الرئيسيةالأولىسلسلة : شذرات رمضان 17.ليلة بدر.. حين انتصر يقين القلة على جبروت الكثرة

سلسلة : شذرات رمضان 17.ليلة بدر.. حين انتصر يقين القلة على جبروت الكثرة

رمضان
“وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (آل عمران: 123)

في ليلة بدر…حين كُتب التاريخ بمداد اليقين ، لم يكن النصر أرقاماً تحصى، ولا سلاحاً يُعدّ، ولا جيشاً يُقارن، بل كان إيماناً يملأ القلوب، ويقيناً يسري في الأرواح، وثقةً لا تتزعزع بأن الله لا يُخلف وعده، وإن قلت الأعداد، وضعفت العُدّة.
ففي تلك الليلة، وقف ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، في مواجهة ألفٍ مدججين بالسلاح، لا تكافؤ في القوة، ولا توازن في العتاد، ولكن حين يكون القلب ممتلئا بالإيمان، يصبح الضعف قوة، وتصبح القلة كثرة، ويصبح المستحيل ممكناً.

لقد كان مشهد المعركة درساً خالداً: أهل الأرض ميزانهم بالأعداد، وأهل السماء يزنون باليقين والإيمان. فقريش ظنت أنها ستسحق قوة المسلمين الناشئة، بسطوتها وعددها، غير مدركة أن هناك قوة أخرى لا تُرى بالعين، ولكنها تُحس بالقلب: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ”.
وهنا كان الفرق! لم يكن المسلمون عبارة عن مقاتلين فقط، بل كانوا عباداً خرجوا في سبيل الله، لم يسعوا لحرب، ولم يطلبوا غنائم، بل أرادوا وجه الله، فجاءهم نصره من حيث لم يحتسبوا.

وما أشبه اليوم بالأمس! ففي رمضان، يتجدد درس بدر، حيث يعلمنا الصيام كيف نكسر قيود الماديات، وننتصر على رغبات النفس.

في بدر، كان الأجساد منهكة، ولكن الأرواح كانت قوية، وفي الصيام، يضعف الجسد، ولكن الروح تسمو. في بدر، ظنّ المشركون أن القوة في العدد، لكن الله أثبت أن النصر بيده، وفي الصيام، يظن الناس أن السعادة عند الجلوس وقت الإفطار عند الطعام، لكن رمضان يعلمنا أن السعادة في القرب من الله.

وتمر بنا هذه السنة ذكرى بدر العظيمة، لكنها تأبى أن تمر مرور الكرام دون أن تحفر في القلب حزناً على فقد علم من أعلام الأمة، شيخنا الجليل أبي إسحاق الحويني، الذي شاء الله أن يلاقيه في هذا اليوم العظيم، وكأنها رسالة أن الرجال الذين حملوا نور الدين هم في زمرة أهل بدر في صدقهم وثباتهم.

لقد كان الشيخ – رحمه الله – صوتاً للحق، وحارساً للحديث، ومرشداً للقلوب، فكم من طالب علم أضاءت حياته بنوره، وكم من سائل وجد في كلماته زاداً يقيه عثرات الطريق. رحل بجسده، لكن علمه باقٍ، وصوته لا يزال يصدح في قلوب محبيه، وكلماته ستظل تذكيراً بأن الحق لا يموت، وإن غاب رجاله.

نسأل الله أن يجمعه بأهل بدر في دار الخلود، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، كما جعل حياته حديقة علم وهدى

يا بدر اليقين!
أي سرٍّ فيك جعل الضعيف عزيزاً، والقليل كثيراً، والمغلوب منتصراً؟ أي سرٍّ فيك جعل السماء تمطر نصراً، والأرض تشهد مجداً، والتاريخ يكتب درساً خالداً؟ يا بدر، لستَ معركةً مضت، بل نورٌ يضيء دروب المتوكلين، وبشارةٌ لمن علم أن الموازين الحقيقية لا توزن بميزان الأرض، بل بميزان السماء.

ختاما، فلنكن من أهل بدر…فبدر ليست ذكرى تُحكى فقط، بل هي مبدأٌ يُعاش، ودعوةٌ لكل قلبٍ ضعيفٍ يتعثر في دروب الحياة، أن اصبر، وتوكل، وثق بالله، فالنصر ليس بعدد ولا قوة، بل بصدق النية، وصفاء القلب، وثبات الإيمان. فاللهم اجعلنا من أهل بدر، في يقينهم، وفي صدقهم، وفي ثقتهم بوعدك.

هشام فرجي
هشام فرجي

هشام فرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *