تثير مسألة العبقرية والنبوغ تساؤلات منذ قرون حول ما إذا كانت عبقرية الإنسان فطرية، أي موروثة، أم أنها مكتسبة ويمكن تطويرها من خلال التربية والتعليم. هذه الجدلية تتعلق بجوانب عديدة من حياة البشر، سواء كانت في العلوم أو الفنون أو الرياضة. من بين الأمثلة الشهيرة التي قدمت دعماً لفكرة أن العبقرية يمكن أن تُكتسب، هي تجربة أسرة بولغار المجرية، التي أظهرت كيف يمكن تشكيل العبقرية من خلال التربية المكثفة والتوجيه السليم.
تجربة أسرة بولغار
لازلو بولغار، عالم النفس التربوي المجري، طرح فلسفة تربوية ثورية في كتابه “Nevelj zsenit!” أو “تربية العباقرة”. في هذا الكتاب، ادعى بولغار أن العبقرية ليست موهبة فطرية يولد بها الفرد، بل هي نتاج التربية والتعليم المنهجي والمركّز منذ الصغر. وكان بولغار مقتنعاً بأن أي طفل يمكن أن يصبح عبقرياً إذا تلقى التعليم المناسب والتوجيه المبكر في مجال محدد.
لتطبيق هذه النظرية على أرض الواقع، اتفق بولغار وزوجته كلارا على تربية بناتهم وفق المبادئ التي وضعها في كتابه. ركز بولغار على تعليم بناته لعبة الشطرنج، وذلك ليس فقط لأن الشطرنج هو أحد أكثر الألعاب التي تتطلب تفكيراً استراتيجياً وذكاءً حاداً، ولكن أيضاً لأنه يعتقد أن الشطرنج وسيلة مثالية لاختبار وتطوير الذكاء العقلي. النتيجة كانت مذهلة: جميع بناته الثلاث، سوزان وصوفيا وجوديت، أصبحن لاعبات شطرنج من الطراز العالمي، مع اعتبار جوديت بولغار واحدة من أعظم لاعبي الشطرنج على مر التاريخ، متفوقة حتى على العديد من أبطال الرجال.
العبقرية: نتاج التربية أم موهبة فطرية؟
تجربة أسرة بولغار أثارت جدلاً كبيراً في الأوساط الأكاديمية والتربوية. إذا كانت العبقرية مسألة وراثية بحتة، فإن التربية والتعليم وحدهما لن يكونا كافيين لإنتاج عباقرة. ومع ذلك، تقدم تجربة بولغار دليلاً قوياً على أن التربية والتعليم لهما دور كبير في تحديد مسار العبقرية وتوجيه الفرد نحو التميز.
هناك أمثلة أخرى تدعم هذه الفكرة. العديد من الموسيقيين والفنانين والرياضيين وصلوا إلى قمم الإبداع والتميز من خلال التدريب المكثف والمستمر. عالم النفس السويدي أندريس إريكسون اقترح ما يعرف بـ”قاعدة الـ10,000 ساعة”، والتي تقول إن أي شخص يمكن أن يصبح خبيراً في مجال معين إذا قضى حوالي 10,000 ساعة من التدريب المركز. هذه النظرية تعزز فكرة أن التميز والعبقرية يمكن أن يُكتسبا من خلال الجهد المستمر.
الجانب الفطري للعبقرية
على الرغم من أن تجربة بولغار تقدم دعماً قوياً لفكرة أن العبقرية مكتسبة، إلا أن الجانب الفطري لا يمكن تجاهله بالكامل. هناك من يعتقد أن العوامل الوراثية تلعب دوراً كبيراً في تحديد القدرات العقلية والمواهب الفطرية. الشخص الذي يتمتع بقدرات عقلية مميزة منذ الولادة قد يكون لديه ميزة إضافية عندما يتلقى التربية المناسبة.
في حالة أسرة بولغار، قد يجادل البعض بأن الفتيات قد ورثن بعض القدرات العقلية من والديهن، خاصة أن والدهما كان عالماً نفسياً وأمهن معلمة. لكن من المؤكد أن بدون التربية الصارمة والمنهجية التي تبناها لازلو بولغار، لم تكن هذه القدرات لتظهر بنفس الشكل المذهل.
الخلاصة
تجربة أسرة بولغار تعزز النظرية التي تقول إن العبقرية ليست مجرد هبة إلهية تولد مع الفرد، بل يمكن أن تكون نتاجاً للتربية والتعليم الموجه. بينما قد يكون للعوامل الوراثية دور في تحديد القدرات الأولية للفرد، فإن الجهد المستمر والتوجيه الصحيح يمكن أن يكون لهما تأثير أكبر في تشكيل العبقرية. تجربة بولغار تقدم نموذجاً رائعاً حول كيفية تطوير القدرات العقلية وتحقيق التميز من خلال التعليم المنهجي، مما يفتح آفاقاً جديدة في فهم كيفية تنمية العبقرية وتوجيهها نحو النجاح.
ذ. هشام فرجي