خاضت العديد من الدراسات في المستويات التنظيرية لذا سنحاول في مقالنا التركيز على الجانب التطبيقي, تُعَدُّ قصيدة “غائب قد يعود” واحدة من الأعمال الأدبية التي تجمع بين عمق المعنى وجمال الصياغة، يتجلى ذلك من خلال التركيز على ثلاثة مستويات أسلوبية رئيسية: الصوت، التركيب, والدلالة، سنتناول تحليل هذه المستويات بتفصيل، لكشف كيفية توظيفها لإيصال الرسائل المضمرة وتعزيز التأثير الفني للقصيدة. ستُظهر هذه الدراسة كيف أن التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة يشكل البنية الكلية للعمل ويضفي عليه طابعاً مميزاً في التعبير عن موضوعاته المحورية.
نص القصيدة: غائب قد يعود
بذلت لمرآك ضوء العيون
وأثثت قلبي كي تسكنه
فان غبت عني ..أظل غريبا
بلا ذكريات
ولا أمكنة
فصوتك يملاْ مني الضمير
أشيد من شهده مئذنة
ووجهك قمح الشتاء الوفير
تهب الطيور لكي تطحنه
فأخبز وسع المحيط رغيفا
واطعم كل الجياع سنة
فأين رحلت؟
وكيف تغيب
ومن تنتقيه لتستأذنه؟
وأنت اخضرار وماء وشمس
ومنك النخيل اصطفى معدنه
أيعني غيابك ان قد قتلت
وحاشا
إذ الموت ما أجبنه
إذا جيء بالسيف كي يذبحوك
ستنمو على حده سوسنه
فيغدو لها السيف ثوب زفاف
وتهوي لنحرك كي تحضنه
وان زار صدرك سيل الرصاص
ستتخذ القلب مستوطنه
ولو جيء بالنار..حبل حريق
وشدوا عيون بالأدخنة
لشق السماء ملاك بجيش
غيوم الربيع له أحصنة
وحلق فوقك شرقا وغربا
وصلى على روحك المؤمنة
بلاطك يمتد في كل قلب
وتحرس أبوابك الألسنة[1]
المستوى الصوتي
يشكّل المستوى الصوتي في قصيدة “غائب قد يعود” أحد أهم العناصر التي تسهم في بناء الإيقاع الداخلي وتعزيز الأثر النفسي للنص. من خلال اختيار الشاعر للألفاظ وتوزيع الحروف والمقاطع الصوتية بعناية، يُخلق توازنٌ صوتي ينسجم مع المعنى العام للقصيدة. وسنستعرض كيفية توظيف الأصوات لإثراء النص وجعل التجربة الشعرية أكثر تأثيرًا وتواصلاً مع القارئ.
“بَذَلْتُ لِمَرْآكَ ضَوْءَ الْعُيُونِ”
التقطيع العروضي:
بَذَلْ – تُ لِ – مَرْ – آ – كَ ضَوْ – ءَ لْ – عُيُو – نِ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَأَثَّثْتُ قَلْبِي كَيْ تَسْكُنَهُ”
وَأَثْ – ثَثْ – تُ قَلْ – بِي كَيْ – تَسْ – كُنَ – هُ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“فَإِنْ غِبْتَ عَنِّي أَظَلُّ غَرِيبَا”
فَإِنْ – غِبْ – تَ عَنْ – نِي أَظَلْ – لُ غَرِي – بَا
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“بِلَا ذِكْرَيَاتٍ وَلَا أَمْكِنَهْ”
بِلَا – ذِكْ – رَيَا – تُنْ وَلَا – أَمْ – كِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“فَصَوْتُكَ يَمْلَأُ مِنِّي الضَّمِيرْ”
فَصَوْ – تُ كَ يَمْ – لَأُ مِنْ – نِي الضَّ – مِيرْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“أُشِيدُ مِنْ شَهْدِهِ مِئْذَنَهْ”
أُشِي – دُ مِنْ – شَهْ – دِهِ مِئْ – ذَنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَوَجْهُكَ قَمْحُ الشِّتَاءِ الْوَفِيرْ”
وَوَجْ – هُ كَ قَمْ – حُ الشِّتَا -ءِ الْوَفِ – يرْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“تَهُبُّ الطُّيُورُ لِكَيْ تَطْحَنَهْ”
تَهُبْ – بُ الطُّ – يُورُ لِكَيْ – تَطْ – حَنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“فَأَخْبِزْ وُسْعَ الْمُحِيطِ رَغِيفًا”
فَأَخْ – بِزْ وُسْ – عَ الْمُ – حِي – طِ رَغِي – فَنْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَأُطْعِمْ كُلَّ الْجِيَاعِ سَنَهْ”
وَأُطْ – عِمْ كُلْ – لَ الْجِي – اعِ سَنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“فَأَيْنَ رَحَلْتَ؟ وَكَيْفَ تَغِيبْ”
فَأَيْ – نَ رَحَلْ – تَ وَكَيْ – فَ تَغِيبْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَمَنْ تَنْتَقِيهِ لِتَسْتَأْذِنَهْ”
وَمَنْ – تَنْتَقِي – هِ لِتَسْ – تَأْذِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَأَنْتَ اخْضِرَارٌ وَمَاءٌ وَشَمْسْ”
وَأَنْ – تَ اخْ – ضِرَارٌ وَمَا – ءٌ وَشَمْ – سْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَمِنْكَ النَّخِيلُ اصْطَفَى مَعْدِنَهْ”
وَمِنْ – كَ النَّ – خِيلُ اصْ – طَفَى مَعْ – دِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“أَيَعْنِي غِيَابُكَ أَنَّكَ قَدْ قُتِلْتْ”
أَيَعْ – نِي غِيَا – بُكَ أَنَّ – كَ قَدْ – قُتِلْ – تْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَحَاشَا إِذِ الْمَوْتُ مَا أَجْبَنَهْ”
وَحَا – شَا إِذِ – الْمَوْ – تُ مَا – أَجْبَنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“إِذَا جِيءَ بِالسَّيْفِ كَيْ يَذْبَحُوكْ”
إِذَا – جِيءَ بِالسَّ – يْفِ كَيْ – يَذْبَحُوكْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“سَتَنْمو عَلَى حَدِّهِ سَوْسَنَهْ”
سَتَنْ – مُو عَلَى – حَدِّهِ – سَوْسَنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“فَيَغْدُو لَهَا السَّيْفُ ثَوْبَ زِفَافْ”
فَيَغْ – دُو لَهَا – السَّيْ – فُ ثَوْ – بَ زِفَافْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَتَهْوِي لِنَحْرِكَ كَيْ تَحْضِنَهْ”
وَتَهْ – وَي لِنَحْ – رِكَ كَيْ – تَحْضِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَإِنْ زَارَ صَدْرَكَ سَيْلُ الرَّصَاصْ”
وَإِنْ – زَارَ صَدْ – رَكَ سَيْ – لُ الرَّصَاصْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“سَتَتَّخِذُ الْقَلْبَ مُسْتَوْطِنَهْ”
سَتَتْ – تَخِذُ الْ – قَلْبَ مُسْ – تَوْطِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَلَوْ جِيءَ بِالنَّارِ.. حَبْلَ حَرِيقٍ”
وَلَوْ – جِيءَ بِالنَّا – رِ حَبْ – لَ حَرِي – قِنْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَشَدُّوا عُيُونًا بِالْأَدْخِنَهْ”
وَشَدْ – دُوا عُيُو – نَنْ بِالْأَدْ – خِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“لَشَقَّ السَّمَاءَ مَلَاكٌ بِجَيْشٍ”
لَشَقْ – قَ السَّمَا – ءَ مَلَا – كُنْ بِجَيْ – شِنْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“غُيُومَ الرَّبِيعِ لَهُ أَحْصِنَهْ”
غُيُو – مَ الرَّبِي – عِ لَهُ أَحْ – صِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَحَلَّقَ فَوْقَكَ شَرْقًا وَغَرْبًا”
وَحَلْ – لَقَ فَوْ – قَكَ شَرْ – قَنْ وَغَرْ – بَنْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَصَلَّى عَلَى رُوحِكَ الْمُؤْمِنَهْ”
وَصَلْ – لَى عَلَى – رُوحِكَ الْ – مُؤْمِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“بِلَاطُكَ يَمْتَدُّ فِي كُلِّ قَلْبٍ”
بِلَا – طُكَ يَمْ – تَدُّ فِي – كُلِّ قَلْ – بِنْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
“وَتَحْرُسُ أَبْوَابَكَ الْأَلْسِنَهْ”
وَتَحْ – رُسُ أَبْ – وَابَكَ الْ – أَلْسِنَهْ
(فعولن – فعولن – فعولن – فعولن)
الوزن الشعري
القصيدة مكتوبة على بحر المتقارب، وهو بحر يتكون من تكرار التفعيلة “فعولن” أربع مرات في كل شطر. هذا الوزن يعطي القصيدة إيقاعًا موسيقيًا متوازنًا وثابتًا، مما يسهم في إيصال الإحساس بالانسجام والثبات.
القافية
– نوع القافية: القافية في هذه القصيدة هي قافية متتابعة، حيث نجد في نهاية كل بيت حرف الروي متوافقًا. على سبيل المثال، الأبيات تنتهي بأصوات مثل “ه” و”هْ”، كما في “العيونِ” و”السنة”. حرف الروي في القصيدة (النون الساكنة) يعطي القصيدة وقعًا صوتيًا مستقرًا.
-القافية الساكنة: معظم القوافي تنتهي بحروف ساكنة، مما يضفي على القصيدة نوعًا من الحزم والقوة.
التكرار الصوتي
-التكرار الداخلي: التكرار الصوتي حاضر بشكل واضح في القصيدة. مثال على ذلك تكرار الكلمات مثل “فأين رحلت؟ وكيف تغيب؟”، حيث يتكرر السؤال بإيقاع موسيقي يخلق إحساسًا بالحنين والبحث.
– الجناس: هناك جناس بسيط في الكلمات مثل “النخيل” و”الجميل”، مما يضيف بعدًا صوتيًا مميزا.
-التكرار الصوتي للضمائر: الضمائر المتكررة مثل “أنت” و”ك” تعزز من الطابع الشخصي في النص، وتجعل القارئ يشعر بالاتصال الوثيق مع المخاطب.
التوازن الصوتي
-تكرار الحروف: نلاحظ تكرار بعض الحروف مثل “السين” و”الميم” و”النون”، مما يخلق توازنًا صوتيًا داخل الأبيات ويعزز الإيقاع الموسيقي.
-التجانس الصوتي: التجانس الصوتي بين الكلمات مثل “المحبة” و”القلب” يساعد في ترسيخ المفاهيم ويجعل النص أكثر تناسقًا وسهولة في القراءة.
الإيقاع الداخلي
-الحركات الصوتية: الإيقاع الداخلي يعتمد على حركات الأصوات داخل الكلمات نفسها مثل “الضمير” و”المئذنة”. هذه الحركات تعطي النص تدفقًا طبيعيًا وتخلق موسيقى داخلية تجذب القارئ.
الجمل الاعتراضية والوقفات
-الوقفات الصوتية: القصيدة تحتوي على وقفات صوتية واضحة عند نهاية كل بيت، مما يساعد في تقسيم الأفكار, وإيصال المعاني بشكل أوضح.
-الجمل الاعتراضية: مثل “وحاشا إذ الموت ما أجبنه”، تُضيف الجمل الاعتراضية وقفة تتيح للقارئ التأمل في المعاني, وتعزز من التفاعل العاطفي مع النص.
المستوى التركيبي
يشكّل المستوى التركيبي في قصيدة “غائب قد يعود” الأساس الذي يُبنى عليه النص الشعري، حيث يبرز دور التركيب في تنظيم الأفكار وتوجيه تدفق المعاني. من خلال التراكيب النحوية والجملية المتنوعة، يتمكن الشاعر من خلق علاقات معقدة بين المفردات والمعاني، مما يسهم في تعزيز الترابط النصي وتكامل العناصر الفنية. وسنلقي الضوء على كيفية استخدام الشاعر للتراكيب اللغوية لتحقيق الانسجام الداخلي للقصيدة، ودورها في توجيه القارئ لفهم أعمق للرسائل الكامنة بين السطور.
