لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة تنعكس فيها ملامح المجتمعات وثقافاتها، لكنها في الوقت ذاته باتت سلاحًا ذا حدين؛ ففي حين يُفترض أن تُستخدم لتعزيز القيم، والتعليم، والتواصل الإيجابي، تحولت للأسف إلى وسيلة لنشر الرذيلة والانحلال الأخلاقي. هذه الظاهرة تفشت إلى درجة خطيرة، حيث أصبح البعض على استعداد للتنازل عن المبادئ والقيم الأساسية من أجل كسب الشهرة، أو تحقيق مشاهدات عالية، أو الركض خلف ما يُعرف بـ”الترند”.
انعدام الغيرة وانهيار القيم
لم تعد الغيرة على الدين أو العرض ،أو المبادئ أمرًا يُرى بوضوح في كثير من المحتويات التي تُنشر على مواقع التواصل. بعض الرجال باتوا يقدمون زوجاتهم، أو أخواتهم ،أو حتى بناتهم ،في مقاطع فيديو هدفها الوحيد تحقيق مشاهدات وتفاعلات. هذه اللايفات التي لا تقدم فائدة تُذكر، تعكس حالة من الانحطاط، حيث يتم استغلال العرض واختزال كرامة المرأة في مادة للعرض التجاري.
الخطورة هنا لا تتوقف فقط على نشر محتوى تافه، بل تمتد لتشويه القيم الأساسية في المجتمع. هذه الظاهرة تقوض الروابط الاجتماعية، وتجعل من العرض والشرف أدوات تسويق، مما يؤدي إلى اختلال التوازن الأخلاقي.
المتاجرة بالأخلاق: سوق نخاسة حديثة
المشكلة الأكثر خطورة تكمن في تسليع الأخلاق والمتاجرة بها. لقد تحولت مواقع التواصل إلى ما يُشبه سوق النخاسة الحديث، حيث يتم تقديم المرأة كوسيلة لتحقيق الربح، وليس كإنسانة لها كرامة وحقوق. ظاهرة “زنا المحارم” في الفيديوهات المنتشرة، والتي غالبًا ما تكون مختلقة لتحقيق الترند، تعد واحدة من أبشع الأمثلة. هذا النوع من المحتوى يتلاعب بعقول الناس، ويهدف للتطبيع مع الرذيلة والتعايش معها كأنها جزء من الثقافة اليومية.
التطبيع مع هذه الظواهر الخطيرة يجعل منها جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الرقمية، حيث يتلاشى الخط الفاصل بين الصواب والخطأ، ويصبح كل شيء مباحًا طالما أنه يجلب المال أو الشهرة.
ركوب الترند بأي ثمن
الترند أصبح آفة العصر، يدفع الناس إلى السعي وراء الشهرة بأي وسيلة كانت. لا يهم إن كانت الوسيلة أخلاقية أم لا، طالما أنها تجلب المشاهدات. هذا الانجراف وراء الترند قاد إلى تزييف القيم، وجعل المبدأ الوحيد الذي يُحكم به على نجاح المحتوى هو عدد المشاهدات والإعجابات، والذي تشجعه بكل أسف بعض المحطات الإعلامية ان لم نقل قدمت فيه القدوة السيئة .
من الأمثلة الصارخة على ذلك، فيديوهات تُظهر مواقف مختلقة أو مصطنعة تهدف فقط إلى إثارة الجدل. قد تصل الأمور إلى حد افتعال مشاهد تمس الكرامة الإنسانية أو تتعارض مع القيم الدينية والاجتماعية. هذا السعي المحموم وراء الترند يشير إلى أزمة عميقة في فهم الغاية من التكنولوجيا.
ثقافة “المعاطية” وانتشارها
“المعاطية”، أي السلوكيات السطحية أو التافهة، أصبحت سمة بارزة في عالم الإنترنت العربي. فقد ظهرت فيديوهات لا تقدم أي محتوى حقيقي أو فائدة، لكنها تحظى بملايين المشاهدات. هذا الانتشار يعود إلى استهداف فئات معينة من المشاهدين بمحتوى سطحي أو مثير للجدل، مما يؤدي إلى تسطيح الوعي العام ،وربما الهدف منها تعزيز البلادة الفكرية وترسيخ التفاهة بدل الجدية للاساءة أكثر للدول العربية المسلمة.
ثقافة “المعاطية” ليست فقط نتيجة لغياب المحتوى الجاد، بل هي انعكاس مباشر لانهيار المعايير الاجتماعية والثقافية. انتشار مثل هذه الثقافة يجعل من الصعب على المحتوى الجيد أن ينافس، حيث يتم تهميشه لصالح الترفيه الفارغ.
دور الجمهور في تفاقم المشكلة
المسؤولية لا تقع فقط على صناع المحتوى، بل أيضًا على الجمهور الذي يُقبل على مثل هذه الفيديوهات. فالاهتمام بهذا النوع من المحتوى يشجع على استمراره وانتشاره. إن المشاهدات والإعجابات تعطي رسالة لصناع المحتوى بأنهم على الطريق الصحيح، مما يدفعهم إلى إنتاج المزيد من الفيديوهات بنفس النمط.
لكن عن أي جمهور نتكلم أن كان على الجمهور الحقيقي الذي يستوعب مانقول فأغلبه أصيب بالإحباط ،من جراء غزو الجمهور الافتراضي الذي يشن حربا هوجاء على الثقافة العربية الإسلامية .ومع ذلك نوجه كلامنا لها الجمهور الحقيقي مستعينين بقوله تعالى :
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله والله مع الصابرين صدق الله العظيم
إن السلوك الاستهلاكي غير الواعي للمحتوى الرقمي يعزز من تفاقم هذه الظاهرة. الجمهور بحاجة إلى إعادة التفكير في معايير تقييم المحتوى الذي يتابعه، والابتعاد عن دعم ما يسيء للقيم والأخلاق.فكل هذا له آثارسلبية على المجتمع:
.أولا **تآكل القيم الاجتماعية:**بحيث يؤدي انتشار هذه الظواهر إلى تطبيع السلوكيات غير الأخلاقية، مما يضعف القيم التي تقوم عليها المجتمعات.
ثانيا**تفكك العلاقات الأسرية:** فالفيديوهات التي تستغل العلاقات الأسرية لتحقيق مشاهدات تؤدي إلى تدمير الروابط العائلية.
ثالثا **تشويه صورة المجتمعات العربية:** تقديم مثل هذا المحتوى يساهم في تعزيز الصور النمطية السلبية عن المجتمعات العربية والإسلامية.
رابعا **ضياع الوقت والموارد:** بدلًا من استثمار التكنولوجيا في تحقيق تقدم علمي أو اجتماعي، تُهدر الموارد على محتوى فارغ.
من الحلول التي نراها ممكنة ، نشير إلى ضرورة :
**تعزيز الوعي الأخلاقي:** أولا ، إذ يجب أن يكون هناك دور أكبر للمؤسسات الدينية والثقافية في توعية المجتمع بأهمية القيم والمبادئ.
ثانيا **تنظيم المحتوى الرقمي:** يجب وضع قوانين صارمة تُحاسب صناع المحتوى الذين ينشرون فيديوهات تافهة أو مضللة، وتحد من انتشار المحتوى الذي يروج للرذيلة.
ثالثا **تثقيف الجمهور:** توعية الناس بخطورة التفاعل مع هذا النوع من المحتوى، والتأكيد على أن المشاهدات والإعجابات هي ما يُغذي انتشار هذه الظواهر.
رابعا **تعزيز البدائل الإيجابية:** يجب أن تُتاح بدائل محتوى ذات جودة عالية تُشجع على القيم الإيجابية وتقدم فائدة حقيقية للمجتمع.رغم أن هذه البدائل بعضها موجود لكنه همش لصاح هذه المحتويات المثيرة والمستفزة لذوي المبادئ .
خامسا**تعزيز التربية الرقمية:** على الأهل والمدارس أن يعلموا الأطفال كيفية التعامل مع التكنولوجيا بشكل مسؤول، ويزرعوا فيهم القدرة على التمييز بين المحتوى الجيد والسيئ.
سادسا**إطلاق حملات توعوية:** حملات إعلامية ومجتمعية لمكافحة انتشار الرذيلة وتشجيع استخدام وسائل التواصل لنشر القيم والأخلاق.
وختاما لا يسعنا إلا أن نقول ،إن ما نشهده اليوم من تحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات لنشر الرذيلة والانحلال الأخلاقي هو انعكاس لأزمة قيمية عميقة. الحل لا يكمن فقط في انتقاد هذه الظاهرة، بل في العمل الجاد على مواجهتها من خلال التوعية، والتربية، والتنظيم القانوني. علينا جميعًا أن نتحمل مسؤولياتنا في التصدي لهذه الظاهرة، لنضمن لأجيالنا القادمة بيئة رقمية نظيفة ومجتمعًا يحترم القيم والمبادئ الإنسانية. إذا أردنا أن نحافظ على هويتنا الثقافية والأخلاقية، فعلينا أن نكون أكثر وعيًا ومسؤولية تجاه ما نستهلكه وما ننتجه في عالم الإنترنت.
الدكتورة نزهة الماموني