المعرفة بالأدب يهددها باستمرار خطران متعارضان: إما أن نبني نظرية منسجمة لكنها عقيمة؛ وإما أن نكتفي بوصف “وقائع”، متصورين أن كل قطعة حجر صغيرة ستساهم في بناء صرح المعرفة الكبير. كذلك الشأن بالنسبة للأجناس الأدبية مثلا. فإما أن نصف الأجناس “كما وجدت” ، وبعبارة أدق، كما كرسها التقليد النقدي ( الميتا أدبي): إننا نقر بـ “وجود” شعر المدح أو الرثاء لأننا نجد هذه التسميات حاضرة في الخطاب النقدي لمرحلة معينة. لكننا في هذه الحالة سنتخلى عن أي أمل في بناء منظومة للأجناس. وإما أن ننطلق من الخصائص الأساسية للواقعة الأدبية وأن نعلن أن تركيباتها المختلفة هي التي تخلق الأجناس. في هذه الحالة إما أن نبقى ضمن حدود تعميم غير مقنع، وأن نكتفي مثلا بتقسيم الآجناس إلى غنائي وملحمي ومسرحي؛ وإما أن نجد أنفسنا عاجزين عن تفسير انعدام جنس ذي بنية إيقاعية شبيهة ببنية قصيدة الرثاء، مع مضمون مرح. والحال أن الهدف من نظرية للأجناس هو أن تفسر الأنساق الموجودة: وأن تقول لماذا توجد أجناس دون أخرى؟ إن المسافة بين النظرية والوصف لا يمكن اختزالها.
وليس الأمر مختلفا بالنسبة لنظرية المحكي. حتى وقت معين، لم نتوفر، بخصوص نظام المحكي، سوى على ملاحظات دقيقة أحيانا ، غير منظمة دائما. بعد ذلك جاء بروب: وانطلاقا من مئة حكاية خرافية روسية، وضع بنية للمحكي ( هكذا على الأٌقل فهمت محاولته في أغلب الأحيان). وفي الأعمال التي جاءت بعد هذه المحاولة، بذلت جهود كبيرة من أجل تطوير الانسجام الداخلي لفرضيته؛ وبدرجة أقل، من أجل ملء الفراغ بين عمومية الفرضية وتنوع المحكيات الخاصة. وجاء اليوم الذي أصبحت فيه المهمة الأكثر إلحاحا لتحليل المحكيات متموضعة بين هذين القطبين: متموضعة في النظرية ، في صياغة مقولات “وسيطة” تصف، ليس العام ولكن النوعي، ثم لا النوعي، ولكن الخاص.
وسوف أقترح فيما يلي أن أدرج ضمن تحليل المحكي مقولة، هي مقولة التحول السردي، وهي مقولة تحتل بالضبط وضعية “وسيطة”. سأنجز ذلك على ثلاث مراحل. في مرحلة أولى ، ومن خلال قراءة تحليلات موجودة من قبل، سأحاول أن أبين في نفس الوقت غياب وضرورة هذه المقولة . وفي مرحلة ثانية، سأصف ، وفق نظام عقلاني، كيفية اشتغالها وتنويعاتها. وفي الأخير سأعرض بسرعة ومن خلال بعض الأمثلة، الاستخدامات الممكنة لمفهوم التحول السردي.
أقدم فقط بعض الملاحظات حول الإطار الأكثر عمومية الذي تندرج فيه هذه الدراسة. سأحتفظ بالتمييز بين المظهر اللفظي، التركيبي والدلالي للنص؛ والتحولات التي أتناولها هنا تنتمي للمظهر التركيبي. وسوف أميز من جهة أخرى بين مستويات التحليل التالية: المحمول ( أو الحافز أو الوظيفة)؛ الحمل؛ المتوالية؛ النص. وإن دراسة كل مستوى من هذه المستويات لا يمكن أن تنجز إلا في علاقة مع المستوى الأعلى منه مباشرة هرميا: دراسة المحمولات تنجز داخل إطار الحمول، ودراسة الحمول تنجز ضمن إطار المتواليات، الخ. هذا التحديد الصارم يهم التحليل لا موضوع التحليل؛ بل إنه يمكن للنص الأدبي أن يتحدد من خلال استحالة الاحتفاظ باستقلالية المستويات. التحليل الذي أمامنا الآن يهم المحكي، لا المحكي الأدبي.
القراءة
كان توماشفسكي أول من حاول وضع تصنيف للمحمولات السردية. لقد بين ضرورة ” تصنيف الحوافز حسب الفعل الموضوعي الذي تصفه” ، واقترح الثنائية التالية: ” الحوافز التي تغير الوضعية تسمى الحوافز الدينامية، وتلك التي لا تغيرها، تسمى الحوافز الثابتة”. ونفس الثنائية استثمرها غريماس حيث يقول : “يجب أن نقبل بتقسيم المحمولات، باقتراح مقولة تصنيفية جديدة، تلك التي تقيم تعارضا بين “الثابت” و”الدينامي”. حسب ما إذا كان المحمول يتضمن المقوم الدال على “الثبات” أو المقوم الدال على “الدينامية”، فإن المقومات المحمولية قادرة على تقديم معلومات تتعلق إما بالحالات، أو بالأفعال التي تنجزها العوامل“.
أشير هنا إلى تعارضين آخرين مماثلين، ولكنهما ليسا مناسبين بنفس الدرجة. لقد ميز بروب ( سيرا على خطى بيديي Bédier ) بين الحوافز القارة والحوافز المتغيرة ، وسمى الأولى وظائف ، وسمى الثانية صفات . إن تسميات ( وكذا صفات) الشخصيات تتغير ، بينما لا تتغير أفعالها ووظائفها”. لكن ثبات أو تغير محمول معين لا يمكن أن يتحقق إلا داخل جنس ما ( وهو هنا الحكاية الخرافية الروسية)؛ ويتعلق الأمر هنا بتمييز نوعي وليس عام ( حملي هنا). أما التمييز الذي وضعه بارث بين الوظيفة والمشير فإنه ينتمي لمستوى المتوالية، وبالتالي يهم الحمول لا الصفات ( “وهما قسمان كبيران من الوظائف، بعضها توزيعي، والآخر إدماجي”).
المقولة الوحيدة التي نتوفر عليها لوصف تنوع المحمولات بالتالي هي مقولة الثبات ـ الدينامية، والتي تستعيد وتبرز التعارض النحوي بين النعت والفعل. قد نبحث عن تمييزات أخرى داخل نفس هذا المستوى ، ولكن ذلك سيكون دون جدوى: يبدو أن كل ما يمكن تأكيده بالنسبة للمحمولات، على المستوى التركيبي، يستنفد داخل هذه السمة: “ثبات ـ دينامية” ، “نعت ـ فعل”.
أما إن وجهنا اهتمامنا ليس إلى التأكيدات النظرية، ولكن إلى التحليلات النصية، سنلاحظ أنه من الممكن وضع تصنيف دقيق للمحمولات، والأكثر من ذلك، فإن هذه التصنيف متضمن في هذه التحليلات ( دون أن يتم التعبير عنه بشكل صريح). سأبين هذه الفكرة من خلال قراءة جزء من التحليل الذي طبقه بروب على الحكاية الخرافية الروسية.
إليكم ملخص للوظائف السردية الأولى التي حللها بروب. ” 1 ـ يتغيب أحد أفراد العائلة عن البيت. 2 ـ يتعرض البطل لمنع معين. 3 ـ يتم خرق هذا المنع. 4 ـ يحاول المعتدي أن يحصل على المعلومات. 5 ـ يحصل المعتدي على معلومات متعلقة بضحيته. 6 ـ يحاول المعتدي أن يغالط الضحية ليستحوذ عليها أو على ممتلكاتها. 7 ـ تسقط الضحية في شباكه، ومن ثمة تساعد خصمها لا إراديا. 8 ـ يلحق المعتدي أذى بأحد أفراد العائلة أو يسبب نقصا معينا. 9 ـ يتم الإعلان عن الأذى أو النقص، يتم اللجوء إلى البطل عن طريق طلب أو أمر، فيتم إرساله أو السماح له بالذهاب. 10 ـ يقبل البطل بالتدخل أو يقرر ذلك. 11 ـ يغادر البطل المنزل” الخ. ونعرف أن العدد الإجمالي لهذه الوظائف هو 31، وحسب بروب، فإن كل وظيفة هي غير قابلة للتجزيء أو للمقارنة مع الوظائف الأخرى.
يكفي مع ذلك أن نقارن بين الحمول المذكورة مثنى مثنى لكي ندرك أن المحمولات تمتلك غالبا سمات مشتركة ومتعارضة؛ وأنه من الممكن إذن أن نبرز المقولات المحايثة التي تحدد التركيبة التي أنتجت وظائف بروب. وهكذا سنرجع لبروب المأخذ الذي وجهه هو نفسه لسلفه فيزلوفسكي : أي رفضه الدفع بالتحليل إلى أصغر الوحدات ( في انتظار أن يرجع نفس المأخذ إلينا أيضا). هذا الشرط ليس جديدا؛ فقد سبق أن كتب ليفي ستراوس ما يلي: ” ليس مستبعدا أن ندفع بهذا الاختزال إلى أبعد من ذلك ، وكل جزء ، مأخوذا على حدة، يصبح قابلا للتحليل إلى عدد قليل من الوظائف المتكررة ، إلى حد أن مجموعة من الوظائف التي ميزها بروب يمكن أن تشكل في الواقع مجموعة من التحولات المتعلقة بوظيفة واحدة محددة”. سوف ألتزم بهذا الاقتراح في هذه الدراسة؛ ولكن سنلاحظ أن مفهوم التحول سيأخذ هنا معنى مخالفا.
إن الجمع بين 1 و2 يبين لنا مسبقا اختلافا أول، 1 يصف فعلا بسيطا حدث بالفعل، بينما 2 يستحضر حدثين متزامنين. فإذا قال أحدهم في الحكاية: ” لا تقل شيئا لبابا ياغا، إذا جاءت” ( مثال اقترحه بروب)، فإن هناك من جهة فعل ممكن ولكن غير متحقق لإخبار بابا ياغا؛ ومن جهة أخرى، هناك فعل متحقق هو فعل المنع. وبعبارة أخرى، فإن فعل الإخبار ( أو القول) ليس مقدما هنا بصيغة تقريرية ولكن كإلزام سلبي.
وإذا قارنا بين 1 و 3 ، يظهر لنا اختلاف آخر. فغياب أحد أفراد الأٍسرة عن البيت ( الأب أو الأم ) أمر مختلف في طبيعته عن قيام أحد الأبناء بعدم الامتثال للمنع. الحدث الأول يصف حالة تدوم مدة غير محددة؛ بينما الحدث الثاني حدث آني. وبلغة توماشفسكي، فالأول حافز ثابت، والثاني حافز دينامي: أحدهما يمثل الوضعية، والثاني يغيرها.
وإذا قارنا الآن بين 4 و 5 ، سنلاحظ أن هناك إمكانية أخرى للدفع بالتحليل إلى مدى أبعد. في الحمل الأول، يحاول المعتدي أن يحصل على معلومات، في الحمل الثاني، يحصل على المعلومات. القاسم المشترك بين الحملين هو فعل التقصي؛ ولكن في الحالة الأولى يوصف الفعل كقصد، وفي الحالة الثانية يوصف كفعل متحقق.
وتمثل الوظيفتان 6 و 7 حالة مماثلة؛ ففي البداية هناك محاولة خداع، وفي ما بعد يتحقق الخداع. ولكن الوضعية هنا أكثر تعقيدا. ففي الوقت الذي ننتقل فيه من القصد إلى التحقيق، فإننا نتدرج من وجهة نظر المعتدي إلى وجهة نظر الضحية. إن حدثا واحدا يمكن تقديمه من وجهات نظر مختلفة: ” يقوم المعتدي بالخداع” أو “تسقط الضحية في الفخ”؛ ولكن الفعل يبقى هو نفسه.
الوظيفة 9 تسمح لنا بتمييز آخر. إن هذا الحمل لا يشير إلى حدث جديد، إلى كون البطل قد علم بوقوع هذا الحدث. أضف إلى ذلك أن الوظيفة 4 وصفت وضعية مماثلة : يحاول المعتدي أن يحصل على المعلومات ؛ ولكن تقصي المعلومات، الاطلاع، المعرفة، هو فعل من الدرجة الثانية، يستلزم فعلا آخر ( محمولا آخر) هو بالذات موضوع المعرفة.
وفي الوظيفة 10 نجد شكلا آخر سبقت الإشارة إليه. قبل مغادرة البيت، يقرر البطل مغادرة البيت . وهنا أيضا لا نستطيع أن نضع القرار على نفس المستوى مع فعل المغادرة، لآن أحدهما يقتضي الآخر. في الحالة الأولى يكون الفعل رغبة، أو ضرورة، أو نية ؛ وفي الحالة الثانية ، تصبح هذه الرغبة متحققة بالفعل. ويضيف بروب أيضا أن الأمر يتعلق “بالشروع في الاستجابة”؛ ولكن “الشروع” ليس فعلا كاملا مستقلا، وإنما هو مظهر افتتاحي لفعل آخر.
ليس ضروريا أن نستمر لتوضيح المبدأ الذي أدافع عنه. إننا نشعر مسبقا بإمكانية الدفع بالتحليل إلى نقطة أبعد في كل مرة. لنسجل مع ذلك أن هذا النقد يبرز مظاهر مختلفة للمحكي، ولن أركز إلا على مظهر واحد منها. ولن نتوقف بعد الآن عند غياب التمييز بين الحوافز الثابتة والحوافز الدينامية ( النعوت والأفعال). وقد ألح بريمون على مقولة أخرى أهملها بروب ( وكذا دوندس): يجب ألا نخلط بين فعلين مختلفين ومنظورين مختلفين حول نفس الفعل. إن المنظور الخاص بالمحكي غير قابل “للاختزال” ، فهو يشكل، على العكس من ذلك، إحدى الخصائص الأكثر أهمية. أو كما يقول بريمون : ” إن إمكانية وضرورة الانتقال هكذا، عن طريق تعديل في وجهات النظر، من منظور فاعل ما إلى منظور فاعل آخر، هما أمران أساسيان.. يقتضيان أن نلغي ، على مستوى التحليل الذي نحن بصدده ، إلغاء مفاهيم مثل “البطل” ،” الشرير” ، الخ ، منظورا إليها كشارات منحت للشخصيات بصفة دائمة. إن كل فاعل يمثل بطل نفسه الخاص. وشركاؤه في الحدث يتحددون من وجهة نظره كحلفاء، خصوم، الخ. وتنقلب هذه التحديدات حين ننتقل من منظور إلى آخر. أضف إلى ذلك “أن كل متوالية من الأحداث تقبل تبنينات مختلفة حسب ما إذا تم بناؤها على ضوء مصالح أحد المشاركين في الحدث”.
ولكنني سأحتفظ هنا بوجهة نظر أخرى. إن بروب يرفض أي تحليل استبدالي(1) للحكي. وقد صاغ هذا الرفض بشكل صريح: ” كان من الممكن أن نتوقع أن الوظيفة “أ” يمكن أن تقصي بعض الوظائف الأخرى المنتمية لحكايات أخرى. كان ممكنا أن نتوقع الحصول على عدة نقط مركزية، ولكن النقطة المركزية تبقى واحدة في كل الحكايات الخرافية”. وكذلك: ” إذا قرأنا بشكل متصل كل الوظائف، سنلاحظ أن كل وظيفة تتفرع عن الأخرى وفق حتمية منطقية وفنية. ونلاحظ بالفعل أن لا وظيفة تقصي وظيفة أخرى. إن كل الوظائف تنتمي لنفس النقطة المركزية، لا إلى نقط مركزية متعددة”.
صحيح أن بروب يجد نفسه ملزما بمناقضة مبدئه الخاص، لكن ورغم بعض الملاحظات الاستبدالية “المتوحشة”، فإن تحليله يبقى تراكبيا (2) بشكل أساسي. ذلك ما أدى إلى رد فعل غير مقبول بدوره في نظري، صادر عن بعض نقاد بروب ( ليفي ستراوس و غريماس) اللذين يرفضان أي ملاءمة للنظام التراكبي، للتسلسل، ويسجنون أنفسهم ضمن نزعة استبدالية مفرطة بدورها. ويكفي أن نذكر هنا جملة لليفي ستراوس: “إن التسلسل الكرونولوجي يتوارى خلف بنية مصفوفة ثابتة”، أو جملة لغريماس :” إن عملية الاختزال كما أنجزناها قد فرضت علينا تأويلا استبداليا و لا زمنيا للعلاقات بين الوظائف… هذا التأويل الاستبدالي، الشرط نفسه للقبض على دلالة المحكي في كليته…” الخ. وأرفض من جهتي أن أختار بين هذين المنظورين؛ سيكون من المؤسف أن نحرم تحليل المحكي من الفائدة المزدوجة التي يمكن أن يجنيها من الدراسات التراكبية لدى بروب والدراسات الاستبدالية لدى ليفي ستراوس.
في الحالة التي تهمنا هنا، ولتوضيح مقولة التحول، وهي أساسية بالنسبة للنحو السردي، علينا أن نحارب رفض بروب لكل منظور استبدالي. إن المحمولات التي نصادفها على طول السلسلة التراكبية متشابهة دون أن تكون متطابقة، وسيجني التحليل نتائج إيجابية إذا اهتم بالعلاقات التي تربط بينها.
وصف
سأسجل في البداية، بدافع الهاجس الاصطلاحي، أن كلمة “تحول” قد ظهرت عند بروب بمعنى التحول الدلالي، لا التحول التركيبي؛ وأننا نجدها عند ك. ليفي ستراوس وج. غريماس بمعنى مشابه لمعناها لدي، ولكن بمعنى أضيق كثيرا كما سنرى؛ وأننا نجدها أخيرا في النظرية اللسانية الراهنة حاملة معنى تقنيا، لا يطابق تماما معناها عندي.
سنقول إن حملين تربط بينهما علاقة تحول إذا كانا يتضمنان محمولا مشتركا . وهنا سنجد أنفسنا ملزمين بالتمييز بين نوعين من التحولات. لنسم النوع الأول تحولات بسيطة ( أو تحديدات): ويتعلق الأمر بتعديل ( أو إضافة) محدد يعين المحمول. يمكن أن نعتبر المحمولات الأساسية متسمة بمحدد فارغ. هذه الظاهرة تذكرنا باستخدام الأفعال الناقصة بمعناها العام في اللغة: ونقصد بذلك الحالة التي يصاحب فيها فعل ما الفعل الرئيسي، فيخصصه (“أصبح س يشتغل “). ويجب ألا ننسى مع ذلك أنني أتحدث من وجهة نظر نحو منطقي كوني، لا من وجهة نظر نحو لغة خاصة؛ ولن نتوقف هنا عند كون هذا المحدد، في اللغة الفرنسية مثلا ، يمكن أن يتخذ أشكالا لسانية متنوعة: أفعال ناقصة، ظروف الزمن والمكان، الروابط ، وغير ذلك من المفردات المعجمية.
النوع الثاني هو التحولات المركبة ( أو التفاعل) ، وتتسم بظهور محمول ثان يتصل بالمحمول الأول ولا يمكن أن يوجد بصورة مستقلة عنه. إذا كانت التحولات البسيطة لا تعرف إلا محمولا واحدا، وبالتالي لا تعرف إلا موضوعا واحدا، فإن وجود محمولين في التحولات المركبة يسمح بوجود موضوع أو موضوعين. “اعتقد س أنه قتل أمه” وكذا الحمل “اعتقد س أن ص قتل أمه”، كلاهما تحويل مركب للحمل “قتل س أمه”.
لنسجل هنا أن التفريع المذكور تفريع منطقي خالص، وليس تفريعا سيكولوجيا: سأقول إن “س قرر قتل أمه” هو تحويل لـ “قتل س أمه”، رغم أن العلاقة بينهما معكوسة. فـ “السيكولوجية” تتدخل هنا كموضوع للمعرفة، لا كأداة للعمل: إن التحولات المركبة تشير، كما نرى، إلى عمليات نفسية أو إلى العلاقة بين حدث وتمثيله.
من الواضح أن للتحول حدين. فمن جهة لا يوجد تحول بعد إذا كان تغيير المحدد غير قابل للإدراك بشكل واضح. ومن جهة أخرى لا يعود هناك من وجود للتحول إذا وجدنا أنفسنا أمام محمولين مستقلين بدل “تحويلين” لنفس المحمول. الحالة الأكثر قربا من المحمولات المحولة والتي يجب أن نميزها بدقة هي حالة الأفعال التي تمثل نتائج لبعضها البعض (علاقة التضمن، علاقة التحفيز، علاقة الاقتضاء). كذلك الشأن بالنسبة للحملين :”س يكره أمه” و “س قتل أمه” حيث لا يوجد أي محمول مشترك بينهما، والعلاقة بينهما ليست علاقة تحول. وهناك حالة أكثر قربا من هذا في الظاهر، وهي حالة الوقائع التي يشار إليها عادة بأفعال سببية: “قام س بتحريض ص على قتل أمه”، “عمل س على أن يقوم ص بقتل أمه” الخ. ورغم أننا هنا أمام جملة توحي بأنها تمثل تحولا مركبا ، فإننا هنا أمام محمولين متستقلين ، ونتيجة واحدة؛ ويأتي الغموض من كون الحدث الأول قد اختفى تماما، ولم نحتفظ إلا بالغاية منه ( إننا لا نحصل على وصف لكيفية التحريض التي “حرض” أو “عمل” بها س ، الخ).
ولجرد مختلف أنواع التحولات، سأتبنى افتراضا مزدوجا. في البداية، سوف أحصر الوقائع المدروسة في تلك التي تم تشفيرها في القاموس الفرنسي وفق صيغة الأفعال المتعدية. ومن جهة أخرى، سأستخدم في وصف كل نوع مصطلحات تتناسب مع المقولات النحوية . هاذان الافتراضان قابلان للتعديل دون أن يشكك ذلك في وجود التحول السردي. إن الأفعال المصنفة ضمن نوع من أنواع التحول السردي يتم الجمع بينها بواسطة العلاقة بين المحمول الأساسي والمحمول المحول. ولكنها تنفصل عن بعضها بواسطة الافتراضات المسبقة المتضمنة في المعنى الذي تحمله. وكمثال على ذلك ، فإن الحملين : ” يؤكد س أن ص قد قتل أمه” و “يكشف س أن ص قد قتل أمه” ينجزان نفس التحول على مستوى الوصف، ولكن الفعل “يؤكد” يقتضي حدثا كان معلوما من قبل، بينما الفعل ” يكشف” يدل على أن س هو أول من يؤكد ذلك.
Iـ التحولات البسيطة.
1 ـ تحولات الصيغة. تعبر اللغة عن هذه التحولات التي تتعلق بالاحتمال، بالاستحالة أو بضرورة وقوع حدث معين، وذلك بواسطة أفعال صيغية مثل يجب ، يمكن أو بواسطة بعض مرادفاتها. أما المنع، وهو كثير في المحكي، فيمثل ضرورة سلبية. وكمثال على ذلك: ” يجب على س ألا يرتكب جريمة”.
2ـ تحولات القصد. في هذه الحالة، نشير إلى نية موضوع الحمل القيام بفعل ما، لا الفعل نفسه. وتتم صياغة هذا المحدد في اللغة بواسطة أفعال مثل : يحاول، ينوي، يخطط،. وكمثال على ذلك : ” ينوي س القيام بجريمة”.
3ـ تحولات النتيجة. وإذا كان الحدث يدرك، في الحالة السابقة ، كحدث في طور الولادة، فإن نوع التحول الموجود هنا يقدم الحدث كحدث وقع وانتهى الآمر. في اللغة الفرنسية يشار إلى هذا الحدث بواسطة أفعال مثل “نجح في..” ، “تمكن من ..” ، “نال ..”. نفس الظاهرة تجسدها الأفعال الماضية التامة في اللغات السلافية. من المهم أن نسجل أن تحولات النية والنتيجة ، التي تسبق وتتلو نفس المحمول الفارغ، قد سبق أن تم وصفها من طرف كلود بريمون، تحت مسمى “الثلاثية”؛ ولكن هذا الكاتب يعتبرها وقائع مستقلة ، تتصل مع بعضها سببيا وليس كتحولات. وهكذا يصبح مثالنا كالتالي: ” نجح س في ارتكاب جريمة”.
4 ـ تحولات الكيفية. كل أقسام التحولات الأخرى الواردة ضمن هذا النوع الأول يمكن اعتبارها “تحولات في الكيفية”: إننا نحدد الخاصية التي يقع بها الحدث. ومع ذلك فقد قمت بعزل نوعين فرعيين أكثر تناغما، وذلك بأن جمعت ضمن الخانة الحالية ظواهر متنوعة. وتعين اللغة هذه التحولات بواسطة ظروف ؛ ولكننا سنجد غالبا أفعالا مساعدة تؤدي نفس الوظيفة: كما هو الشأن بالنسبة لأفعال مثل “سارع إلى” ، “تجرأ على” ، “تفوق في ” ، “أصر على “. ويمكن تشكيل مجموعة منسجمة نسبيا من خلال مشيرات دالة على درجة من القوة، ويوجد شكل لها في صيغ المقارنة والمبالغة. ويصبح المثال لدينا هنا كالتالي: “سارع س إلى ارتكاب جريمة”.
5 ـ تحولات المظهر. سبق أن أشار ج. غريماس إلى التقارب الموجود بين الصيغ adverbes الدالة على الكيف وبين مظاهر الفعل. في اللغة الفرنسية يجد المظهر تعبيره الأقل غموضا في أفعال مساعدة مثل: “شرع” ، “هو في طور” ، “انتهى من “، ( أفعال الشروع، أفعال التدرج progressif ، الانتهاء terminatif). ولنسجل التقارب المرجعي بين جهتي الشروع والانتهاء، وبين تحولات القصد والنتيجة؛ ولكن عملية تصنيف الظواهر أمر مختلف، حيث تغيب هنا فكرتا الغاية والإرادة. وهناك جهات أخرى مثل الممتد، الآني، الترددي، التعليقي suspensif، الخ. وهنا يصبح المثال كالتالي: ” شرع س في ارتكاب جريمة قتل”.
6 ـ تحولات الحالة. إذا استخدمنا مصطلح “الحالة” بمعناه عند ب. ل. وورف Whorf، يمكن نستعمله للدلالة على تعويض صيغة إثبات المحمول بصيغة النفي أو بالضد. ونعرف أن اللغة الفرنسية تعبر عن النفي بصيغة ” لا …”، وتعبر عن التضاد بواسطة بديل معجمي. هذه المجموعة من التحولات سبق أن عبر عنها بروب بإيجاز. ويحيل ليفي ستراوس بشكل خاص على نفس النوع من العمليات حين يتحدث عن التحولات ( “يمكن أن ننظر إلى “الخرق” كعملية قلب لـ “المنع”، وإلى هذه الأخيرة كتحويل سلبي لـ “الأمر” )”؛ وعلى خطاه سار غريماس الذي يعتمد من جهته على النماذج المنطقية التي وصفها بروندال Brǿndal و بلانشيه Blanché . ويصبح مثالنا هنا كالتالي : ” لم يرتكب س جريمة “.
IIـ التحولات المركبة.
1ـ تحولات الظاهر. أتجه الآن إلى النوع الثاني الكبير من التحولات، وهي التي لا تؤدي إلى تخصيص للمحمول الأساسي ولكن إلى وصل واقعة فرعية مع الواقعة الأولى. إن ما أسميه تحولات ” الظاهر” يشير إلى تعويض محمول بمحمول آخر، حيث يمكن لهذا الأخير أن يعتبر هو نفسه الأول دون أن يكون كذلك بالفعل. يشار إلى تحولات مماثلة في الفرنسية بأفعال “خادع” ، ” تظاهر” ، “ادعى” ، ” أخفى”، الخ؛ ترتكز هذه الوقائع، كما نرى، على التمييز بين الظاهر والباطن، وهو تمييز غائب عن بعض الثقافات . وفي جميع الأحوال، فإن الواقعة التي يدل عليها المحمول الأول ليست متحققة. وسيكون مثالنا هنا ” أن س ( أن ص ) يتظاهر بأنه يرتكب جريمة”.
2 ـ تحولات المعرفة. أمام هذه المظاهر الخادعة، يمكن أن نتصور نوعا من التحولات التي تصف بالضبط عملية إدراك للواقعة التي يدل عليها محمول آخر. إن أفعالا مثل : لاحظ، علم، خمن، عرف، جهل تصف المراحل والصيغ المختلفة للمعرفة. وقد سبق لبروب أن لاحظ استقلالية هذه الوقائع، ولكن دون أن يوليها أهمية كبيرة. في هذه الحالة يكون الفاعل لهذين الفعلين مختلفا عادة. ولكن ليس مستحيلا أن يبقى الفاعل واحدا. ويحيلنا هذا الأمر على حكايات تروي عملية فقد للذاكرة، أو وقائع لاواعية، الخ. وهنا يصبح مثالنا كالتالي: ” علم س (أو ص ) أن س قد ارتكب جريمة”.
3 ـ تحولات الوصف. هذا الصنف يدخل أيضا في علاقة تكامل مع تحولات المعرفة؛ إنه يشمل الأفعال المخصصة لخلق المعرفة. سيعني ذلك في اللغة الفرنسية المجموعة الفرعية المتعلقة بـ “أفعال التكلم” التي ستظهر غالبا في هذه الوظيفة: الأفعال التقريرية ، الأفعال الإنجازية الدالة على وقائع مستقلة . هكذا الشأن في ” يحكي” ، يقول، يشرح . وهنا سيصبح المثال هو : “يحكي س (أو ص ) أن س ارتكب جريمة”.
4 ـ تحولات الافتراض. يتعلق الأمر بمجموعة فرعية من الأفعال الوصفية التي تحيل على أفعال لم تحدث بعد مثل : يتنبأ، يستشعر، يرتاب، يتوقع : إننا هنا أمام عملية الاستباق: وبخلاف التحولات الأخرى، فإن الواقعة المشار إليها هنا بواسطة المحمول الرئيسي تنتمي للزمن المستقبل، لا للحاضر أو الماضي. ولنسجل أن تحولات متنوعة يمكن أن تدل على عناصر مشتركة في وضعية ما. وكمثال على ذلك ، فإن تحولات الصيغة، النية، المظهر والافتراض تقتضي كلها أن الحدث المعبر عنه بواسطة الحمل الرئيسي لم يتحقق؛ ولكن في كل مرة يتم توظيف مقولة مخالفة. وهنا يصبح المثال كالتالي: ” يستشعر س ( أو ص ) أن س سيرتكب جريمة “.
5 ـ تحولات التذويت . ننتقل هنا إلى شق آخر: فبينما التحولات الأربعة السابقة تناولت علاقات بين الخطاب وموضوع الخطاب، المعرفة وموضوع المعرفة، فإن التحولات التالية تتعلق بموقف الفاعل داخل الحمل. إن تحولات التذويت تحيل على وقائع تدل عليها الأفعال: يعتقد، يظن، يستشعر، يعتبر، الخ. إن مثل هذا التحول لا يدخل تعديلا حقيقيا على الحمل الرئيسي، ولكنه ينسبها، كملاحظة، إلى فاعل ما: ” يظن س ( أو ص ) أن س قد ارتكب جريمة”. لنسجل أن الحمل الرئيسي قد يكون صحيحا أو خاطئا: قد أصدق شيئا لم يحدث بالفعل. وهذا يدخلنا ضمن إشكالية ” السارد” و “وجهة النظر”: وإذا كان الحمل ” ارتكب س جريمة” معروضا بشكل مستقل عن أي وجهة نظر منتسبة لشخص خاص ( وإنما من وجهة نظر الكاتب ـ أو القارئ ـ العالم بكل شيء) ، فإن الحمل ” يظن س ( أو ص ) أن س قد ارتكب جريمة” يمثل الأثر الذي تركه نفس الحدث لدى شخص ما.
6 ـ تحولات الموقف. أعود من خلال هذا المصطلح إلى أوصاف الحالة التي تحدث لدى الفاعل بسبب الواقعة الرئيسية، خلال مدة حدوثها. هي تحولات قريبة من تحولات الكيفية، إلا أنها تختلف عنها بكون المعلومة الإضافية تخص الفاعل هنا، وتخص المحمول هناك: يتعلق الأمر في هذه الحالة بمحمول جديد، لا بمحدد يسم المحمول الأول. ذاك ما تعبر عنها أفعال مثل يتلذذ، ينفر، يسخر. وهنا يصبح مثالنا هو : ” يتلذذ س بارتكاب جريمة” أو ” ينفر ص من أن يرتكب س جريمة”. إن تحولات الموقف، أو تحولات المعرفة أو التذويت، تكثر خاصة في ما يستحسن أن نسميه “الرواية السيكولوجية”.
أقدم ثلاث ملاحظات قبل أن أختم هذا الجرد الموجز.
1 ـ من الشائع جدا أن نلاحظ أن حالات الربط بين عدة تحولات يتم التعبير عنها بواسطة كلمة واحدة ضمن قاموس لغة ما؛ علينا ألا نستنتج أن العملية نفسها غير قابلة للتجزيء. إن وقائع مثل ” أدان” أو ” هنأ” الخ، قابلة لأن تنحل إلى حكم قيمة وفعل كلامي ( يتعلق الأمر هنا بتحول في الموقف وفي الوصف).
2 ـ ومع ذلك لا يمكنني الآن أن أجزم بوجود هذه التحولات، أو بغياب أي تحول آخر؛ بل إن هذا أمر غير مرغوب فيه على الأرجح قبل أن تظهر ملاحظات أكثر عددا لتتمم أو تناقض هذه اللائحة. إن مقولات الحقيقة، المعرفة، التلفظ، المستقبل، الذاتية والحكم ، التي تسمح بضبط مجموعات التحولات المركبة، ليست بالتأكيد مستقلة عن بعضها؛ هناك إكراهات إضافية تحكم دون شك اشتغال الأشكال المشتركة: لا يسعني هنا إلا أن أشير إلى وجود هذه الاتجاهات في البحث ، وأن أتمنى استمرارها.
3 ـ هناك مشكل منهجي غاية في الأهمية تعمدت تركه جانبا هو مشكل الانتقال بين النص المدروس ومصطلحاتي الوصفية. هذا المشكل حاضر بشكل خاص في الدراسة الأدبية، بحيث تتعالى أصوات الاحتجاج بمجرد تعويض جزء من النص المدروس بمصطلح غير وارد فيه. ويبدو أن هوة تتجلى بين نزعتين في تحليل المحكي: الأولى تحليل حملي أو مضموني، يقوم على بلورة وحدات المحكي؛ الثانية تحليل معجمي، يجد هذه الوحدات في كما هي في النص. وهنا أيضا فإن البحوث اللاحقة سوف تثبت الأهمية الكبرى لهذه الطريقة أو تلك.
تطبيق
يبدو لي أن تطبيق مفهوم التحول أثناء وصف المحمولات السردية أمر لا يحتاج إلى تعليق. هناك تطبيق آخر بديهي هو إمكانية وصف النصوص عن طريق الهيمنة الكمية أو الكيفية لهذا النوع أو ذاك من التحولات. غالبا ما يؤخذ على تحليل المحكي عجزه عن إبراز تعقيد بعض النصوص الأدبية. إلا أن مفهوم التحول يسمح في نفس الوقت بمواجهة هذا الاعتراض وبوضع أسس لتصنيف النصوص. فقد رأينا مثلا أن أسطورة البحث عن الكأس المقدسة تتسم بالدور الذي يلعبه صنفان من التحولات: فمن جهة أولى، يتم الإعلان مسبقا عن الأحداث قبل وقوعها؛ ومن جهة ثانية، تخضع هذه الأحداث، بمجرد حدوثها، لتأويل جديد، ضمن شفرة رمزية خاصة. وفي مثال آخر هو قصص هنري جيمس، حاولت أن أبين قيمة تحولات المعرفة: وهي تحولات تهيمن وتحدد المسار الخطي للمحكي. ونحن نتحدث عن التصنيف، يجب طبعا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تصنيف النصوص لا يمكن إلا أن يكون متعدد الأبعاد، وأن التحولات تتعلق ببعد واحد.
ويمكن أن نأخذ كمثال تطبيقي آخر أحد مشاكل نظرية المحكي التي تمت مناقشتها قبلا: إنه مشكل تعريف المتوالية السردية. إن مفهوم التحول يمكن أن يسلط الضوء على هذا المشكل، بل قد يساعد على حله.
حاول كثير من الشكلانيين الروس أن يقدموا تعريفا للمتوالية. قام بذلك شكلوفسكي في دراسته حول “بناء الحكاية والرواية”. يؤكد في البداية أن لدى كل فرد منا ملكة للحكم ( تسمى القدرة بلغة الوقت الراهن ) هي التي تسمح لنا بالحكم على متوالية سردية بأنها تامة أم لا. “لا يكفي أن نكون أمام صورة، أمام تواز ما، ولا حتى أمام مجرد وصف لحدث حتى يتولد لدينا شعور بأننا أمام حكاية”، ” من الواضح أن المقاطع المذكورة ليست حكايات؛ فهذا الانطباع ليس رهينا بحجمها”، “إننا نشعر بأن الحكاية غير مكتملة” الخ. هذا الانطباع لا شك فيه إذن، ولكن شكلوفسكي لم يستطع تفسيره، وأعلن عن عجزه عن ذلك مبدئيا: ” لست قادرا بعد على تحديد الخاصية التي يجب أن تميز الحافز، ولا تحديد كيفية تضام الحوافز مع بعضها حتى نحصل على موضوع”. ومع ذلك، فإذا عدنا إلى التحليلات الخاصة التي أنجزها بعد هذا الاعتراف، فإننا سنجد أن الحل، حتى وإن لم يكن مصاغا بشكل معلن، حاضر ضمنيا في نصه.
وبالفعل، فإن شكلوفسكي، بعد كل مثال تم تحليله، يصوغ القاعدة التي تنطبق على الحالة الخاصة التي هو بصددها. من أمثلة ذلك قوله : “إن الحكاية الشعبية تقتضي ليس الفعل فقط ، بل رد الفعل أيضا، كما يقتضي غياب التناغم”. “إن حافز الاستحالة الزائفة يتأسس على أيضا على التناقض. ففي التوقع مثلا، يتجسد هذا التناقض بين نوايا الشخصيات التي تحاول تجنب التوقع، وتفادي تحققه ( حافز أوديب) “. ” تقدم لنا في البداية وضعية لا حل لها، ثم يقدم لها حل ميتافيزيقي. إن الحكايات الشعبية حيث يطرح لغز ثم يتم حله تمثل حالة مماثلة… هذا النوع من الحوافز يتضمن التتابع التالي : البريء قد يكون عرضة للاتهام، ثم يتهم فعلا، بعد ذلك تتم تبرئته”. طابع الاكتمال هذا يأتي من كون القارئ تعرض للخداع في البداية بواسطة معرفة زائفة، ثم بعد ذلك تكشف له الوضعية الحقيقية. وهكذا نجد أن القاعدة قد تم احترامها”. ” هذا الحافز الجديد يرد بموازاة مع المحكي السابق، وبفضل هذا يتضح أن القصة قد اكتملت”.
