من يقرأ سِيَر الأدباء الكِبار ويطّلِع على كثير من مواقف حياتهم يجدهم أكثر الناس معاناة لما يجري حولهم ، ولما تقع عليه أنظارهم من أمور غير محمودة و أحوال لا يُحسَد أصحابُها عليها ؛ وربما شارك الفلاسفة والمصلحون والمفكرون الأدباءَ في تحمُّل تبعات إصلاح المجتمع والسير به نحو ما ينبغي أن يكون . فالأديب ليس- فقط- من تأسره زهرة بجمالها فيكتب عنها قطعة أدبية تسحرُ قرّاءها ، ويأسرُ لحُسن سبكها سامعيها ، وليس ذاك الذي يمتلك حسًا مرهفًا وقلبا خفاقا ولغة شاعرية ،وعينًا يفتنها جمالُ الغانيات وتُلحّنُ أبياتِهِ أصواتُ المُغَنّيات ، ومن ثَمَ ينتهي الأدب ويتخلى عن دوره الأديب .!! بل الأدب مهمته أكبر من مجرد الوصف وإثارة المشاعر ، والأديب ليس قاصّا يروي كل ما حفظ أو يصف كل ما رأى ، فمكانة الأديب تقتضي أن يكون الأديبُ لسانَ حال مجتمعه وأمته ، ينطقُ بأوجاعهم ويتألم لمُصابهم ، هو المُصلِح لما أفسدهُ الناسُ ، والثائر إذا ظُلِمَ الناس ، والناطق إذا صمت الناس، ومن هذا المنطلق تكون معاناة الأديب ويكمن شقاؤه ، فهو يحمل نفسًا عظيمة تحب الخير للجميع ، ويؤذيها ما يؤذيهم ، فأبو تمام -مثلا -يصف الشعر بأنه من سَنّ طريق المجد وهَدى أصحاب المعالي إليها بقوله :
ولولا خِلالٌ سنّها الشعرُ ما درى بُناةُ العُلا من أين تؤتَى المكارمُ ؟
وجوابا على سؤالنا السابق وزيادة في الإيضاح يمكننا أن نقول : إن معاناة الأدباء تكمن-أيضا- في كونهم يؤملون أن يكون العيش مثاليا أو أقرب إلى المثالية ، وأن تصبح الحياة خالية من الشرور والآلام وخطايا البشر ، وأنّى لها أن تكون كذلك ؟!
هذه النظرة الجمالية أو ” النظرة المثالية ” – بغَضِّ النظر عن التسمية – هي التي جعلَتْ الأديب يُعرّضُ نفسَهُ للأخطار في سبيل غيرهِ ويُخلّد مأساة الآخرين بقصيدة قد يلقى فيه حتفَهُ. !، على حد تعبير من قال :
فإما حياةٌ تسرُ الصديق وإما مماتٌ يُغيظُ العِدى
وهذه الصفة متأصلة في كل أديب وشاعر يقارع الظلم و يأنف المذلة ، وقد عبّر عن ذلك المرحوم محمد محمود الزبيري في قصيدته العظيمة ” رثاء الشعب ” ، بقولهِ :
ما كنتُ أحسبُ أني سوف أبكيهِ وأن شعري إلى الدنيا سينعيــهِ
وأنني سوف أبقـى بعــد نكبتــِــهِ حيَّاً أمزِّقُ روحي في مراثيــهِ !
إلى قولــه :
فإن سلمتُ فإني قد وهبتُ لـــهُ خلاصة العمر ماضيه وآتيـــهِ
وكنتُ أحرصُ لو أني أموتُ لهُ وحدي فداءً ويبقى كلُّ أهليـــهِ
فلستُ أسكنُ إلا في مقابـــــرهِ ولستُ أقتاتُ إلا مـن مآسيـــــهِ !
فأي إيثار وأي تضحية يحملها هذا الرجل لوطنه ؟ وأي هَمِّ يساوره وأي ألم يعتصرُ فؤاده لما يراه في شعبه وأمَّتهِ ؟
والحال نفسه عند الأديب معروف الرصافي-رحمه الله – حين رأى أرملة وطفلتها الرضيعة في أحد شوارع بغداد تمشي بثياب رثَّة تنُمُّ عن حالة مُحزنة ، فلم يتمالك نفسه لبؤس ما رأى ونظم قصيدة تقطر دما سمّاها ” الأرملة المرضعة ” ، يقول في مطلعها :
لقيتُها ليتني ما كنتُ ألقاها تمشي وقد أثقلَ الإملاقُ ممشاها
أثوابُها رثًّةُ والرِّجلُ حافيةٌ والدمعُ تذرفُـــهُ في الخدِّ عيناهــا
وغير ذلك كثير وكثير ، فالشاعر أو الأديب ليس إنسانا أنانيا يعيش لنفسه ، ويتغاضى عن معاناة غيره ، يكتفي بالتنزه في الحدائق والغابات يصف الزهور ، يمشي في الطرقات ويتغزل بالنساء ، يكتب الأدب ليقتات منه ، إنما هو أعلى من ذلك بكثير، فهو إنسانٌ تجلت في روحه الشفافة كل معاني النبل والإنسانية والرحمة والحب ، فهو رقيقُ الطبع ،فياض المشاعر، مرهف الحس ،يحمل هَمَّ أمته ودينه ، يدعو إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال وسُبُل الخير ، ولذلك نحب الأدب ونعشقه لأنه ضمير الإنسان الحي ونداء الروح الطيبة ، ونقدَّر الأديب ومعاناته أيَّما تقديــر .
يونس نعمان اليماني