سنحاول من خلال هذه القراءة المتواضعة والموجزة تسليط الضّوء على مكانة الزمن والفضاء الرّوائي في رواية “فندق دمّاحة”، لكاتبها الروائي والقاص المغربي شرف الدين عكري، كمكوّنين أساسيين من بنية الشّكل الرّوائي.
وإننا لا ندّعي من خلالها، بأيّ شكل من الأشكال، القبض على الدلالة الشّاملة للعمل في كليّته، أو تفسير جميع أسرار النّص، وكشف مختلف مظاهره.
وتنقسم هذه القراءة إلى محورين رئيسيين، بحيث سنتطرّق في المحور الأوّل لما يلي:
- النّسق الزّمني في رواية “فندق دمّاحة”
- نسق ترتيب الأحداث
- السّرد الاستذكاري (المدى والسّعة)
- السّرد الاستشرافي (الاستشراف كإعلان)
- وتيرة السّرد
- تسريع وتيرة السّرد
- الخلاصة
- الحذف
- تعطيل السّرد
- السّرد المشهدي
- الوقفة الوصفية
بينما سنقوم المحور الثاني بمناقشة ما يلي:
- مكانة الفضاء الروائي في رواية فندق دمّاحة
- الفضاء الروائي ثنائية مفارقة تجمع بين القبول والرّفض
- الفضاء الروائي بين الوصف والتعليق
- الفضاء الرّوائي بين الحقيقة والخيال
- الحضور الإنساني في المكان
- خاتمة المحور الثاني
ونشير في ختام هذا التّقديم إلى أنّ المرجع الأساسي المعتمد في هذه الدراسة هو كتاب “بنية الشّكل الرّوائي”. تأليف: حسن بحراوي، الصّادر عن المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1990.
المحور الأوّل:
- النّسق الزّمني في رواية “فندق دمّاحة”
لقد تعدّدت المظاهر الزّمنية في النّص الرّوائي، واختلف النّقّاد في حصرها، فمنهم من ميّز بين زمن القّصة وزمن الكتابة وزمن القراءة (تودوروف)، ومنهم من ميّز بين زمن النّص وزمن الحدث (هارالدفينريخ)، ومنهم من ميّز بين زمن الحكي وزمن التخيّل (جان ريكاردو وفرانسواز روسم)، ومنهم من ميّز بين زمن الشيء المروي وزمن السّرد (جيرار جنيت)، ومنهم من ميّز بين الزّمن القصصي والزّمن اللاّقصصي (أوريكشيوني)…
لكنّ المتّفق عليه هو أنّ الزّمن مكوّن أساسي من مكوّنات الشّكل الروائي، ويصعب تجاوزه، بل يستحيل، فلا سرد بدون زمن.
وانطلاقاً من جوهرية الزّمن ودوره البنيوي في الشّكل الرّوائي، سنحاول من خلال هذا المحور دراسة النّسق الزّمني في رواية “فندق دمّاحة”.
وسنتناول أوّلاً نسق ترتيب الأحداث في النّص، ثمّ ثانياً وتيرة سردها.
- نسق ترتيب الأحداث:
- السّرد الاستذكاري (المدى والسّعة):
يقوم السّرد الاستذكاري في رواية “فندق دمّاحة” أساساً بملء الفجوات التي يخلّفها السّرد وراءه، وذلك من خلال إعطائنا مجموعة من السوابق المتعلّقة بشخصية دادا مسيعيدة، والتي تعتبر محدّداً رئيسياً لفهمها بشكل أكبر وأشمل.
“ في إحدى اللّيالي، وبينما كنّا نتهيّأ للنّوم، سألتها قائلةً:
- دادا؟ هل اسمك الحقيقي هو مسيعيدة؟
فابتسمت قليلاً، وصاحت:
- بل مسعودة هو اسمي الحقيقي.
- ومسيعيدة هو تصغيره؟
- تماماً.
- ولقبُ دادا متى حصلتِ عليه؟
- قبل خمس أو ست سنوات تقريباً.
- وما دلالتُهُ؟
- إنّه يدلّ على المكانة التي أحتّلها في الدار.
