الرئيسيةأخباراللاوعي الموجَّه: كيف يتحوّل الريلز إلى أداة لبرمجة العقول؟

اللاوعي الموجَّه: كيف يتحوّل الريلز إلى أداة لبرمجة العقول؟

منير بنرقي فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

في عالم يزداد فيه الإيقاع تسارعًا، لم تعد المنصات الاجتماعية بجميع تطبيقاتها مجرّد فضاءات للترفيه العابر، بل تحوّلت إلى أدوات دقيقة لإعادة تشكيل السلوك الإنساني والوعي الجمعي، بطريقة ناعمة يكاد المستهلك لا يحس بتأثيرها اللحظي. ويحدث هذا تحديدًا عبر خاصية الفيديوهات القصيرة أو ما يُعرف بـ”الريلز”، التي تغزو شاشات الهواتف الذكية لدى فئات واسعة من الشباب المغربي.
فما الذي يحدث لنا حقًا ونحن “نقلب” هذه الفيديوهات واحدًا تلو الآخر؟ وهل نحن المتحكمون في التصفح أم أن هناك من يبرمجنا دون أن نشعر؟ في هذا التحقيق، نستعرض وجهات نظر علمية ونفسية وفلسفية، ونُقارب خصوصية السياق المغربي الرقمي والاجتماعي.

أولًا: الدماغ في قبضة “الدوبامين”

حسب علماء الأعصاب، فإن كل مشاهدة لفيديو مثير، مضحك، صادم أو مشحون بصريًا، تحفّز نظام المكافأة في الدماغ، الذي يفرز مادة “الدوبامين”، المسؤولة عن الشعور باللذة. هذا النظام لا يُشبع بسهولة، بل يصبح كآلة تبحث عن “الجرعة التالية”. الأمر يشبه تجربة المقامر في كازينو، حيث كل ضغطة على الشاشة قد تحمل مفاجأة.
النتيجة؟ نوع من “الإدمان السلوكي”، يجعل التمرير اللانهائي (Infinite Scroll) أكثر فاعلية من أي دواء أو مادة مخدّرة، لأنه يعمل على نفس مسارات التحفيز في الدماغ.

ثانيًا: التنويم الرقمي.. أو السقوط في اللاوعي الموجّه

بعد دقائق من التصفح المتواصل، يدخل الإنسان ما يسميه علماء النفس بـ”حالة الانفصال الواعي”، حيث تتراجع قدرته على تحليل المحتوى أو نقده. يرى أفلاطون في الجمهورية أن الإنسان عندما يتخلى عن قدرته على التمييز، يصبح قابلاً لأي تأثير خارجي. وهذا بالضبط ما يحدث في زمن الريلز: يُعلّق الوعي النقدي، ويُفتح المجال أمام الغرائز والعواطف غير المضبوطة.
المحتوى المتكرر، والأصوات العالية، والمشاهد السريعة، تخلق حالة تنميل حسي تجعل المستخدم مستسلماً، وربما “مُعاد برمجته” دون وعي.

ثالثًا: من الترفيه إلى التوجيه السلوكي

الخطر لا يكمن في الفيديوهات القصيرة ذاتها، بل في الخوارزميات الذكية التي تقف خلفها. هذه الخوارزميات لا تعرض للمستخدم ما هو عشوائي، بل ما يزيد من احتمالية بقائه على الشاشة. تدريجيًا، يدخل الفرد ما يُعرف بـ”فقاعة التصفية” (Filter Bubble)، حيث لا يرى إلا ما يوافق سلوكاته السابقة.
في السياق المغربي، نجد فئات واسعة من الشباب، خاصة في الهوامش والضواحي، تنزلق في دوامة من المحتوى الجنسي أو الاستهلاكي أو التافه، ويُعاد تشكيل نظرتهم للحياة والقيم والطموح دون الحاجة لأي خطاب مباشر.
الفيلسوف الفرنسي غي ديبور كان قد نبه إلى خطورة “مجتمع الفرجة”، حيث تتحوّل الحياة إلى سلسلة من المشاهد الاستعراضية التي تحجب الواقع وتخلق واقعًا بديلًا.

رابعًا: التأثيرات النفسية والاجتماعية في السياق المحلي

تشير دراسات ميدانية حديثة أجريت في الجامعات المغربية إلى تفشي مظاهر من:
• تشتت الانتباه: صعوبة التركيز على المحاضرات أو المهام المعرفية.
• الإدمان الرقمي: استخدام الهاتف لعدة ساعات متواصلة دون وعي.
• اضطراب الهوية: تقليد المؤثرين في اللباس، اللغة، السلوك، دون نقد.
• التقوقع الاجتماعي: شعور الفرد بالارتباط الرقمي مقابل عزلة واقعية.
الباحث المغربي عبد الكبير الخطيبي تحدث عن “الازدواج الوجودي”، حيث ينفصل الإنسان عن ذاته الثقافية الحقيقية، ويتماهى مع صورة مفروضة عليه من الخارج، وهو ما ينطبق بدقة على جيل “الريلز” الذي يعيش بين صورتين: واقعه المحلي، وخياله الرقمي.

خامسًا: هل نحن أمام مصادفة؟ أم برمجة ممنهجة؟

من الخطأ الظن بأن كل ما يحدث على هذه المنصات عفوي أو بريء. المنصات تحقق أرباحًا خيالية من وراء جمع البيانات، وتحليل السلوك، وتوجيه الإعلانات، وصناعة محتوى يُطوّع الأفراد ثقافيًا وسلوكيًا.
المفكر الألماني يورغن هابرماس يرى أن الرأسمالية الحديثة لا تكتفي بالاقتصاد، بل تدخل “الحيّز الرمزي” لتطويع المعنى ذاته. وهنا تصبح أدوات الترفيه أدوات هيمنة ناعمة، حيث تُبرمج أذواق الأفراد، وتُعاد صياغة أولوياتهم، من دون أن يشعروا.

سادسًا: مقاومة البرمجة تبدأ من الوعي

في ظل هذا المشهد، تبدو الحاجة ماسّة في المغرب، كما في باقي أنحاء العالم، إلى “وعي رقمي جديد”، يقوم على:
• التحكم في الوقت الرقمي: عبر مؤقتات ومراقبة ذاتية جادة.
• تنويع مصادر المعرفة: قراءة الكتب، الاستماع إلى بودكاستات تحليلية، والعودة إلى الفنون البصرية الحقيقية.
• تحرير الحواس: تقليل التعرض للمحتوى السطحي، وإعادة تدريب الذوق الجمالي.
• نقد الخوارزميات: عبر طرح أسئلة حول لماذا نرى ما نراه؟ ومن يربح من ورائه؟
نحو يقظة رقمية مغربية
نحن لا نتحدث عن مؤامرة، بل عن منظومة تقنية وسوقية معقدة، تجيد استغلال نقاط الضعف البشرية. وإذا لم نبادر بتكوين مناعة معرفية وثقافية، فقد نجد أنفسنا نعيش في “واقع افتراضي دائم” يُحدّد لنا من نكون، وماذا نحب، وماذا نعتقد.
ربما حان الوقت، كما قال ميشيل فوكو، لكي نعيد النظر في “علاقات القوة” التي تربطنا بما نظنه مجرد أدوات ترفيهية.
فالمستقبل لا يُصنع فقط بالتكنولوجيا، بل بوعي المستخدم. وهذا الوعي يبدأ من سؤال بسيط:
هل أنا من يتحكم في الشاشة؟ أم أن الشاشة هي من تتحكم فيّ؟

منير بنرقيفنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *