الرئيسيةإبداعقصة قصيرة : عودة غير سوية

قصة قصيرة : عودة غير سوية

لم تكن يومئذ مخيلة خالد تحتفظ له بأي صورة ذهنية عن والده، ما عدا تلك الصور الشخصية له باللونين الأبيض والأسود القديمة، التي كانت تحتفظ بها والدته في صندوق خشبي كبير، وكانت بين فترة وأخرى تفرج عنها ليتفرجوا، هو وأخته، عليها، ولم يكن أيضا يعلم عن والده شيئا، عدا أنه مغترب لمدة طويلة في بلاد اسمها ألمانية.

ولما تغرب الأب كان خالد يومئذ طفلا رضيعا، ولطالما أحس بسعادة غامرة حين كان يصغي إلى أحاديث والدته بشغف وسرور وهي تحدثه عن أبيه، و كثيرا ما كانت تقول له :

–      “أنه سيأتي يوم يعود فيه أبوك إلينا من غربته محملا بالهدايا لك، وللأقرباء ككل”، حتى أصبح الولد مع مرور الوقت مدموغا بهذا الأمر.

ومن وقته وهو ينتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم الموعود، الذي سيرى فيه حقائب أبيه تفتح أمامه وفيها كل رغباته المرجوة التي كانت تغذي مخيلته الحالمة.

وذات صباح أتته أمه لإيقاظه للذهاب للمدرسة، فأخبرته أن أباه، الذي كان لايمل من السؤال عليه من قبل، قد عاد من غربته، ليلا.  يا لها من مفاجأة سارة ! بالنسبة له.

ولذلك شاهده عدد من زملائه في ذلك الصباح السعيد، يخرج من مدرسته في موعد الإنصراف أولا، يذرع الطريق إلى بيته بمفرده، متحرق شوقا ولهفة إلى لقاء والده، ولتلقي ما تهواها نفسه من هدايا رفيعة التي كان يحلم بها ليلا و نهارا !

وما أن وطأت قدماه أرض البيت بعد لأي، وأصبح في غرفته الصغيرة، وهو في غاية زهوته وفرحته الكبرى، حتى أنزل محفظته المدرسية عن ظهره و أخذ بكيفية سريعة في التخفيف من معطفه الصوفي الذي كان يثقل حركاته، ويتحدث مع أخته التي يصغرها حول أمر في آن، و كانت معه تحت السقف نفسه، ثم إنهما تجادلا ثم تعالت أصوات أخذ ورد من كلاهما من شدة الجدال، كلام بكلام، وهما يحدثان ضجة، ما بعدها ضجة، واستطالا فيها.

غير بعيدة عن هذه الضجة الحاصلة عنده في غرفته، كانت أمه هناك داخل مطبخها تهيأ طعام الفطور، فأثارها ذلك، وفي كل مرة كانت تنادي عليهما بصوت خافت وهي متجهة بالكلام إليه بالأخص، ليمسك لسانه لأن صوته كان له الغلبة وهي تقول له:

–      خالد ! خالد ! الزم الصمت يا خالد !

 فلا زالت تقول له مرارا، وهو لايصغي إليها، فقالت له عند ذلك:

–      هل تسمعني يا خالد ؟

ولما لم يجبها أحد، ثار غضبها، فبدا لها أن تستطلع الأمر؛ تترك أشغالها وتذهب إلى النافذة التي تقابل غرفته، وهما على ما هما عليه من الجلبة و الصياح المتعالي، ثم أعادت عليه، وغيظها بلغ مداه:

–      “يا هذا أما يجب أن تسكت وتدع أباك ينام بدون إزعاج !؟”

 فسمع، خالد و أخته، صوتها بذلك، فالتفتا إليها، ففترت الضجة على كل حال، ثم أرسلتهما معا في الحال قائلة:

–      لم يعد هناك خبز، يجب أن تذهبا إلى البقالة للحصول على بعضها.

ثم تعود فتقول:

–      اسرعا ! عليكما أن تعودا في أقرب وقت ممكن.

 فمضى الإثنان لذلك سريعا، و في طريق عودتهما من محل البقالة، والسماء تظل الأرض بالغيم والسحاب، وتمطر قطرات المطر.

رأى خالد أحد رفاقه يلعب ويتسلى، في وطأ من الأرض جرداء، يرتادها أبناء الحي للعب والتسالي. واذ هما منه قريب، فجأة، تملكت خالد رغبة جامحة في أن يتعرج عليه، معتزما أن يتقاسم معه سعادته وسروره التي تغمره، فسار إليه ليزف له الخبر، قبل أن يمر إلى حال سبيله، كي تكتمل فرحته وابتهاجه.