صَمَتَتْ دادا مسيعيدة وهلةً، ثم أضافت بفخرٍ واعتزازٍ:
- اقشعرّ بدني لحظة ناداني سِيدْ العَابْدْ بلقب دادا لأوّل مرّة، واغرورقت عيناي بالدّموع، وأنا أحاول استيعاب ذلك.
لقد كانت شهادةً منه أنّني بلغتُ مرحلة النّضج القصوى التي من الممكن لخادم أن تصل إليها، واعترافاً باجتهاد لم يتوقّف منسوبه، ولم يخفت للحظة واحدة.
- لاريبَ أنّ هذا أضاف إليكِ واجباتٍ جديدة؟
- طبعاً.. طبعاً، فمنذ تلك اللّحظة صرت المشرفة العامة للبيت، وحصلت على جميع مفاتيح الدّار.”
ص144/145.
وإنّنا نعتبر هذا الاستذكار تداركاً وسدّاً لفراغ كان حاصلاً في القصّة، ولولاه لبقي جزء مهمّ من كينونة دادا مسيعيدة مغيّباً، فهو يفيد في معرفة وقع التّكليف الجديد على نفسيّتها، ويحدّد أيضاً المهام التي أضافها إليها. وعن مدى هذا الاستذكار، فالمقطع السّابق يحمل إشارة صريحة إلى التّاريخ لبذي حصلت فيه دادا مسيعيدة على لقبها، ودورها الجديد: “ قبل خمس أو ست سنوات تقريباً”ص 145.
إنّه استذكار يعلن عن مداه ذاتياً، كما يعلن عن المدّة التي يشغلها بشكل دقيق.
أمّا عن سعته، ونقصد بالسّعة المساحة الطباعية التي يشغلها في النّص الروائي، فهذا المقطع يشغل مساحة صفحة ونصف تقريباً، وهو ما يدفعنا إلى اعتباره استذكاراً قصير السّعة، لا يظهر بمظهر العنصر الدّخيل أو المشوّش على مقروئية الرواية ووضوحها، وقد جاء على شكل حوار جمع بين دمّاحة ودادا مسيعيدة.
- السّرد الاستشرافي (الاستشراف كإعلان):
يطلق السّرد الاستشرافي، بحسب جينيت، على كلّ مقطع حكائي يروي أو يثير أحداثاً سابقة عن أوانها أو يمكن حدوثها.
ويلعب الاستشراف دور الإعلان عندما يخبرنا صراحة بما سيأتي، في انتظار أن يأخذ هذا الخبر معناه في وقت لاحق، وبطريقة إرجاعية.
نطالع مع بداية الرّواية، وتحديداً في ص 37، المقطع التّالي:
“ توقّفت حافلة النّقل الحضري، فأخذ الرّكّاب يتفرّقون رويداً رويداً، كلّ إلى وجهته المنشودة. أمّا أنا فكانت كلّ ربوع الجزء العتيق من مدينة فاس غايتي.
- سأزور المْعَلَّمْ رشيد الخرّاز أوّلاً لإتمام ما بدأناه سابقاً.
قلتُ هذا بصوت مسموع، ثمّ مشيتُ بخطى وئيدة منغمساً في ذاكرة الأزمنة البعيدة، مستغرقاً في استبطان الذّات، أدوّن أسماء الدّروب والأزقّة، وأقتفي أثر النّص الجديد.”
ومن خلاله نكون قد تعرّفنا مسبقاً أنّ كاتب الرواية المفترض سيزور المعلّم رشيد الخرّاز، المتواجد بالجزء العتيق لمدينة فاس، لاستئناف عملهما على النّص الجديد.
وإذ تدخل الرواية مباشرة بعد ذلك في سرد حكاية دمّاحة، متجاهلة بشكل كامل شخصية المعلّم رشيد الخرّاز، وتفرض علينا الانتظار حتّى الصّفحة 227، لمعرفة من يكون تحديداً، ودوره (ولو أنّ ذلك يفهم ضمنياً فقط على أنّه هو من يزوّد كاتب المفترض بالمادّة الخام لروايته)، وعلاقته بفندق دمّاحة…
وإنّ اتّساع فترة الانتظار لعشرات الصّفحات، لا يقف عقبة أمام القارئ لفهم السّبب الذي دفع الروائي شرف الدين عكري لتأجيل الفصل الأوّل، معلناً عن ذلك بالإشارة التالية:
“الفصل الأول:
توضيح:
أيّها القارئ(ة) العزيز(ة) لقد تمّ تأجيل “الفصل الأوّل” لاعتبارات تقنية.” ص39.
- وتيرة السّرد:
أو بمعنى آخر درجة سرعة سرد الأحداث.
وهنا سنهتم بحالتين متقابلتين، حالة تسريع السّرد، وحالة تعطيله.
- تسريع وتيرة السّرد:
يتمّ ذلك بواسطة استعمال صيغ حكائية تختزل زمن القّصة وتقلّصه (الخلاصة)، أو تسقط مرحلة بكاملها من زمن القصّة (الحذف).
- الخلاصة:
تقوم هذه الصّيغة الحكائية على مبدأ الاستعراض السّريع والمركّز لأحداث من المفروض أنّها استغرقت مدّة زمنية طويلة.
ونرصد، على سبيل المثال، في النّص وجود الخلاصة التالية:
“لم يتصرّم وقت طويل حتّى بدأت دمّاحة ترْسِلُ إشارات توحي بأنّها شرعتْ تندمج في نسيج الحياة اليومية داخل دار سِيدْ العَابْدْ، وبأنّها صارتْ تنصهر شيئاً فشيئاً في بوتقتها…”ص141.
وإنّنا نقف في هذه الخلاصة على ملاحظة أساسية ترتبط بضيق مجالها الزّمني (لم يتصرّم وقت طويل)، دون أن يخلّ ذلك بوظيفتها الأساسية المتجسّدة في القفز على الفترات الميتة من زمن القصّة، نقصد الفترة التي استكانت فيها دمّاحة لأمر واقع استكانة زائفة في انتظار الفرصة الملائمة للشّروع في تحقيق غايتها.
- الحذف:
تؤشّر هذه الصيغة على الثّغرات الواقعة في التّسلسل الزّمني للقصّة، وتُعتمد بهدف تسريع السّرد.
وهذا نموذج من النّص:
“وتواصلتِ السّهرة إلى أن دنت من نهايتها.
وقتذاك انبرى سِيدْ العَابْدْ، بلسان أثقله السُّكر، إلى الغناء، يضع لمسة الختام…”
من خلال هذا المقطع، نلمس بوضوح إسقاطاً للفترة الزمنية التي أعقبت مراسيم استقبال الضّيوف وانضمام الفتيات وبداية الرّقص والغناء، وهي بحسب تقديرنا فترة زمنية قصيرة، إذا ما قورنت بما جاء في المقطع التالي:
“استمرّت رحلتنا ستّة أيام.”ص91.
هنا، وكما جاء على لسان دمّاحة، نعلم أنّ مدة الرّحلة استغرقت ستّة أيام من واحتها، المكان الذي اختطفت منه، وصولاً إلى مدينة مرّاكش، المكان الذي ستباع فيه في سوق النّخاسة.
وباستثناء التفاصيل العامّة المتعلّقة بطريقة تنقّل القافلة، والتي ذكرت لاحقاً على شكل فعل روتيني، فإننّا نجهل ما الذي حدث على وجه الدّقة في هذه الرّحلة.
صحيح أنّ المدّة المغيّبة في الحذف الأوّل غير محدّدة بدقّة، لكنّ هذا لا يمنع القارئ من استنتاج أنّها تقدّر ببضع ساعات فقط، على عكس المدّة المغيّبة في الحذف الثّاني، والمشار إليها علناً بستّة أيّام، وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار كلا الحذفين من النّوع المحدّد.
- تعطيل السّرد:
وهو الحالة المقابلة لتسريع وتيرة السّرد، حيث يجري تعطيل الزّمن القصصي على حساب توسيع السّرد ممّا يجعل مجرى الأحداث يتخذ وتيرة بطيئة، وذلك بواسطة استخدام تقنيتي السّرد المشهدي والوقفة الوصفية.
- السّرد المشهدي:
هنا يُعطى الامتياز للمشاهد الحوارية، وتختفي الأحداث مؤقّتاً، وتعرض أمامنا تدخلات الشّخصيات كما هي في النّص.
- الوقفة الوصفية:
أمّا هنا فتكون الغاية هي تعليق زمن الأحداث، في الوقت الذي يواصل فيه الخطاب سيره على هامش القصّة، وتأخذ غالباً شكل الاستطراد من أي نوع أو تحليل لنفسية الشخصيات…
وتحتاج الوقفة الوصفية إلى عدّة مستلزمات تيسّر الرؤية البصرية المساعدة على الوصف، نذكر من بينها توفّر الضّوء وقرب المسافة والنّظر من مكان مرتفع.
فأمّا توفّر الضّوء فشرط لازم لتحقّق الرؤية وعنصر مساعد لها. وكمثال على ذلك هذا النموذج:
“عمق الكهوف الجنائزيّة لا يتجاوز الأربعة أمتار، والنّور المتسرّب إليها من خلال فتحات أبوابها الواسعة يضيء سائر أرجائها”. ص48
وبعد إعطاء هذه الإشارة الصريحة، الدّالة على توفّر عنصر الإضاءة الكافية، يتدفّق الوصف على لسان دمّاحة:
” مفتونة بسحر المكان أتمدّد على ظهري وأتفرّس السّقف.
نقوش بأشكال مختلفة، لم تستسلم لصروف الدّهر بشمسه وقمره ونهاره وليله ومطره وريحه وسيوله. بكل جنوده لم تخضع له، ولم تطأطئ رأسها.
مشاهد القنص والحرث والحرب والأدوات المستعملة في ذلك، ورموز تعبيرية بدلالات عصيّة على الفهم، وحروف وكتابات غريبة، وأيادي ووجوه وكائنات بشرية، وأقواس ودوائر ومربّعات ومستطيلات ومثلّثات، وخطوط لولبيّة وخطوط مائلة وخطوط مستقيمية، وطيور وحيوانات مبالغ في طول قرونها وقوائمها…” ص49.
وأمّا قرب المسافة، فمحدّد رئيسي لوضوح المشهد، فكلّما تقلّصت المسافة بين الواصف والموصوف، كلّما كانت الرؤية دقيقة وصحيحة، والعكس صحيح.
وأمّا النظر من مكان مرتفع فيتيح الرؤية الشمولية والوصف ذي الاتساع، ومن أمثلة ذلك نذكر:
“لقد تطلّب الأمر وقتاً طويلاً لأكتشف سحر الوقوف على أكتاف الوادي الذي يحضن الواحة التي وُلِدْتُ فيها وآبائي وأجدادي…” ص46.
” أعود إلى مكاني الأوّل. أتفقّد القطيع مجدداً، الوضع تحت السّيطرة.
أبسطُ ذراعي.
أرى أمامي..
الواحة تنام بين أحضان الوادي.
تتزّين بخميل النضارة، وتنفي خضرتها اللّون الأصفر الذي يلتهم الأجواء.
كالحيّة تتلوّى بكسل واطمئنان، ضامّة إلى صدرها الدّور والمسجد والمخْزَنَ الجماعيّ.” ص50/51.
المحور الثاني:
- مكانة الفضاء الروائي في رواية فندق دمّاحة:
يعرّف الفضاء الرّوائي إجمالاً على أنّه المكان الذي تجري فيه القصّة، وهو أحد العناصر الفاعلة في تلك المغامرة نفسها.
والمعلوم طبعاً أنّ معظم تحليلات السّرد الأدبي اهتمّت بمنطق الأحداث، ووظائف الشّخصيات، وزمن الخطاب…، إلاّ أنّ هيمنة الفضاء الرّوائي في هذا النّص، بحيث أنّه يحدث قطيعة مع مفهومه كديكور أو مكوّن ثانوي ويفرض نفسه كمكوّن جوهري، أجبرنا على تخصيص هذه المحاولة المتواضعة له، والتّعامل معه على أنّه ملفوظ حكائي قائم الذّات، وعنصراً من العناصر المكونة للنّص.
- الفضاء الروائي ثنائية مفارقة تجمع بين القبول والرّفض:
يقدّم لنا النّص الذي بين أيدينا تباينا في وجهات النظر بخصوص الفضاء الروائي، فدمّاحة ترى فيه سجنا:
” تسمّرتُ في مكاني أتطلّع إلى الأعلى، فجعلتُ أقلّب كلام دادا مسيعيدة كَرّةً أخرى، كلام اللّيلة الفائتة، وقد تنامت قناعتي، أكثر من ذي قبل، في ضرورة السّعي وراء الخلاص بأيّ شكل من الأشكال.
إنّها تؤكد على عدم معرفة حياة أخرى غير هذه الحياة.
وهذه نقطة الاختلاف بيننا، فأنا لديّ موطن يجب أن أعود إليه، ولديّ حياة تشبهني يجب أن أسترجعها.
أنا حرّة بنت حرّ.
أنا بنت الرّحابة التي لا حدود لها، والنّخلة الكريمة المعطاء.
أنا بنت الخطّارة والواحة.
من المفروض أن أنصت لدواخلي، ولا أخضع لما تراه العين، لأنّه زائف يضارع السّراب في خداعه.
لن أركن، ولن أقنع بهذا القدر اللّئيم أبداً، ولن أكتفي بالتّفرّج.” ص151.
” رفرفْ! رفرفْ، واهرب من هنا ما دمتَ تملك جناحين!
ولا يغرنّك جمال النّقوش والزّخارف والأقواس، التي تملأ كلّ شبر من الدّار. إنّه سجن، حتّى لو كان كلّ ما تراه عيناك ذهبا، سيخرس فيك الغناء، ويميتك كما يشتهي.” ص152.
بينما ترى دادا مسيعيدة نفس المكان بعين أخرى:
“ لم تطأ قدماي مكاناً غير فاس، فأنا لم أمشِ في دروب غير دروبها، ولم أستنشق هواءً غير هوائها، ولم أعرف مكانا أدفأ من دار سِيدْ العَابْدْ، فهنا عاش والدي يسهران على خدمة أباء سِيدْ العَابْدْ، وهنا أعيش وأسهر على خدمة سِيدْ العَابْدْ ولالّة كنزة وأبنائهم، وإنّني أشكر الله تعالى أن جعلني أحيا هنا.” ص 147/148
نستطيع القول بأنّ النّص يعطي لنفس المكان (دار سيد العابد) دلالات متعارضة، وغير متطابقة. ومن هنا يشكّل هذا الفضاء الروائي تحديداً ثنائية مفارقة تجمع بين القبول والرّفض.
- الفضاء الروائي بين الوصف والتعليق:
يتأرجح الفضاء الرّوائي داخل السّرد بين عرضه عن طريق الوصف تارة، والتّعليق عليه تارة أخرى، وهو ما يمنحه وضعاً مميّزاً.
وانطلاقاً من هذا، فقد تمّ إبراز ملامحه الطّوبوغرافية، والتّعليق على أهمّ المظاهر التي تنشأ عنها.
وكمثال على الوصف نذكر:
” عمق الكهوف الجنائزيّة لا يتجاوز الأربعة أمتار، والنّور المتسرّب إليها من خلال فتحات أبوابها الواسعة يضيء سائر أرجائها.
مفتونة بسحر المكان أتمدّد على ظهري وأتفرّس السّقف.
نقوش بأشكال مختلفة، لم تستسلم لصروف الدّهر بشمسه وقمره ونهاره وليله ومطره وريحه وسيوله. بكل جنوده لم تخضع له، ولم تطأطئ رأسها.
مشاهد القنص والحرث والحرب والأدوات المستعملة في ذلك، ورموز تعبيرية بدلالات عصيّة على الفهم، وحروف وكتابات غريبة، وأيادي ووجوه وكائنات بشرية، وأقواس ودوائر ومربّعات ومستطيلات ومثلّثات، وخطوط لولبيّة وخطوط مائلة وخطوط مستقيمية، وطيور وحيوانات مبالغ في طول قرونها وقوائمها…” ص48/49.
وكمثال على التّعليق نذكر:
“ لم أخشَ يوما من تجلّيات الموت الذي كان يحيط بي، وأنا أتنقّل من كهف إلى آخر. بقدر ما كنت أخشى من المآل الذي صارت إليه هذه البقعة من الأرض، وقد كانت تعجّ بكل أشكال الحياة، قبل أن تصير اليوم صحراء يتطاير نقعها مع هبوب الرّياح!”ص49.
” في هذا المكان أجدُ رَوْحاً من أسلافي، وباعثاً على القوّة والتّحدي ومجابهة عنف الصّحراء، وبصمة التعلّق بالخلود الذي يداعب وداعب خلجات الإنسان على امتداد الأزمنة الغابرة.“ص48.
وإنّنا نجد تكاملاً بين التّعليق والوصف، فالأوّل يغطّي على النّقص الذي يتركه الثّاني، ويدعمه ويشحنه بالدّلالات الإضافية.
ولعلّ ذلك راجع إلى العلاقة المتلازمة بينهما، والضّرورة المتبادلة التي تجمعهما على الدّوام، ضرورة التجاور النّصي.
- الفضاء الرّوائي بين الحقيقة والخيال:
لمجابهة ضيق المكان وقهره، تلجأ دمّاحة إلى الحيلة التي تتعدّى قانون المحدودية التي تطوّق المكان الذي توجد فيه.
تلجأ إلى الخيال لتدفع عنها الضّيق والوحشة، وتطرد ثقلهما المضني.
“ أبحرتُ في لجّة الخيال، على بساط الشّوق والحنين فتبَرعَمت أمام ناظريّ الواحة تُجَلِّلُها سحابة سِحر وهيبة ووقار، وأسراب طيور تحلّق حرّة في رحابة الفضاء المفتوح وفوق تلّة النّدى.
أرهفتُ السّمع، وقد أثقلت ظلال الألم مهجتي وعَشْعَشَتْ، فتناهى إليّ خرير السّواقي، وحفيفُ سعف النّخيل وأغصان الأشجار واللّوز والرّمّان.
عجِبتُ من نفسي كيف أستحضرُ مباهج الحياة وأنا تحت أجنحة الموت! وكيف لي أن أطارد مفاتنها وأنا مثقلة بالقيود!” ص94.
لكنّ الخيال يفلح فقط في أن يكون بديلاً مؤقّتاً، ووهماً سرعان ما يتبدّد وينجلي، وتنفيه الحقيقة.
” كان صوت تنفّس زميلاتي في الأسر يصلني تباعاً، وقد استعدتُ إدراكي بالواقع المرير الذي أحيا تفاصيله. ” ص95.
- الحضور الإنساني في المكان:
يعتبر هذا الحضور عاملاً أساسياً في مقروئية النّصّ موضوع الفضاء الروائي، فدار سيد العابد مثلاً ب (نافورتها وسقّايتها ونقوشها وأقواسها وزخارفها وأرائكها وزرابيها وقناديلها النحاسية وحريمها…) لا تأخذ معناها ودلالتها الكاملة إلاّ بإدراج صورة صاحبها سيد العابد، وذكر ميولاته:
“ وكان من عادة سِيدْ العَابْدْ أن يحضّر الشّاي بنفسه لأصدقائه، تعبيراً عن التّرحيب المطلق وحسن الضّيافة.”ص166.
“ -الأقداح يا دادا!
هتف سِيدْ العَابْدْ بقلب يتراقص فرحاً، ثمّ زاد محدّثاً جواريه:
-أيّها السّاقي إليك المشتكى!”ص176.
“-الجواري يا دادا!
صاح سِيدْ العَابْدْ، وهو يعدّل أوتار عوده.” ص176.
“-يا سلام! هكذا يكون العزف! وهكذا يكون الغناء!
صاح سِيدْ العَابْدْ بانتشاءٍ.”ص180.
“وتواصلتِ السّهرة إلى أن دنت من نهايتها.
وقتذاك انبرى سِيدْ العَابْدْ، بلسان أثقله السُّكر، إلى الغناء، يضع لمسة الختام، وقد تفتّقت أحزانه الأندلسية:
يا أسفي على ما مضى
آه، وعلى الزّمن، زمن انقضى
آه يا مولاي
…” ص182.
” إنّ سِيدْ العَابْدْ غير مهتمّ بتجارة الرّقيق، وإعداد الإماء، وغير ذلك ممّا قيل لكِ إلى حدود اللّحظة. بل إنّ ما يسعى إليه هو أن يعيش كما كان أسلافه يعيشون.
إنّه، ومنذ عهدي به، وهو متفرّغ لمتعة الصّلاة، والغناء، والخمر، والنّساء، والحلم بالعودة إلى الأندلس.”ص211/212.
وبالإضافة إلى هذا الحضور الإنساني في المكان، هناك تأثير متبادل بين الشّخصية والمكان الذي تعيش فيه، وإذا صحّ القول تأثير المكان على الشّخصية، حيث أنّ بنية الفضاء الرّوائي تكشف لنا عن الحالة الشّعورية التي تعيشها الشّخصية، وتساهم في التحوّلات الدّاخلية التي تطرأ عليها. ومن خلال المقاطع التالية، نلاحظ أنّ دمّاحة لم تمنع نفسها من إضفاء فكرها ومزاجها وعواطفها على المكان:
“ سِرنا وسط الواحة يطوّقنا شدو العصافير، وتحفّنا ظلال جدوع وسعف النخيل المنغرسة جذورها عميقا في قرارة الأرض، ويَلُفّنا خرير الماء المتدفق من خلال السواقي.
يرتفع ثغاء تيس ومعزة هنا..
وثغاء جدي صغير هناك..
فتنبسط سريرتي، وتدبّ في أوصالي أنفاس نسمات الحياة، وتستيقظ عرائسها لتقبّل همس النّدى وتعانق تنهّدات الصّباح البهيّ وهَيْنَمات النسائم الرّقاق.”ص43/44.
“ في دار سِيدْ العَابْدْ، الباب والحلقة في الأعلى، هما صلتا الوصل الوحيدتين بالعالم الخارجي، ولولاهما لتحوّلت الدار إلى قبر.
الرؤية من الباب ممنوعة، يحرسها مبيريك في كلّ الأوقات، في حين يُسْمَحُ بالتطلّع إلى السّماء في الأوقات التي لا شُغْلَ فيها.
وكنتُ بحاجة إلى لحظة راحة، بعد صباح شاقٍّ بذلنا فيه كثير جهد، فاستكنتُ، ووقفت وسط الفناء، ثمّ رفعت بصري باتجاه السّماء، أحدّق إليها بعيون لم تعد ترى إلاّ أشكالاً هندسية ميّتة.
بالأمس، كنت في كلّ مرّة أنظر إليها أرى شمسها نهاراً، وقمرها ليلاً. على عكس اليوم، شمس يُستشعرُ وجودها ويُرى شعاعها دون قرصها الوهّاج، وقمر حزين يرسل نوره في تواضع لا يليق بسلطانه.”ص150.
“ في الحقيقة أنا لا أنكر هذا الجمال، غير أنّني أجده باهتاً.
ربّما لأنّني أَلِفْتُ رؤية الألوان والأشكال على حقيقتها، وهي تجلّل أطراف الطبيعة التي أوجَدَتها؟
وربما لأنّني أراه جمالاً مسجوناً مثلي؟ أو متكلّفاً زيادة عن اللّزوم مثل حياتهم؟”ص152.
كما أنّ المكان هنا هو من يساعدنا على فهم الشّخصية، وتغييره يؤدّي دائماً إلى نقطة تحوّل في الحبكة، وفي تركيب السّرد والمنحى الدرامي الذي يتّخذه، إذ أنّ هناك ارتباطاً إلزامياً بين الفضاء الروائي والحدث، وهو ما يعطي للرواية تماسكها وانسجامها.
وسنقوم بعكس ما جاء على لسان جورج بلان، ونقول: توجد أمكنة، توجد أحداث.
ومنه نستطيع أن نطلق على رواية فندق دمّاحة أنها رواية المكان بامتياز، بحيث أنّه البؤرة الرّئيسية التي تدعم الحكي وتنهض به.
بقلم: ذة. نوال بوزيدي