التقديم والتأخير
يعزز التقديم والتأخير من دلالات النص, ويوجه انتباه القارئ إلى العناصر المهمة. على سبيل المثال، تقديم “بلا ذكريات” في البيت الرابع يبرز الانقطاع عن الذكريات كحالة مستمرة بدلاً من التركيز على الفعل نفسه.
1.تقديم المفعول به على الفعل:
– في البيت الأول: “بذلت لمرآك ضوء العيونِ”، تم تقديم المفعول به “ضوء العيون” على الفعل “بذلت” ليُبرز أهمية هذا المفعول في السياق.
2.تقديم الجار والمجرور:
– في البيت الثاني: “وأثثت قلبي كي تسكنه”، “قلبي” (مفعول به) يأتي بعد الفعل “أثثت” وهو مقدّم لغاية توضيح العلاقة بين الفعل والمفعول.
الأساليب الطلبية
تستخدم القصيدة الأساليب الطلبية غير المباشرة من خلال التعبير عن رغبات أو احتياجات، مثل الحث على العطاء والمشاركة.
- أسلوب الأمر:
– لا توجد أوامر صريحة في القصيدة، لكنها تحتوي على طلب ضمني عبر الإشارة إلى الأفعال التي تُظهر اهتمامًا وتحفيزًا (مثلاً: “أطعم كل الجياع”).
- أسلوب النهي:
– القصيدة لا تحتوي على نهي صريح، لكنها تتضمن تلميحات تشبه النهي من خلال إظهار التداعيات السلبية للغياب.
3.أسلوب الاستفهام:
– في البيت الثالث: “فأين رحلت؟ وكيف تغيب؟”، توجد أسئلة استفهامية مباشرة تتساءل عن مكان الغياب وكيفيته. هذه الأسئلة تعبر عن الحيرة والبحث.
الجمل الأساسية
بذلت لمرآك ضوء العيون
الجملة: فعل + مفعول به + مضاف إليه.
الفاعل: “أنا” مستتر
الفعل: “بذلت”.
المفعول به: “ضوء العيون”.
التكملة: “لمرآك” (مضاف إليه)، تُستخدم لتحديد الهدف أو الجهة التي بُذل لها الجهد.
وأثثت قلبي كي تسكنه
الجملة: فعل + مفعول به + جملة مفعول لأجله.
الفاعل: “أنا”مستتر
الفعل: “أثثت”.
المفعول به: “قلبي”.
التكملة: “كي تسكنه” (جملة تعبيرية توضح الغرض من الفعل)
الجملة الشرطية:
“فإن غبت عني .. أظل غريبا بلا ذكريات ولا أمكنة”
الجملة: شرط + نتيجة.
الشرط: “فإن غبت عني” (مقدمة شرطية تُعبر عن الحالة التي تؤدي إلى النتائج التالية(
النتيجة: “أظل غريبا بلا ذكريات ولا أمكنة” (تصف حالة الشاعر إذا تحقق الشرط)
الجملة الوصفية:
ووجهك قمح الشتاء الوفير
الجملة: مبتدأ + خبر.
المبتدأ: “وجهك”
الخبر: “قمح الشتاء الوفير” (استعارة تُستخدم لوصف وجه المحبوب وإبراز صفاته).
الجملة التفسيرية:
فصوتك يملاْ مني الضمير
الجملة: فعل + مفعول به + مضاف إليه.
الفاعل: “صوتك”.
الفعل: “يملاْ”.
المفعول به: “مني الضمير” (توضيح كيف يؤثر الصوت على الشاعر).
الروابط المستخدمة:
الروابط الشرطية والتفسيرية: مثل “فإن”، “ف”، “كي”، تُستخدم لربط الأفكار وتوضيح العلاقة بين الشرط والنتيجة، أو بين التفسير والتأثير.
الروابط التتابعية: مثل “وأثثت”، “ووجهك”، تعزز من تدفق النص وتسلسل الأفكار بطريقة منطقية.
المستوى الدلالي
لعل المستوى الدلالي من مستويات التحليل الأسلوبي الذي نوعا ما لا يحتاج لقاعدة صارمة, ويخضع لها كبقية المستويين الصوتي والتركيبي, فالمستوى الدلالي هو الذي يعتمد على التأويل بدرجة كبيرة, ورصد الجوانب البلاغية, وتفسير الكلمات الظاهرة بمستوياتها المتعددة, فالمستوى الدلالي يركز على فهم المعاني والدلالات المتضمنة في النصوص, ويعتبر هذا المستوى جزءًا أساسيًا في الدراسات اللغوية والأدبية، حيث يسعى الباحثون والمحللون إلى استكشاف الأبعاد الدلالية للغة المستخدمة في النصوص, على المستوى الدلالي، يتم التركيز على معاني الكلمات والعبارات, وكيفية تفاعلها لبناء مفهوم أو معنى أعمق.
يشمل هذا المستوى استخدام الأساليب الدلالية التي يبرزها فن البديع البلاغي المتمثل في التشبيه، والمجاز، والكناية، لنقل المعاني وتوجيه الانتباه إلى جوانب معينة من النص, باختصار المستوى الدلالي يسهم في فهم العمق والتعقيد الذي يمكن أن تحمله النصوص، حيث يكشف عن الطرق التي يستخدمها المؤلف لنقل رسائله والتأثير العاطفي أو الفكري الذي يهدف إليه من خلال استخدامه للغة.
والنص الماثل بين أيدينا نصا يوحي بالشوق والحنين بانتظار محبوب غائب, وأول ما يطالعنا على مستوى العنونة هو الحرف (قد) الذي دخل هنا على الفعل المضارع (يعود) مما يوحي بتقليل فرص هذه العودة, وقد تضافرت مجموعة من الفنون البلاغية لتصوير هذا الغياب, وفرص اللقاء الضئيلة والمنعدمة.
ففي السطر الشعري الأول
“بذلت لمرآك ضوء العيون”
توحي كلمة البذل بالجهد والتعب للوصول إلى المبتغى المطلوب, كما تشير عبارة (ضوء العيون) ان العين بانتظار الغائب ولا تبصر إلا من اجله, فقد أضناها التعب والتفتيش حتى أصبحت كالضوء الذي يتحرى به صاحبه عن فقده الثمين .
ويتحدد البديع بالسطر الثاني من القصيدة
“وأثثت قلبي كي تسكنه”
فالقلب لا يؤثث انما البيت أو المكان فهنا استعار الشاعر التأثيث للقلب احتفاءً برؤية المحبوب, وكذلك يشير إلى ان هذا القلب هو مكان الحبيب وداره الذي اعد لاستقباله.
كما يرد في السطر الثالث وما يليه تشبيهات عديدة
“فان غبت عني ..أظل غريبا
بلا ذكريات
ولا أمكنة”
فيشبه الشاعر الغياب بالغربة والاغتراب عن الذكريات والأماكن في حالة فقد من يحب, وتوضح الأسطر الشعرية التالية انه اذما تقرب والتقى المحبوب فستتغير حالته بدليل القول الأتي:
“فصوتك يملاْ مني الضمير
أشيد من شهده مئذنة”
فبمجرد سماع صوت من أحب تتحول حالة المحبوب إلى نوع من انواع الحب الطاهر العفيف الصوفي المقدس بدلالة كلمة (مئذنة) مما يوحي مكانة هذا المحبوب, وانه مقدس من قبله, وتفضح الأسطر التالية مواصفات هذه المحبوب:
“ووجهك قمح الشتاء الوفير
تهب الطيور لكي تطحنه
فأخبز وسع المحيط رغيفا
واطعم كل الجياع سنة”