 لكن شقيقته لا تريد ذلك، معتقدة أن في ذلك إفشاء لأمر والده بين الناس؛ لذا لم تسمح لخالد بالمرور إلى رفيقه، فعاكست رغبته هذه وخالفتها، بشدة وصلابة، وكأنها أحست بالخزي والعار.

و خشية أن يفعل ذلك؛ اعترضته بسرعة وصدته وحيلت بينه وبين الوصول إليه، وأمرته أن يكتم الخبر وعدم إفشائه. شُدِه الولد، ولم يستسغ هذا الأمر، ونظر إليها نظرة ملؤها الإندهاش، وأبى إلا أن يسعى إليه بشدة؛ فجن جنونه، و تأرجحت قدميه خلفا و قدما، محاولا أن يقاوم بحركات معاكسة وأن يسحب نفسه للخلف ليتفلت من بين يديها ولم يقدر، وظلت قابضة عليه وهو يصرخ في وجهها ويردد:

–      “لا، دعني أذهب ! دعني أذهب إليه ! “

كان الحزن باد على ملامح وجهه، وفي نبرة صوته. تلعثم، وهو يستفهمها، ليفهم لماذا ؟! ولكن بدون جدوى.

وما أن أحبطت له مسعاه وأعاقته عن كرّه وفرّه، حتى نأت به جانبا، وهي ممسكة بيده، لبد خالد متجمدا أمامها، وهمست له في ضيق بما يوحي على أن في الأمر مضرة ! دون أن يعرف لذلك سببا ؟!؟

أشاح بوجهه عنها و واصل السير دونها بصمت ووجه شاحب، وهي في أثره، إلى أن وصلا إلى البيت؛ مضت هي بالأشياء التي كانت تحملها للإلتحاق بأمها في غرفة المطبخ، وأما هو، فتوجه صوب باب غرفة أبيه، وكان الباب مفتوحا أمامه و النهار يضفي على المدخل نور شاحب.

وعندما دخل عليه استقبل ظلمة خفيفة تغشى عمق المكان، و لاح له شبح والده جالسا على حصيرة، لم يكاد يستطيع معها للحظة رؤيته بوضوح كامل، ولكن سرعان ما زالت عن عينيه تلك الغبشة وتلاشت واتضحت له الرؤية على نحو أفضل، فتبين له أباه بهندام بسيط جدا، ولم يكن يبدو سعيدا على الإطلاق، كان مستغرقا في حقيبة تغربه منكبا عليها يقلب بحركات عشوائية في محتوياتها، ولما استشعر الأب دخوله حرك رأسه باتجاهه، ولدى مرآه، عين بعين، يتقدم نحوه وهو يتبسم، تظاهر الأب بأنه متفاجئ، فهش له، ورحب به، فوثب إليه وعانقه وضمه إلى صدره في ود أبوي.

أثنى خالد ركبتيه إلى جوار أبيه، أحدهما قريب من الآخر، خجلا، لإنه لم يأنس بأبيه بعد، وعينه على تلك الحقيبة التي كان يعلق عليها حلمه و آماله، وينتظر الحصول على شيء منها، فراح يجول بنظره فيها بقصد معرفة محتوياتها القليلة التي كانت تسودها الفوضى وعدم الترتيب على نحو غريب، و ما إذا كانت هناك هدية جميلة تنتظره، ولكن ما توقعه لم يحدث.

فعند ذلك، صعق الولد، وبدى ضائعا من أول وهلة، عاجزا عن ادراك ما يجري حوله، فما رأى إلا بعض الأثواب المنكمشة والألبسة العادية مطوية بعضها على بعض، لاتنفعه ولا تضره، وهو الذي في مخيلته حقائب محمولة بالهدايا تتصدرها دراجة هوائية التي كان يحلم بها دوما.

فصار يقول في نفسه:

–      “أواه ! ألا يوجد سوى هذه الأشياء التافهة !??

ثم يضيف باستغراب ودهشة:

–      ما ذا الألبسة المتواضعة!! ؟ و ذا الأساور والأحزمة المزينة بجلد ثعبان !؟

هذا فقط ما يراه في تلك الحقيبة التي إغتر بها، فلا شيء أكثر من ذلك، وفي ظل هذه الحقيقة المريرة وهذا الغموض الذي يعتريه، وقعت تحت يدي والده بطاقة بريدية، وأمده إياها وقال له.

–      خذ، هذه لك !

أخذها منه خالد ببرود تام، ما أتعسه ! ونظر إليها فبدت له فيها صورة سيارة بلون أحمر، فلم يولي لها أي إهتمام، وكانت هذه العطية هديته الوحيدة التي حظي بها المسكين من كل تلك الأغراض الزهيدة المبعثرة في بطن تلك الحقيبة الشبه فارغة مع سعة حجمها.

و لما يتأكد الولد أن ليس له من جليسه شيء آخر سوى تلك البطاقة البريدية التي تفضل بها عليه، ينهض ويخرج من عنده بشعور محصن اعتراه، وهو يكاد يثني تلك العطية بعصبية في قبضته الصغيرة، فاختلى بنفسه في غرفته وسد خلفه الباب؛ لاصوت ولا حس يسمع له، كأنه غير موجود، لايريد أن يتكلم مع أي كان، فأتاه الضيم والضجر في هذه الوحدة، وهو كأنه يتيم في العيد !

وكان قلبه، طيلة اليوم، يتقلب بين حزن وسعادة في الآن نفسه؛ سعيدا حينا بوجود أبيه معهم في البيت، و حينا حزينا بعدم تحقيق رغباته ومتمنياته التي كان يتمنى أن تتحقق مع هذه العودة الغير السوية.

فلما جاء الليل نام المغتر في غرفته، معذبا؛ بالكاد كان يغفو قليلا من وقت لآخر، ثم يليه استيقاظ مفاجئ و يجد نفسه يحملق من جديد في العتمة الحالكة، كان الأرق يقلبه كيف يشاء؛ يتقلب كل حين على جنبيه، و ظهرا لبطن أحيانا، وبطنا لظهر أحيانا أخرى، أو منكبا على وجهه في  كثير من الأحيان، يهوم للنوم، لعله ينام نومة عميقة، فلم يؤثر ذلك كله.

و بينما هو كذلك، إذ شعر بنفسه وهو ماش في طريق، لا أحد فيها إلا هو.

فاتفق وجوده في هذا المكان الذي ألفى نفسه فيه، وظهور لمعان ضوء مبهم يصدر من مكان بعيد، يتراءى له كأنه حدقة حيوان شرس مومضة في ظلمة ليل دامس، ثم لم يلبث الضوء الامع هذا، يصير أمام عينيه شيئا فشيئا أشد إضاءة وتألقا، يضرب في علاء مثل قرن الشمس ارتفع وعلا، ثم زاد الضياء حتى كاد يضيئ ما حوله، بل شعاعا معاكسا ساطعا في عينيه، قادم إليه قدوما جنونيا وهو متجمد في مكانه شاخص إليه، وما لبث شعاع الضوء القوي هذا، أن إمتد به جنونه إليه واجتاحه بعنف كثور هائج، وإذا به ينقذف على وجهه، مغشيا عليه.

ثم أفاق إثر ذلك من منامه و ما أن أخذ بنفسه وقام مرتعبا، وهو يحاول أن يسترد أنفاسه المختنقة وكأنه بعث من موته، حتى جعل يتلمس بيده جوانب من جسمه، ليتأكد من سلامة أطرافه.

ولما كشف الفزع عن قلبه، من هذا الأمر الحادث، بدأ يشعر الولد بشيء لايُحتمل يعيقه عن الوقوف والحركة، شيء شبيه بالشلل يسري في يده و رجله؛ ألف نفسه لايكاد يحس بالسيطر عليهما إلا قليلا، و لعابه يسيل من زاوية فمه على خده الأسيل، فجعل يمسح فمه بطرف كمه كأنه يمسح جرح غائر، وهو في حالة لاتطاق من الإنقباض و ضيق نفس.

فانشغل بتنشيط ساقه مع الذراع اللذان أثقلهما الشلل برفق وفي حركات متتالية، لعله يسترد قوتهما وتعودا إلى حالتهما الطبيعية.

وما إن شعر بتحسنهما يتزايد حتى نهض من مكانه مترهلا، يجر رجله في ثقل متوكأ في مشيته على الجدار لمساعدة نفسه كي لا يسقط، وبدأ يتحرك قليلا في الحجرة، جيئة وذهابا، فبينما هو كذلك، و ما كاد يسترد نشاطه الحركي وتستكمل قوته، إذ عضلة رقبته هي الأخرى ليست أحسن حالا من الأطراف السابقة، فجعل يحركها هي كذلك حركات لينة، من لحظة إلى أخرى، في محاولة للتخفيف من أوجاعها الحادة.

عبد الكريم بن شيكار / المغرب  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *