةٌ إلى قدرة المسرح – ذلك الفنّ الذي يجمع الكلمة والحركة والموسيقى والإضاءة – على صياغة وعيٍ أخلاقيّ وجماليّ ينعكس على سلوكنا ومجتمعاتنا. ولا تقلّ الموسيقى أهميّةً؛ فقد رأى شوبنهاور أنّها أقرب الفنون إلى إرادة العالم، تتخطّى الصور والكلمات وتغوص مباشرةً إلى قلب الروح، فتربطنا بعمق الكون.
أمّا الأدب، من الشعر والرواية إلى القصة والحكاية، فهو مغامرةٌ للذهن تُحرّرنا من سطوة المحدود، وتضعنا أمام شخصيّاتٍ وأحداثٍ نتأمّل من خلالها حياتنا نحن. يقول بورخيس إنّ الكتابة شكلٌ من أشكال الخلود، وإنّ القارئ حين يُبحر بين السطور فهو يمنح نفسَه أكثر من عمرٍ واحد وأكثر من تجربةٍ واحدة. هكذا يكون الأدب تمرينًا على الإنسانيّة، ومرآةً متعدّدة الطبقات تعكس أزماتنا وأفراحنا وأحلامنا.
أما الفنون البصريّة من رسمٍ ونحتٍ وتصويرٍ فوتوغرافيٍّ وسينمائيّ، فهي دعوةٌ إلى الملاحظة المتأنّية، إلى شحذ العين والعقل معًا. فاللوحة الزيتية لن ترحل من أمامنا ما لم نمنحها وقتًا وصمتًا وتفكيرًا، وهنا تكمن قوّة الفنّ البصريّ: أنّه يُعطينا حرّيّة المعاينة والتأمّل، بل ويدفعنا إلى صقل حواسّنا، كما ذهب موريس ميرلو-بونتي حين تحدّث عن أنّ الرؤية الحسيّة ذاتها فعلٌ فلسفيّ. وكذلك حال العمارة والتصميم الداخليّ اللذَيْن يمنحاننا فضاءاتٍ تتيح لنا التأمّل والتفاعل والانتماء، مؤسّسةً لعلاقةٍ جماليّةٍ بيننا وبين الأماكن التي نسكنها.
وعندما نتأمّل أثر الموسيقى والرقص، نجد أنّها تتجاوز الحواجز اللغويّة والثقافيّة، موفّرةً لحظة وجدانيّة من التوحّد الجمعيّ بين مختلف الشعوب. إنّها لغاتٌ كونيّة تُذكّرنا بأنّ الإنسان مهما اختلفت ألوانه وألسنته، فإنّ قلبه ينبض على الإيقاع ذاته، ويتأثّر بالنغم ذاته، فتجسّد الموسيقى والرقص سعي الإنسان الأبديّ إلى الجمال وإلى الحقيقة، كما يقول نيتشه الذي اعتبر أنّ الفنّ يمنعنا من السقوط في هاوية العدم، إذ إنّه يمنحنا القوّة على تقبّل الحياة رغم عبثيّتها.
ولعلّنا نتساءل: أيّ تأثير عصبيّ ونفسيّ يُحدثه الفنّ على الإنسان؟ تظهر أبحاث علم الأعصاب أنّ التفاعل مع الفنّ – سواء بالاستماع إلى الموسيقى، أو قراءة قصيدة، أو حتى تأمّل لوحة – يُنشّط مناطق الدماغ المسؤولة عن المشاعر والإبداع والتفكير الناقد. إنّ الإبداع لا يُمتّعنا فحسب، بل يزيد من مرونتنا العصبيّة، ويطوّر من قدرتنا على التصوّر وحلّ المشكلات، وبهذا يكون الفنّ مكوّنًا أصيلًا من مكوّنات الإبداع الإنسانيّ القادر على صقل عقلنا وتهذيب وجداننا.
كلّ هذه المساحات الإبداعيّة تتقاطع لتشكّل منظومةً من الخبرات الجماليّة والفكريّة، منظومةً تكوّن حضارتنا وتمنحنا قيمةً جوهريّة تتجاوز حاجاتنا النفعيّة العابرة. ذلك أنّ الفنّ – بكلّ أشكاله وأدواته وتجلّياته – يجعلنا نعيد اكتشاف ذاتنا، ونُدرك أنّ الحياة لا تُختزل في أرقام وأهداف ماديّة، بل تتّسع للمعنى، والحلم، والتأمّل، والحريّة.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا أمامنا: إذا كان الفنّ هو ذلك الخيط الخفيّ الذي يربطنا بأعماقنا وبالآخرين وبالوجود كلّه، فما الذي يمكن أن نحقّقه إذا أعدنا رسم خارطة أولويّاتنا لنمنح الفنّ المساحة التي يستحقّها؟ أليس من الجدير أن نعيد صياغة حياتنا على نحوٍ يتيح لنا أن نعيش جمال الفكر والإبداع، كي نرتقي بروحنا ومجتمعاتنا إلى مستوى أكثر نضجًا وإنسانيّة؟ ذلك سؤالٌ لا يُجيب عليه إلّا من يمتلك شغف الإصغاء، وأفق الرؤية، وشجاعة الإبداع للبحث عن هل يجمعنا الفن أم يفرقنا؟
منير بنرقي فنان تشكيلي وباحث في الجماليات.