فقد خالطت السمرة وجه المحبوب الذي برؤيته يزدهر حتى في البرد النتاج-محصول الشتاء- والمعروف ان كل المحاصيل تقل أو تنعدم في فصل الشتاء اللهم إلا ندرة لكن بأبصار هذا المحبوب تنمو وتخصب وتخضر وتتواجد بوفرة وغزارة, فثمة استعارة لكلمة تهب لحركة الطيور التي تطحن القمح, فالرياح هي من تهب وبشدة كبيرة, ومن هذا القمح يخبز رغيف بوسع المحيط يطعم منه الجياع مدة سنة, وهنا أشارة مجازية تدل على المحبوب الأسمر الذي بمجيئه وبرؤيته يأتي الخير كله فبمجرد لمحه يغتني الفقير والجائع عن حاجته اليومية من الطعام لمدة عام, إذ يصنع لقاؤه الوفرة والاكتفاء بكل شيء في حين انه لا يوجد رغيف بهذا الحجم كما لا يوجد من يطعم كل الجياع ثلاث مئة وخمسة وستون يوما, وهنا تأكيد على قدسية الحبيب؛ لان من يطعم الفقراء هو الخالق وحده, وكذلك توحي انه في حالة رؤيته يتحقق عنده نوعا من الثراء والرفاهية عن كل الحاجات الدنيوية والمعنوية, فالمحبوب هنا ذو دلالة مقدسة لديه, وكذلك ثمة أشارة تعجيز بهذا اللقاء الذي اذما تحقق سيوفر المعجزات من وفرة القمح, ونموه في الشتاء, ورغيف الخبز العظيم, وإطعام الجياع, والقضاء على فقرهم, وكذلك يدل النص على انه لم يلتقي بهذا المحبوب, وان هذه كلها آمال وأحلام يتمنى تحقيقها بهذا اللقاء المرتقب الذي يتوقه ويتمناه, ولم يتحقق بدلالة الأسطر الشعرية التالية :
“فأين رحلت؟
وكيف تغيب
ومن تنتقيه لتستأذنه؟”
فهنا أسئلة استفهامية كثيرة تستفهم هذا الرحيل القسري, والغياب الذي لا ينتقي سوى الأعز على أرواحنا, وهذا الغياب المفاجئ الذي يباغتنا دون استئذان, وان هذا الاستتار والاحتجاب غيب كل معالم الفرح والحبور بحياته
“وأنت اخضرار وماء وشمس
ومنك النخيل اصطفى معدنه
أيعني غيابك ان قد قتلت
وحاشا
إذ الموت ما أجبنه”
وتشير هذه الأسطر الشعرية ان من غيب هذا الحبيب هو شيء خارج عن الإرادة ربما –الموت- وبهذا الغياب فقدت كل معالم النمو المتمثل بالاخضرار والماء والنور ولمعان النخيل, كما توحي ان المحبوب قد غاب بطريقة قد تكون قسرية –كالاغتيال- او بطريقة لا تختلف عن الإبادة والهلاك في أثرها النفسي لديه بدليل كلمة (قد قتلت) وينفي عنه هذه الصفة بنفس الأسلوب القدسي (وحاشا) ويسب وينتقد الموت ثم يرسم الشاعر عدة سيناريوهات لهذا الغياب المتحجر
“إذا جيء بالسيف كي يذبحوك
ستنمو على حده سوسنه
فيغدو لها السيف ثوب زفاف
وتهوي لنحرك كي تحضنه”
فيصف إذا كان القتل بالسيف فستنمو لهذا القاطع زهرة بعد ملامسته لجسد المحبوب الطاهر, ويشبهه بثوب الزفاف إشارة منه إلى ان هذا المحبوب قد يكون بسن الزواج, وربما غيبه الاستشهاد بمعركة او دفاعه ضد المحتلين, وهو بعمر الزواج, ومن عادات وتقاليد المجتمع العراقي ان من يستشهد, ولم يتزوج ان يحتفى به كعريس ويغطى نعشه بفراش عرس جديد ابيض ناصع, او ممكن ان من أحبه تزوج من أخر وغيب عنه, فيكون السيف بمثابة الطرف الأخر الذي اختطف المحبوب فأضحى كالميت لدى الشاعر الذي يشبه من غيب محبوبة بالسيف الذي نحر المحبوب وقتله أيضا, فتتعدد أشكال الغياب والزوال, والنتيجة واحدة هي البعد عن هذا المحبوب, الذي يصور له الشاعر طريقة أخرى للاحتجاب
“وان زار صدرك سيل الرصاص
ستتخذ القلب مستوطنه”
فيصور هنا سيناريو اخر لهذا التواري والغياب الابدي, باستعارة زيارة الرصاص الذي اذما حل فانه سيستوطن القلب, فهذا السيل سيتخذ من القلب مستوطن ليس فقط لمن أحب بل له بالدرجة الأساس؛ ولان الرصاص يميت ونادرا ما يتمكن من يصاب به من العيش يؤكد شاعرنا على ان هذا الرصاص استوطن القلب اشارة منه ان لا رجوع لهذا الحبيب الذي فني بأبشع طرق الغياب القسري, ويروي الشاعر رواية أخرى للزوال:
“ولو جيء بالنار..حبل حريق
وشدوا عيون بالأدخنة
لشق السماء ملاك بجيش
غيوم الربيع له أحصنة
وحلق فوقك شرقا وغربا
وصلى على روحك المؤمنة
بلاطك يمتد في كل قلب
وتحرس أبوابك الألسنة”
فالغياب كالنار التي تعمي الابصار من شدة أدخنتها والهبتها المتصاعدة, والتي لا يرى باستتارها اي شخص أخر, فيصف انه اذما حدثت كل هذه القصص التي افترضت للموت السيف, والرصاص, والنار, فان النتيجة هي واحدة تتعدد الطرق والأفول والفقد والتوجع واحد, ليصور الشاعر أثار هذا الانقطاع, وما يتركه في النفس من خصائص بدءا بانشقاق السماء مؤكدا على ان المحبوب مقدس لديه بدلالة الملاك الذي سيحشد الجيوش نادبا هذا المغيب راكبا خيول أسطورية تشيه بيغاسوس (الحصان المجنح) الطائر الذي سيحلق شرقا وغربا يروح ويجيء من هول فجعة الاحتجاب ولا يعلم ماذا يفعل, مرورا بهذه الحشود التي عندما تهدئ وتحس بأثر الغروب لا يكون أمهامها شيء سوى الدعاء والصلاة على هذه الوحشة التي سيبقى أثرها صلبا بنفسه, وأخيرا يصور هذا البعد ويشبهه بالبلاط أو الحجر الصلب الذي يفترش داخله, ولن يكسره أو يمحوه شيء كما يوحي انه دفن هذا الحب ببلاط داخله وسيحرسه لسانه ربما من البوح به والاكتفاء فيه ذكرى في خياله, فالدلالة من هذه القصيدة هي الانتظار حتى لو بذكرى تأتي له على شكل طيف, وكما هو مأثور فالشاعر يطبق مقولة (أنا أفضل ان احتفظ بذكرى جميلة حسنة حتى لو كانت غير واقعية أحسن من ان أنكد على عقلي وقلبي وذاكرتي بحقيقة مؤلمة سيئة كنت قد عايشتها في الواقع), فالغائب لن يعود حتى ان بذل, وفتش, وتحرى, وبات كالمصباح الذي يفتش عن ضالته التي اعد لها قلبه مسكنا, وان بهذا الغياب لا قيمة لكل ما حوله من أماكن, وذكريات دون وجود هذا الحبيب معه, فصوته الجميل يملئ غابات عقله, وضميره فهذا المحبوب متغلغل لديه بدليل لفظة أثثت قلبي, ومني الضمير, واخضرار, وشمس, وماء فهو يملك قلبه وعقله فضلا عن انه مقدس حتى بصوته, إذ يشبهه بالمئذنة, وهنا صورة المعية تنطوي على ان من احب هو شيء عظيم وذو طابع قدسي هو كالدين للمسلم فان المئذنة تنادي للصلوات الخمس يوميا فهي تنير للمسلم دربة, وتنذر بلقاء الخالق بأوقات معينة كذلك المحبوب ينير درب حبيبه بصوته وبكل شيء, وان بغياب هذا الصوت يصبح دون أمل ودون مرشد, هذا في حال سماع الصوت, اما في حال الرؤية فيتولد الشغف, والحماس, والشجاعة, وتحمل الصعاب, وعمل المستحيلات, والمعجزات, فهو كل شيء جميل, وقد فقد واستتر, وقد آلم هذا الغياب نفسه التي أضحت معذبة جراء هذا التيه, ومع ذلك لا يزال يتطلع وينتظر املا بالعودة ولو بطيف, أو بذكرى, أو سماع صوت, فقد اجتمعت فنون البديع البلاغية المختلفة وعملت معا من اجل تشكيل صورة تحمل دلالة الفقد الذي قد يعود باشكال أخرى ومختلفة.
د.زينب ميثم علي
[1] نخيل على ضفة القلب, فائز الشرع, دار الشؤون الثقافية العامة, ط1, بغداد 2011 :21-23.