يمكن أن نلخص هذه الحالات الستة التي حللها شكلوفسكي، كالتالي: إن المتوالية المكتملة والتامة تقتضي وجود عنصرين قابلين للتوضيح كالتالي:
1 ـ العلاقة بين الشخصيات ـــ العلاقة بين الشخصيات معكوسة
2 ـ التنبؤ ـــ تحقق التنبؤ
3 ـ طرح اللغز ـــ حل اللغز
4 ـ اتهام باطل ـــ إزاحة الاتهام
5 ـ تقديم مشوه للأحداث ـــ تقديم سليم للأحداث
6 ـ الحافز ـــ الحافز الموازي
يظهر لنا الآن ماهو المفهوم الذي كان بإمكانه أن يساعد شكلوفسكي على جمع هذه الحالات الخاصة الستة ضمن “صيغة” واحدة: إنها بالذات خاصية التحول. إن المتوالية تقتضي وجود وضعيتين متمايزتين يمكن وصف كل وضعية منهما بواسطة عدد قليل من الحمول؛ ويجب أن يوجد بين حمل واحد على الأقل ضمن كل وضعية علاقة تحول. يمكننا فعلا أن نتعرف على مجموعات التحولات التي تم إبرازها من قبل. في الحالة 1)، يتعلق الأمر بتحول في الوضعية: من إيجابي إلى سلبي؛ في الحالة 2) هناك تحول في الافتراض : من التنبؤ إلى التحقق؛ في 3)، 4) و 5) يتعلق الأمر بتحول في المعرفة: هنا يتم تعويض الجهل أو الخطأ بمعرفة صحيحة؛ وفي 6) أخيرا لدينا تحول في الكيفية: وبدرجة أكثر أو أقل قوة. وأضيف أيضا أن هناك محكيات لا يتحقق فيها أي تحول: إنها محكيات يتعرض فيها الجهد من أجل تعديل الوضعية السابقة إلى الفشل ( إلا أن وجود هذا الجهد ضروري كي نستطيع الحديث عن متوالية وعن محكي).
إن صيغة كهاته عامة جدا طبعا: وتتمثل فائدتها في وضع إطارا لدراسة أي محكي. إنها تمكن من توحيد المحكيات لا تمييزها؛ ولإنجاز هذه المهمة الأخيرة، يجب أن نقوم بجرد لمختلف الوسائل التي يتوفر عليها المحكي من أجل توضيح هذه الصيغة. ودون الدخول في التفاصيل، لنقل إن هذا التوضيح يتحقق بطريقتين: عن طريق الجمع أو التفريع. على المستوى الوظيفي، هذا التعارض نفسه يتعلق بالحمول الاختيارية والبديلة: في الحالة الأولى، قد يظهر الحمل أو لا يظهر؛ وفي الحالة الثانية فإن أحد الحمول البديلة على الأقل يجب أن يوجد بالضرورة ضمن المتوالية. ومن المؤكد أن طبيعة التحول نفسها تسم المتوالية مبدئيا.
يمكن أن نتساءل أخيرا إن كان مفهوم التحول مجرد إجراء وصفي، أم أنه يتيح لنا ، بطريقة أساسية أكثر، أن نفهم طبيعة المحكي نفسه. وأنا أميل إلى الاختيار الثاني؛ وإليكم السبب. إن المحكي يتشكل من خلال التوتر بين مقولتين شكليتين، هما الاختلاف والتشابه؛ وإن الحضور المهيمن لأحدى هاتين المقولتين يقودنا إلى نوع خطابي لا يمثل محكيا. إذا كانت الحمول ثابتة لا تتغير، فإننا نبقى دون المحكي، في حالة توقف وكلام دون معنى؛ ولكن إذا كانت غير متشابهة، فإننا نتجاوز حدود المحكي، ضمن روبورتاج مثالي، متشكل كليا من عناصر مختلفة. إن الاقتصار على حكي وقائع متتالية لا يصنع محكيا: يجب أن تكون هذه الوقائع منظمة، أي أن تكون في النهاية متضمنة لعناصر مشتركة. ولكن إذا كانت كل العناصر مشتركة، فإنه لا يوجد محكي لأنه لا وجود لأي شيء يحكى. والحال أن التحول يمثل بالذات مزجا بين الاختلاف والتشابه، وربطا بين واقعتين لا تطابق إحداهما الأخرى. وبدل أن تكون “وحدة ذات وجهين”، فإنها تشكل عملية ذات معنيين: إنها إثبات للاختلاف والتشابه في آن واحد؛ إنها تفعل الزمن وتوقفه، بحركة واحدة؛ إنها تتيح للخطاب أن يكتسب معنى دون أن يتحول إلى مجرد إخبار؛ وبكلمة واحدة: إنها تجعل المحكي ممكنا، بل وتقدم تعريفه أيضا.
ترجمة مصطفى ناجي
(1) paradigmatique
(2) syntagmatique
les transformations narratives, in Tzvetan Todorov, Poétique de la prose, éditions du Seuil, 1971, 1978, pp 117- 132.